أشراف الحجاز في الوثائق المصرية

(1228 ـ 1256هـ ) (1813 ـ 1840 م)

عبدالحميد البطريق

تعتبر الوثائق المصرية الخاصة بتاريخ الحجاز في الفترة المصرية العثمانية (1228 ـ 1256هـ )(1813 ـ 840 م) من أهم المصادر التي تشرح تاريخ أشراف الحجاز في تلك الفترة بالذات، تلك الوثائق التي لم يستخدمها المؤرخون الذين تعرضوا لتاريخ الأشراف خلال هذه الفترة التي تعرّض أثنائها أمراء مكة من الأشراف لكثير من التغيير في أوضاعهم ومركزهم وامتيازا تهم التقليدية التي تمتعوبها من قبل.

وتنقسم تلك الوثائق إلى قسمين، القسم الأكبر منها مكتوب في الأصل باللغة التركية العثمانية التي تستخدم الحروف العربية، وهي الرسائل أوالمراسيم التي كان محمد علي يبعث بها إلى أمراء مكة أوإلى بعض الشخصيات الهامة من أشراف الحجاز، وكذلك الرسائل التي كان يبعث بها هؤلاء الأشراف إلى القاهرة أوإلى استنابول كما سيرد ذكره.

وقد عنيت الحكومة المصرية منذ عهد الملك فؤاد الأول بجمع الوثائق التركية والعربية الخاصة بتاريخ مصر الحديث، وعلى الأخص ما كان منها يوضًّح عصر محمد علي، وهوعصر يعتبر حقبة هامة في تاريخ العرب الحديث كما هومعروف، وقد كانت دار المحفوظات الملكية – وهوالاسم الذي كانت تعرف به قبل عام 1952 – إدارة كبرى ملحقة بقصر عابدين، يرئسها مدير مختص يعمل تحت أشرافه عدد كبير من الإداريين، وعد لا بأس به من المترجمين الأكفاء الذين كان معظمهم من اصل تركي، ودرسوا اللغة العربية دراسة جيده في الأزهر، ويحضرني الآن بعض أسماء من تولوا ترجمة الوثائق التركية الخاصة بالجزيرة العربية ومراجعة الترجمة على الأصل وأهم أولئك الذين وقَّعوا الترجمة أوراجعوها الشيخ محمد كمال الادهمي، والشيخ محمد إحسان، والشيخ محمد صادق، وكان على رأس المراجعين في ذلك العهد محمود نفعي أفندي، الذي كان يجيد اللغتين العربية والتركية إجادة كاملة، لذلك جائت الترجمة في ظل هذه الإدارة صحيحة صادقة، يوثق بها ويعتمد عليها.

والوثائق الخاصة بأشراف الحجاز محفوظة أما في سجلات (دفاتر) يطلق عليها دفاتر ألمعية، أوفي محافظ خاصة تعرف بمحافظ عابدين، وأغلب الوثائق التي توضح تاريخ الحجاز في تلك الحقبة هي المسجلة في دفاتر ألمعية، أما (محافظ عابدين) فأهميتها في أنها تبين تطور العلاقات بين الباب العالي، ووالي مصر محمد علي، بشأن تضاؤل النفوذ العثماني في الحجاز ومحاولة محمد علي أن يتخذ ما يراه من القرارات والإجراءات دون انتظار التعليمات أوالأوامر التي ترد من الاستانة.

وتحتوي تلك المحافظ على المكاتبات المتبادلة بين الصدر الأعظم ووالي مصر رأساً، أوعن طريق وكيل محمد علي المقيم بالأستانة (قبوكتخدا) والذي كان لسان محمد علي، وممثله لدى الباب العالي، يتلقى منه ما يريد إبلاغه للصدر الأعظم أوالسلطان، ثم يحمل إليه الرد ويبدي بعض الملاحظات باعتباره خبيراً بما قد يخفى على محمد علي من سياسة رجال الباب العالي الذين كانوا يميلون دائماً إلى اتخاذ الحيطة والحذر تجاه ما يجري في الحجاز – ارض الحرمين الشريفين – على يد الوالي الطموح الذي قد يعصف بنفوذ السلطان الذي يعتز بلقب خادم الحرمين، وهم يعلمون تماما مدى أطماع محمد علي التي لا حد لها.

