السعودية .. والوضع الوطني الخاصّ

هل بيننا ''شعب الله المختار''؟

الخصوصية في المملكة تطرح في العادة كمادة تبرير للعجز والإستبداد. إنّها تستخدم من قبل صنّاع القرار جهلاً أو تجاهلاً في ضديّة مع سنن الكون والحياة، لتقول بأن ما يجري في هذه البلاد أو تلك من تغيرات سلبية أو إيجابية لا علاقة لها بالسعودية ولا شعبها، دون النظر الى المسببات والنتائج. هنا تأتي رسالة صانع القرار السعودي لتقول: المملكة مختلفة، المملكة لها خصوصياتها، شعب المملكة لا يشبه الشعوب الأخرى. والنقاش هنا يتخذ صفة العمومية والتعمية في آن، بقصد صرف الأنظار عن إجراء المقارنات التي هي من أولى أبجديات العلم، ولتقطع على الجمهور تساؤلاته المتكررة كلّما لاحظ تشابه الظروف والأسباب. لماذا تختلف العائلة المالكة في السعودية عن نظيراتها في الدول المجاورة مثلاً؟ ولماذا لم يحدث التغيير السياسي المنشود مثلما حدث لدى غيرنا؟ ولماذا توجد لدينا مشاكل إقتصادية مستوطنة ومنذرة بالعنف، ولا توجد عند من هم أقلّ غنىً منّا؟ ولماذا وجد التطرّف الديني ضالته بيننا؟ ولماذا لدينا إعلامان: رسمي هزيل في الداخل ومفسد في الخارج؟ هذه الأسئلة وغيرها لها إجابة واحدة في القاموس الرسمي: نحن غير؟

و (نحن غير) تعكس شعوراً بالتميّز عن الآخرين والترفّع عليهم (شعوباً ودولاً) بالرغم أنه لا توجد أسباب موضوعية أو دينية تدعو الى ذلك. فإذا كان (الغنى) مدعاة للتعالي، فوضع المملكة الإقتصادي كدولة لا يدعو إلاّ الى الرثاء، وما تقدّمه الحكومة من خدمات إجتماعية (صحية وتعليمية ووظيفية وغيرها) وصلت الى الحضيض، في حين أن شعبها لا يتمتع بما يتمتّع به آخرون من شعوب مجاورة بعد أن انخفض دخل الفرد من 22 ألف دولار سنوياً في الثمانينات الى نحو 6 آلاف دولار الآن.

ربما يوجد بين بعض السعوديين من يعتقد بأن (الدين/ المذهب) سبب في التعالي، فالمذهبية السلفية الطاغية صنّفت أتباعها ومنذ وقت مبكر بأنهم المسلمون حقاً ودونهم كفّار، ولذا تكثر عبارات (الإسلام الصحيح) (والدعوة الصحيحة) في وصف الذات، كما يُقذف الآخر بعبارات التفسيق والتشريك والتكفير. لا تجد هذه الروح بين الحجازيين وهم الأقرب الى الديار المقدسة، ولا لدى غيرهم من أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى والذين لا يصنّفون في دائرة (الأنا المسلم) بل في دائرة (الغير). ومع أن الإسلام يفرض السواسية لا التعالي، فإنه لدى السلفية يؤدي عكس دوره تماماً، وقد كان هذا حالها حتى قبل ان تستولي على الحجاز وتنال شرف خدمة الديار المقدسة.

والعائلة المالكة، لا ترى نفسها مجرد عائلة من العوائل، بل تفخر بمنبتها المناطقي (رغم أنها ليست أفضل ولا أشرف بقاع الأرض) وأحياناً بأصولها القبلية (وهي ليست حسب التصنيف القبلي من أشرف الأصول، رغم أنه ميزان معتلّ وباطل) وبحجم الأراضي التي تحكمها قبل أن تهبط عليها نعمة النفط فتزيدها استعلاءً وعلواً. ومع أنها تعتقد بأنها تحمل رسالة (الإسلام الصحيح) الى كل العالم، فإن ذلك لا يقترب الى التطبيق والممارسة الشخصية، وفوق هذا فإن الفكر السلفي المتطرف أصبح ظاهرة مرضيّة مزمنة تنبّه البعض إليها متأخراً بعد أحداث سبتمبر 2001م، وصناع القرار يشعرون اليوم ان ما اعتقدوه تميّزاً في الماضي، ليس مقبولاً حتى داخل السعودية نفسها، فما بالك بخارجها؟