وتحتوي محافظ عابدين أيضا على بعض الرسائل العربية التي كان يرسلها أشراف الحجاز إلى القاهرة في صورة تقارير عن أحوال الحجاز في ذلك العهد أوالتماسات تطلب التحقيق في أمور معينة، أوشكاوى خاصة بمنازعاتهم الداخلية، أومشكلات تخص علاقاتهم بحاكم الحجاز الذي عينه محمد علي محافظاً لمكة، أومطالباتهم بعائدات الأوقاف التي يتنازع عليها الأبناء عند وفاة والدهم.

أما دفاتر المعية فهي كثيرة، وبها وثائق عديدة تضيف كثيرا من المعلومات عن تاريخ الأشراف في الفترة التي نحن بصددها، وهي فترة امتدت ربع قرن تقريباً. وتحتوي على رسائل كان يبعث بها محمد علي إلى ابن أخته أحمد باشا يكن الذي عينه حاكما على الحجاز ومحافظاً لمكة في نفس الوقت، ومكاتبات أخرى من أحمد باشا يكن إلى القاهرة تختص بأحوال الأشراف واتصالاتهم بحكومة الحجاز وعلاقاتهم بالشريف أمير مكة ونشاطهم في خدمة الحكومة ونظامها الجديد، ومن الوثائق الهامة المحفوظة في دفاتر ألمعية الرسائل التي كان محمد علي يوجهها باللغة العربية إلى شريف مكة تارة، وإلى غيره من الأشراف تارة أخرى وتعليماته الخاصة بمرتباتهم ومخصصاتهم، والمراسيم الخاصة التي كان يصدرها بتعيين بعض الأشراف في مناصب حكومية في الحجاز.

وتعتبر الفترة المصرية العثمانية (1228 ـ 1256هـ) من حيث تاريخ الأشراف من الفترات التي لم يبحثها المؤرخون في وضوح وموضوعية، وحتى الرحالة الذين زاروا الجزيرة خلال هذه الفترة لم يهتموا اهتماما علمياً بوضع الأشراف وتطور علاقاتهم بحكومة الحجاز التي أقامها محمد علي بعد عزل أمير مكة الشريف غالب، وذلك بسبب عدم إطلاعهم على الوثائق المصرية.

أن من يدرس تاريخ الأشراف قبل هذه الفترة يتبين له مدى ما كان يتمتع به أمير مكة منهم من جاه وسلطان وثروة، ولذلك امتلأ تاريخهم في العهد العثماني بكثرة المنازعات والخلافات فيما بينهم على ذلك المنصب، وكانوا في سبيل الأمارة يستعينون بأمراء الحج الشامي أوالمصري لتزكيتهم. حتى إذا ظفر احدهم بالمنصب، كان أول ما يسعى إليه أن يخلق لنفسه شخصية مستقلة عن الباب العالي وعن والي جدة ممثل السلطان في الحجاز وجمع الأنصار من بقية الأشراف حوله، واضطهاد منافسيه منهم.

محمد علي باشا

ولعل أهدا فترة في تاريخ مكة هي الفترة التي تولى فيها الأمارة الشريف (سرور بن مساعد)(1186 - 1201هـ/ 1772 - 1786م) أما الفترة التي امتلأت بالأحداث الجسام والتطورات ألمثيره في تاريخ أشراف الحجاز فتبدأ بعهد الشريف غالب الذي تولى الأمارة عام 1201 هـ (1786 م) ولعب دوراً خطيرا في عهد الفتح السعودي للحجاز، والحملة التي أرسلها محمد علي والي مصر، وتدل الوثائق المصرية على أنه كان مخادعاً للجانبين. ففي الوقت الذي عفا عنه فاتح مكة الأمير سعود وثبته في منصبه، كان الشريف غالب يراسل محمد علي في القاهرة ويقول له أنه بعد فتح سعود رأى ألا يدخر مالاً ولا بدناً في مخادعته بكل الوسائل، فبينما كنت اظهر له الاتفاق والاتحاد كنت غير مقصر في أنباء حضرة الوزير المشار إليه في رابغ بحركات العدوإلى أن سئم معظم العربان الإقامة والتزمنا سبيل إخافتهم بصورة خفية سرية، وعين سعود ابنه عبد الله قائداً وأحال إليه أمر جميع العربان ووضع في مكة بمعيتنا نفراً من المحافظين الخبثاء، وغداة سفره أوفدت الشيخ أحمد تركي زاده إلى رابغ حيث السر عسكر لكي يتعجل القدوم إلينا.

ويتبين أيضا من الوثائق المتبادلة بين محمد علي والباب العالي وغيرها من الوثائق أن الأول قد رأى استغلال ما جبل عليه الشريف من المكر والخديعة وميله للانضمام إلى الجانب الأقوى فكتب إليه رسالة قال فيها: (لقد نشأت منذ نعومة أظفاري في احضأن الحروب، حاربت اشد الدول قوة وعتادا فقمت بواجبي ضد الإنجليز والفرنسيين في مصر خير قيام، وأفنيت طائفة المماليك المشهورين بالشجاعة والفروسية والذين استعصى أمرهم على الدولة العلية منذ ستين عاما... فلا تتمادى في جهلك ولا تصر على عنادك وثق أنني لووصلت عنوة لفلتت أمارة مكة من يدك، ولعينت فيها أميرا أخر من السلالة، وبذلك سوف تعرض نفسك بنفسك للمذلة والهوان).

ويظهر أن الشريف غالب قد استقر عزمه على الانضواء تحت لواء الحملة القادمة وأن يغدر بالسعوديين الذين عفوا عنه وثبتوه في منصبه، فهويدعي أمامهم أنه سوف يدافع عن (جدة) في الوقت الذي يرسل كاتب ديوانه سرا لاستقبال قائد الحملة المصرية في عرض البحر يحمل معه الماء وبعض المؤن، وطلب من القائد – كما جاء في إحدى الوثائق – (أن تتظاهر الحملة بالحرب بإطلاق المدافع وقذف القنابل، وسنقابلكم بمثل ذلك بالبر).

وعلى الرغم من كل ما كان يتظاهر به الشريف غالب من الإخلاص والولاء إلا أن محمد علي كان يضمر له السوء في مستقبل الأيام، تلك كانت نيته التي صارح بها الباب العالي، ولأنه كما قال عنه في إحدى رسائله (لن يكون مصدر خير ولا إصلاح وأنه ينوي عزله وتعيين شريف أخر أميرا على مكة. ولكنه كان يخفي شعور العداء نحوالشريف غالب لأنه يريد أن يتغلب على بعض الصعاب المحلية عن طريق استخدام نفوذ الشريف على سكان الحجاز.

ولما جاء محمد علي بنفسه إلى الحجاز عام 1228ه (1813م) كان مصمما على عزله وبدا الخلاف يتفاقم بسبب حرمان الشريف من عائدات جمرك جدة التي اعتاد الشريف غالب الاستيلاء عليها. وقد شكا الشريف في البداية من وقوع خلاف بينه وبين محافظ جدة، وطيب محمد علي خاطره ولكنه لم يجبه إلى طلبه، ولما كان الشريف لا يزال معتادا على الكتابة إلى السلطان رأسا، فقد تخطى حكومة الحجاز الجديدة وأرسل يشكوإلى الباب العالي أن العهد الجديد حرمه من نصيبه المقرر له من جمرك جدة، وأرسل الصدر الأعظم إلى محمد علي يستفسر عن شكوى أمير مكة.

ويتبين من الوثائق المتبادلة في هذا الشأن أن محمد علي كان مصرا على تقليص نفوذ الشريف غالب وحرمانه من إيراداته الكبيرة إلى أن تسنح الفرصة لعزله نهائيا، وقد صرح بذلك في الرد على الصدر الأعظم، وأضاف قائلا في رسالته (أن الشرف غالب اشد الناس مكرا وأخطرهم خيانة وأكثرهم غراما بتدبير المؤامرات وأنه عازم على القبض عليه ونفيه).