(نحن غير) ظاهرة مرضية مستوطنة، لها امتدادات نفسية وانعكاسات على سلوك الفرد والدولة في علاقاته وعلاقتها مع الأفراد والجماعات والدول. ربما كان ذاك سبباً في الجفاء الذي يظهر للعلن أحياناً بين آل سعود ونظرائهم في الخليج، وحتى في الأردن والمغرب. ولعلّ هذه الحالة انعكست بصورة من الصور على مناهج التربية الوطنية حديثة العهد، وعلى الخطاب الإعلامي الرسمي الذي يستخدم دائماً مفردات المديح في أقصاها: الأحسن، الأفضل، الأجمل، الأعلى، الأكثر تفوقاً، ويصم المختلف بعبارات تؤدي الى ذات الإعتزاز الكاذب: الحاسدين، الحاقدين، وغير ذلك!

بل ظهر ما يشبه الوطنيّة الكاذبة التي تسعى الى حشد الشارع وراء العائلة المالكة، وخير من عبّر عن ذلك خالد الفيصل في بيت شعر شهير:

غيرك ينقص وأنتَ تزودي

غيرك ينقص وأنتَ تزودي

وحالة الإستعلاء تمارس ضدّ الآخر الخارجي، والآخر الداخلي، أي في علاقات الشرائح الإجتماعية بعضها ببعض، وبين العائلة المالكة وشعبها، وقد انعكس هذا على ممارساتها وسياساتها الداخلية.. وفي موضوع الإصلاح ينظر الأمراء بصدق الى أن المطالب الشعبية بالإصلاح السياسي والمشاركة في الحكم، على أنها مطالب غير عادلة، لأنها تتعدّى على حقوقهم الخاصة.

خصائص مزعومة للمجتمع السعودي

وانتقل الأمر الى التعليم (مناهج التربية الوطنية) حيث تلقن الأجيال على نزعة وطنيّة كاذبة وتفرد الصفحات لتوضيح خصائص المجتمع السعودي على النحو التالي (انظر كتاب التربية الوطنية، وزارة المعارف، الأول متوسط، 1998، تأليف: حماد بن حمد النمي، وعبدالله بن ناجي آل مبارك، وإبراهيم بن عبد الله الحميدان):

ـ فهناك زعم بأن المملكة وحدها (تطبق الشريعة الإسلامية) ومعلوم أن الحكومة متهمة في عقر دارها بعدم تطبيق الشريعة، فضلاً عن أن دولاً أخرى تزعم الأمر ذاته (إيران والسودان ونظام طالبان قبل سقوطه).

ـ ومن الخصائص المزعومة للمجتمع السعودي دون غيره وجود (نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). فالمملكة ''الدولة الإسلامية الوحيدة التي تنفرد بوجود جهاز تابع للدولة مهمته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر''. وهذه في الأصل ليست ميزة، ولا أدلّ على ذلك ما يثيره وجود وممارسات مثل هذا الجهاز من جدل محتدم منذ سنوات طويلة بين المواطنين السعوديين. وفضلاً عن ذلك، ليست المملكة الوحيدة التي لها جهاز تابع للدولة، فماليزيا وإيران ومعهما نظام حكم طالبان لديها أجهزة وبنفس الإسم، وتتعرض لذات النقد.

ـ ومن خصائص المجتمع السعودي الغريبة والعجيبة: استخدام التقويم الهجري! والأعجب منها خاصية ''التواصل بين الحاكم والمحكوم'' عبر سياسة الباب المفتوح!! ورغم أن هذه ليست مديحاً في جوهرها وليست مفيدة إلاّ في الإعلام وليس لها علاقة بالإصلاح والصلاح، فإن بعض الدول المجاورة تمارسها. وفي حين أن لدى تلك الدول برلمانات وحريات معقولة، فإنها هنا في المملكة توضع كبديل عن الإنتخابات ومجالس الشورى الحقيقية.

ـ وهناك أيضاً من الخصائص: منع الإختلاط في التعليم، ومحاربة البدع والخرافات كمحاربة الأعياد غير الشرعية (المولد النبوي، والعيد الوطني) وكذلك محاربة السحر، ومحاربة ''أصحاب البدع والخرافات'' داخل البلاد حيث ''حرصت الدولة'' على فعل ذلك في ''كافة الأماكن والأزمان مما ساعد على اختفائهم''. وأصحاب البدع والخرافات لا يعدو أن يكونوا (غير الوهابيين) من مواطنين وغيرهم. فهل هذه خاصية وهل هذا منهج تربية (وطنية)؟

ـ وانظر الى هذه الخاصية التي لا يتمتع بها شعب غير الشعب السعودي: إنها (الوحدة والترابط بين أبناء الوطن) ''حيث صارت العقيدة هي الرباط الوثيق الذي يجمع بين أبناء هذا الوطن بجانب اللغة والعادات والتقاليد''! فكل الشعوب مفككة عدا شعبنا، والحقيقة أنه لا يوجد شعب مفكك من الداخل في العالم العربي (عدا نموذجين أو ثلاثة) مثل الشعب السعودي، ولا شيء ينخر في وحدته إلاّ (العقيدة) هذه، والتي تعني (العقيدة الوهابية) والتي لا يمزّق السعوديين كشعب بمثل ما تفعل هي اليوم.

ـ ومن الخصائص: أن المجتمع السعودي له عادات وتقاليد خاصة به، وهنا تُستعار عبارات تاريخ ما قبل الإسلام حتى مثل: ''الكرم والنجدة وإغاثة الملهوف ومناصرة الضعيف''! فهل الشعب السعودي هكذا، وشعوب العالم الأخرى غير ذلك؟

ـ وأخيراً هناك خاصية أخرى وهي أنه لا توجد في المملكة سوى الأعياد الإسلامية (عيد الفطر والأضحى)!

وكما هو واضح فإن هذه الخصائص إمّا مدّعاة مزعومة تفترض تحققها في شعب المملكة، وغيابها عن المجتمعات الأخرى، أو أنها في جملتها لا تعدّ ميزة، ووجودها مضرّة ومشكلة، ويدور حولها خلاف واسع وشديد الحدّة بين أفراد المجتمع.

تنميط التصوّر ضد الآخر

نحن لسنا ''شعب الله المختار'' مع أن كثيراً من الجماعات الأثنية والدينية تعتقد أنها كذلك وتمارسه بالفعل. ليس اليهود وحدهم في هذا المضمار، الإنجليز والألمان كانوا يعتقدون ذلك في أنفسهم في حقب تاريخية سابقة. و عبارة ''شعب الله المختار'' تحقّق أغراض مختلفة بالنسبة للجماعات، فأول ما ترسّخه عند الأتباع هو الشعور المغالى فيه بالتفوّق العرقي أو الديني (الإنتداب الإلهي للقيام بمهمّة إصلاحية ما على الأرض)، وهذا يفترض بأنّ ما لدى (نحن) أرقى مما لدى (هم) من معارف دينية ودنيوية، ويجرّ هذا الى إدّعاء تملّك (الحقيقة) التي لم يكتشفها الآخرون، أو الذين لا يريدون الإعتراف بأنها الحقيقة الكبرى، فينبغي إقناعهم بها أو معاقبتهم من أجلها.