وقد زادت هذه الشكوى التي أرسلها الشريف إلى القسطنطينية من حقد والي مصر عليه وكراهيته له فقد تخطاه واتجه إلى السلطان وأدرك أنه سيكون عقبة في سبيل تحقيق أطماعه في حكم البلاد. وترينا الوثائق العديدة الخطوات التي اتبعها للتخلص نهائيا من الشريف غالب وتدبير مكيدة له انتهت بالتحفظ عليه عقب حفلة استقبال في قصر طوسون بن محمد علي، واعتذر له طوسون بأن ما يفعله معه أنما هوبأمر شاهاني من السلطان وأن ليس هناك ما يخشاه على حياته لأن أباه سيتوسط له لدى السلطان، ولما وجد الشريف إلا سبيل إلى المقاومة أمر حراسه بالانصراف واستسلم لقدره، واستكتبوه رسالة إلى أبنائه يحضهم على السكون والسلم والإقرار للباشا بالطاعة وفي 1 ذي الحجة 1228 غادر الحجاز إلى القاهرة ثم استقر به المقام أخيرا في سالونيك حيث وافته منيته في صيف عام 1231هـ (1816م).

الشريف يحيى بن سرور:

وبعد التخلص من الشريف غالب تتحدث الوثائق عن التغيرات الجذرية التي طرأت على مركز الشريف أمير مكة، وعلى أوضاع بقية الأشراف، فقد كان والي مصر يقدر مركزهم بين أهل الحجاز نظرا لمكانتهم التي استمدوها من اتصال نسبهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، فرأى أن يحتفظ بهم أمراء على مكة، وموظفين في الدولة كعنصر هام من عناصر الحكم الجديد، إلا أنه كان حريصا على ألا تعود إليهم سلطتهم التي اكتسبوها من قبل في العهود العثمانية السابقة.

وقع اختيار (محمد علي) على (الشريف يحيى بن سرور) ابن أخ الشريف غالب ليكون خلفا لعمه في أمارة مكة، ويتضح من إحدى وثائق عابدين أن يحيى بن سرور كان معروفا لمحمد علي منذ بدء قيام الحملة، فقد كان يكاتبه ويتقرب إليه بجمع الأخبار والمعلومات التي تفيد الحملة. لهذا فضله على أخيه الأكبر الشريف عبدالله بن سرور، وقد أثار هذا التعيين حفيظة أخيه، وقام النزاع بين الأخوين، وكان الأمير الجديد يحيى بن سرور يبلغ أنباء هذا الخلاف إلى القاهرة فتاتي ردود محمد علي إلى الشريف يحيى على شكل نصائح تلفت نظره إلى إتباع سياسة التسامح مع أخيه، وفي الوقت نفسه عين للشريف عبدالله مرتبا شهريا يصرف له باستمرار من خزينة مكة.

وهنا نقف وقفة قصيرة لنلاحظ من خلال الوثائق المتبادلة بين القاهرة والقسطنطينية أن محمد علي كان يتصرف على هواه فيما يخص تعيين الأشراف في منصب الأمارة أوالمناصب الأخرى، فهويختار من يشاء ثم يبلغ الاسم الذي استقر عليه راية إلى الباب العالي ليصدر المرسوم (الشاهاني) بالتعيين، وإذا اقترحت حكومة السلطان اسما أخر لا يروق لمحمد علي فأنه يبعث إلى وكيله المقيم بالقسطنطينية والمفوض من قبله للتحدث باسمه أن يشرح للصدر الأعظم وجهة نظره، وتكون النتيجة دائما تحقيق إرادته، مثال ذلك صدور أمر السلطان بتعيين الشرف عبدالله بن سرور الأنف الذكر أميرا على مكة في الوقت الذي كان تعيين الشريف يحيى بن سرور قد تم فعلا باختيار محمد علي – وعند ذلك كلف وكيله بإبلاغ الباب العالي رسالة جاء فيها: (... وبينما كانت غاية مرادي وقصارى أملي إحالة أمارة مكة المشرفة للشريف عبدالله بن سرور كما جاء في الأمر العالي إذ علم لدي جزما ما ابتلي به المومى إليه من الأطوار الرديئة بحسب طبعه ففوض مسند الأمارة الجليلة لعهدة صاحب السيادة الشريف يحيى أخي الشريف عبدالله بناء على كونه من أهل الصلاح والتقوى والصفوة... الخ).

وجاء في تلك الوثيقة أنه استدعى الشريف عبد الله للإقامة في مصر، ولكنه غادرها فجأة واخذ يتصل برجال السلطان في القسطنطينية لينصروه على أخيه، ويطلب محمد علي من وكيله أن يحث الباب العالي على (عدم الإصغاء لما يتقوله وعدم الاعتبار بما يتفوه به). وقد توالت المراسلات بين الشريف يحيى والقاهرة، بشأن المؤامرات التي يقول أن أخاه يدبرها ضده وضد حكومة الحجاز – والوثائق الخاصة بهذا الموضوع كتبت كلها باللغة العربية، وقد أتضح في إحداها أن الشريف يحيى بن سرور استجاب لنصائح محمد علي بعدم التمادي في النزاع مع أخيه ومحاولة مداراته منعا لإثارة الفتنة بين الأشراف في مكة، ونلاحظ في ردود الشريف يحيى أنه يخاطب محمد علي بكلمات التعظيم والتفخيم، وهويبدأ رسالته هكذا (حضرة صاحب الدولة والعناية والعاطفة الرؤوف بالفقراء عليّ الهمم وجزيل الكرم والدي ذوالشأن والمقام العالي)ثم يستطرد في رسالته قائلا (إنشاء الله سوف لا اقصر في ستر حركات أخي وأطواره القابلة للستر والإخفاء والممكن هضمها بستار المسامحة بمقتضى أمر دولتكم ونصيحتكم قائلا ما مضى مضى وإذا تسبب في الخارج إلى تقول الناس سأقبض عليه حسب الضرورة بمقتضى أمر دولتكم وسأرسله معتقلا مسجوناً إلى فخامتكم لدرء ضرره وأنه رغم التنبيهات التي أعطيت إليه من قبل دولتكم لم يأت لمقابلتي إلى الآن).

وقد اخترت هذه السطور من الوثيقة العربية كنموذج للتغير الذي طرا على مركز الشريف في نظام الحكم الجديد، ومدى التنافس الدامي بين أشراف الحجاز على منصب أمارة مكة حتى بين الأخ وأخيه. كذلك أصبح أمير مكة مقيدا بالأوامر التي ترد إليه من القاهرة، ولم يعد باستطاعته الإثراء عن طريق استغلال منصبه، ولن يستطيع ممارسة التجارة واحتكار السلع والاستيلاء على معظم عائدات جمرك جده كما كان يفعل أسلافه بل أصبح كموظف كبير يحصل على راتب شهري ومخصصات سنوية قدرها محمد علي ووافق عليها السلطان، يصرف بعضها من جمرك جده، ويرسل الباقي من خزينة مصر.

ابراهيم باشا

على أن النظام الجديد قد احتفظ لشريف مكة بمركزه السامي بين الأشراف ليكون وسيلة لفض أي خلافات أونزاع يقوم بينهم ويعفي أحمد باشا يكن حاكم الحجاز من إقحام الحكومة في خلافات داخلية بين الأشراف قد تشغله عن مهمته وتجر المتاعب بغير جدوى ويتمثل ذلك في رسالة بعث بها محمد علي إلى الشريف يحيى يمتدح فيها وساطته بين أشراف العبادلة عندما نشبة فتنة فيما بينهم وقتل فيها عدد من الأشراف فتدخل الشريف يحيى (وأصلح ذات بينهم بحسب قانونهم) فيقول له (علمت هذا فسررت مما ظهر على هذه الصورة بين الأشراف من غيرتكم الذاتية وحميتكم الفطرية فيما أن ذاتكم الهاشمية الحميدة الصفات هي الملجأ الذي يرجع إليه أفراد الأشراف فالأموال أن تتفضلوا فيما بعد صرف الهمة في تهيئة ما يوجب التأليف بينهم من الوسائل المرضية وفي استكمال أمر رفاهة حالهم وهدوء بالهم).

ومع ذلك فقد حرص محمد علي في الوقت نفسه على أن ينزع عن أمير مكة ما كان له أيام الحكم العثماني من سيطرة تامة وتدخل في شؤون الحكم، آذ أصبح الحكم فيد الحاكم الجديد (أحمد باشا يكن) الذي كان ال يجمع بين وظيفته كمحافظ مكة وإدارة البلاد الحجازية كلها. وتوضح الوثائق المتبادلة بين مكة والقاهرة أن امير مكة فقد في نظر الأشراف من مختلف الأسرات ما كان للأمير من سلطان فعلي، ولم تعد كلمته هي العليا كما كانت أيام الشريف غالب ولم يكن الشريف يحيى بن سرور راضيا عما ال إليه مركز الأمارة واستهانة بقية الأشراف به فتوالت رسائل الشكوى التي كان يرسلها إلى القاهرة طالبا التدخل في عصيان الأشراف له واستهتارهم به، ونجد أمثلة كثيرة من هذه الشكاوى معظمها مسجل في دفتر رقم 10 معية تركي – وخشي محمد علي من قيام فتنة أوحروب داخلية بين الأشراف تؤثر على الأمن العام وتشغل بال حكومة الحجاز لذلك أمر محافظ مكة أن يستدعي الأشراف المعروفين ويلفت نظرهم إلى تلافي قيام خلاف بينهم وبين امير مكة. ونستطيع من خلال وثيقتين من وثائق عابدين أن نستشف السياسة التي يتبعها النظام الجديد تجاه الأشراف.

ففي وثيقة بتاريخ 25 صفرسنة 1238هـ (نوفمبر1822) يرسل محمد علي إلى محافظ مكة رسالة نقتطف منها (جاء في الاثني عشر كتابا المرسلة إلينا من حضرة صاحب السيادة الشريف يحيى أمير مكة مع تابعه الحاج حسين اغا أنه بينما الأحوال والنظام المتبع بين أشراف الحجاز يقضي عليهم أن يطيعوه ويراعوا الواجب نحوه فأن بعضهم قد عمد إلى مخالفة ذلك مما أوجب كدره وقد كتب له الرد بما استلزمه الأمر وعنينا باطمئنان قلبه ألا أنه يجب أن تستقدموا إليكم الشرف عبدالله والشريف راجح عواجي، وجميع من حذا حذوهم وأن تلفتونظرهم إلى مقام أمارة الشريف المشار إليه وأن تعرفوهم أن عليهم أن يعتبروه كبير الأشراف وأن يرجعوا إليه في الأمور التي تقع بين الأشراف حسب أمورهم المقررة وأن يراعوا بذلك أواصر المودة... واجتهدوا في الا يسمحوا لأنفسهم أن يأتوا بحركة منافية لمصالحنا...هذا ولما كان بعض الشرفاء الذين يعملون مع الحكومة في بعض الجهات معذورين في اتخاذ الإجراءات التي تستوجبها مهامهم فقد كتب إلى الشريف يحيى بشأن عدم التعرض لهم فراعوا هذه الناحية أيضا وتقيدوا بها في حديثكم مع الشريف).

وعلى الرغم من المحاولات العديدة التي قام بها أحمد باشا في سبيل التوفيق بين الأمير وبقية الأشراف إلا أن كراهيتهم للشريف يحيى وعجزه عن كسب احترامهم جعل الخطب يتفاقم، فقد كان يتدخل في شؤنهم الخاصة وفي وظائفهم المكلفين بها من قبل الحكومة، وكانت الحكومة قد عينت بعضهم أمراء على بعض البلدان أوالمناطق، والبعض الآخر جباة للضرائب، والبعض الآخر كانوا أدلاء في الجيش، وغير ذلك من الوظائف العامة التي لا صلة لها بأمير مكة ولا يريد النظام الجديد أن يكون لديها صلة، وفي الوقت الذي كان محمد علي يحث الأشراف على احترام اميرهم كان يحذر المحافظ من أن يسمح للأمير يحيى أن يتدخل في شؤون وظائفهم.

وتوضح لنا الوثائق المصرية أن محمد علي لم يكن في قرارة نفسه راضيا كل الرضاء عن الشريف يحيى بن سرور ويتبين هذا في رسالة بعث بها إلى أحمد باشا محافظ مكة يقول فيها: يا بني الأعز. أننا نعلم أن الشريف يحيى هذا رجل مجنون، ولكن لأن أخيه الشريف عبدالله لا يمكن الاعتماد عليه، لذا فأننا مرغمون على أن نتمسك بالشريف يحيى للضرورة وعليه لئن كان مجنونا ألا أنه من المستصوب ما دام أميرا لمكة – أن يرجع إليه الأشراف في الأمور التي تقع بينهم وأن يقبلوا يده على نحو ما جرت العادة بينهم في المناسبات بين الفينة والفينة... هذا ولا تدعوا المشار إليه أو سواه يتدخل في أمورنا ومصالحنا).

وهناك حاشية طريفة ألحقت بنفس الرسالة قال فيها (ما دام الشريف المشار إليه على هذه الحالة فإننا نحيل إلى درايتكم أمر مراقبته. وهذا لا يتم إلا بالربت على كتفه بين حين وآخر والضحك في وجهه. ومن الملائم أيضا استعمال نفس الطريق مع الأشراف الذين يحبوننا).

ومما هو جدير بالذكر أن جميع الوثائق الخاصة بالأشراف تدل على أن محمد علي لم يكن يثق في أي واحد منهم فكان يوصي أحمد باشا يكن بمراقبة أولئك الأشراف الذين عينوا أمراء على بعض الجهات ويتضح ذلك من قوله في احد الأوامر الصادرة إليه بتاريخ 9 ذي القعدة 1237هـ (1822م):

(يا بني العزيز، إن طوائف العربان لا تخضع لغير الحاكم القوي وليس للمرونة أي تأثير عليهم. ليس لنا ما نقوله على الأشراف الكرام ولكنهم عاجزون في الأخذ، عاجزون في العطاء ولا يمكنهم والحالة هذه أن يقوموا بأعباء الحكم حسب مقتضيات الوقت).

أما الشريف يحيى بن سرور فقد أصبح مصدر إزعاج لحكومة الحجاز إلى أن حدثت حادثة كانت السبب في عزله من الإمارة وإنهاء عهده، فقد قام خلاف بين ابن أخيه الشريف سرور بن عبدالله وشريف آخر من سدنة الكعبة اسمه الشريف شنبر بسبب ملكية قطعة ارض في قرية (طرفة) بوادي فاطمة وحلول الشريف شنبر وأتباعه الاعتداء على الشريف سرور، فلجأ الأخير إلى عمه امير مكة الذي دعاه سوء تصرفه إلى استدعاء الشريف شنبر (وكان ذلك في 27 شعبان 1242هـ) وانطلق العبيد الموفدون لإحضاره يبحثون عنه إلى أن عثروا عليه في الحرم الشريف، ولكن الشريف شنبر أبى الذهاب معهم، ولما أنبئوا الشريف يحيى بامتناعه عن الحضور أمرهم بقطع رأسه إذا أصر على عدم الامتثال، وفعلا أبى الشريف شنبر الذهاب معهم فقتله العبيد طعنا بالخناجر في داخل الحرم. وصنعت تلك الحادثة – كما تدل الوثائق – نهاية لعهد الشريف يحيى بن سرور كأمير مكة.

إذ أن أحمد باشا محافظ مكة كان يضيق بتصرفات الشريف يحيى ولا يجد ذريعة لإبعاده عن منصبه فلما وصل إليه نبا قتل الشريف شنبر على هذه الصورة الوحشية في داخل الحرم الشريف، أرسل فرقة من الجند تحصر قصره ووجهوا نحوه المدافع من القلعة، وأرسل إليه الشيخ محمد الشيبي أمين مفتاح الكعبة ينصحه بتسليم نفسه تمهيدا لإرساله إلى مصر.

وأمام التهديد باستعمال القوة قبل الأمير أن يسلم نفسه على شرط أن يمهله أحمد باشا ثلاثة أيام وخشي أحمد باشا أن تؤدي هذه المهلة إلى إعطائه الوقت لإثارة الفتنة، ولذلك أمهله إلى الساعة الرابعة من مساء الغد، ولكن تبين أن الشرف يحيى يطلب المهلة لأنه صمم على المقاومة والتجأ إلى قبيلة حرب التي كانت دائماً على استعداد لمقاومة الحكومة.

الصفحة السابقة