ويستبطن الشعور بالتفوّق والتميّز عن (الآخر/ هم) استصغار ما لديهم، واحتقار ما عندهم، وتقزيم المفاهيم الكليّة الإنسانيّة بحيث لا تعود تشملهم، ومنها الإعتراف بإنسانيتهم كنظراء في الخلقة البشرية، واستسهال التعدّي على حقوقهم (لأن الله خلقهم أذلاّء) ويجب أن يكونوا كذلك. فالظلم هنا ليس ظلماً بشرياً، بل هو عدلٌ جاء من السماء، و (نحن) نطبّقه بحقّ (هم). وهكذا تتحوّل الرسالة المدّعاة لنشر الحقيقة الناصعة الواضحة الى (عنصرية) بغيضة تطعن في أصل الرسالة السماوية. وتتحول الأهداف الدينية في ظاهرها الى أهداف (مصلحية) فالله سخّر (هم) لـ (نا) والله عاقب (هم) بـ (نا). أما المفاهيم الدينية فتتحوّل الى أدوات يستخدمها (نحن) ضدّ (هم) ولكن بشكل مقلوب تماماً، فتُقيّد (العدالة) ومصاديقها في (نحن) ويجوز خرقها حين يتعلق الأمر بـ (هم). الكذب لا يجوز بينـ(ـنا) ولكن يجوز عليـ(ـهم) وكذلك في موضوع سرقة المال وإهدار الدم واستباحة العرض.

بالرغم من أحداً في المملكة لا يدّعي أنّه شعب الله المختار، ولكن من حيث الممارسة هناك من يطبّقها ضد (هم) من المواطنين، ومن المسلمين والعرب، فضلاً عن الأجانب غير المسلمين. والخطاب السلفي الرسمي، كما الخطاب الرسمي التعليمي والإعلامي، لا يتجه نحو خلق روح وطنيّة مبنيّة على ثقافة وطنيّة مشتركة ومفاهيم دينية جامعة، وإحساس إنساني هو جوهر الإسلام في المعاملة.. بل ينزع الى تمجيد الذات بناءً على (العقيدة الصحيحة) التي لا يمتلكها (كل) المواطنين بل (بعضهم). وهذا البعض هو بالتحديد من يطبق استتباعات مفهوم (شعب الله المختار)، ومنه انطلق التطرّف والعنف والإقصاء والتكفير والإقصاء بناء على تلك (العقيدة الصحيحة).

هذا (البعض) استُهدف على مدى أكثر من قرنين لتعزيز مشاعر التميّز الديني مترادفاً مع إدّعاء تفوّق عرقي صافٍ. وجاءت الدولة الحديثة فضيّقت مفهوم (نحن) والذي يشمل المواطنين جميعاً، ليكون (نحن) الديني والمناطقي الذي يستضعف البقية ويهتضم حقوقها. لقد أُطلقت الإختلافات من عقالها ضد (الآخر) المواطن قبل الأجنبي، وشكّلت صورته بطريقة جعلها تستمر في نزوعها النمطي ضده، فأصبحت تلك الجماهير المستهدفة غير قادرة على تشكيل رأي شخصي وواقعي عن مواطنين رغم احتكاكهم بهم، يختلف عن الرأي السائد والصورة النمطية. فهذا (الآخر) كافر أو مشرك (وله ذنب أيضاً) وحاقد على الإسلام، ومتآمر مع اليهود.

لكل بلد خصوصية من نوع ما، لكنها لا تخرج عن سنن الكون، ولا تعطي ميزة لأحد ليخرج على هذه السنن، ولا تشفع له بأن يتعالى عنصرياً وطائفياً ومناطقياً. والخصوصية المزعومة في المملكة لا تشفع للعائلة المالكة بأن تؤجل الإصلاحات، ولا أن ترسّم التمايزات المناطقية والمذهبية والثقافية في المملكة، ولا تبرّر العنف والتحقير للآخر في الداخل (المواطن) وفي الخارج (المختلف في البلد والعقيدة).

لتكن لنا خصوصية نفخر بها. رفاه اقتصادي، وهامش واسع من الحرية، وألفة أجتماعية، وعلاقة وطيدة بين الحاكم والمحكوم. ليست خصوصيتنا اليوم إلا في المجال السلبي، في التطرف الفكري، وفي الإستبداد المطلق، وفي الفساد الذي اشتهر حتى بلغ عنان السماء. لنغير هذا لنكون بألف خير.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة