الكلمة الحرة بين الجلاد والقاضي

قراءة في محاكمة الكاتب زهير محمد جميل كتبي

نحن هنا أمام قضية تضاف الى ملف الانتهاكات الصارخة بحقوق الانسان، قضية تتورط فيها أطراف عدة، وتنال أقدس مبدأ ناضل الانسان من أجله تحقيقه والحفاظ عليه وهو حق التعبير عن الرأي. الانتهاك هنا تشترك فيه مؤسسة طالما كان الأمل ببقائها نزيهة، محايدة، مستقلة لا تخضع لابتزازات أهل السلطة ولا لنزوعات الهوى والاعتقاد الخاص، وهي مؤسسة القضاء. وزاد في البلاء أن تتعاقد هذه المؤسسة مع مؤسسة أخرى طالما بقيت القوة المعيقة لاستقلال القضاء كما أنها بقيت المتسبب الأول في انتهاكات حقوق الانسان، وهي وزارة الداخلية.

هذه القضية التي سنحاول عرض بعض جوانبها، تتناول قصة كتاب ''الستر في الاسلام وغلو المحتسب'' لمؤلفه الاستاذ زهير محمد جميل كتبي، الكاتب المعروف من مكة المكرمة. هذا الكتاب أثار جملة التجاوزات المتكررة لرجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا سيما فيما يتعلق منها بالتعدي على خصوصيات الافراد وإنتهاك الحرمات والاعراض بما يشوّه مفهوم الاحتساب ودوره الخيري وتحوّله الى اداة لهتك الاستار وفضح الاسرار وكشف عورات الناس.

نظرة في الدعوى

ان أول ما يلفت الانتباه في الدعوى التي رفعت ضد الكاتب الاستاذ زهير محمد جميل كتبي، أن وزارة الداخلية هي ممثلة الادعاء العام في شخص الرائد محمد بن حسن بن حسين الغامدي، في قضية لها علاقة بتأليف كتاب، أي في قضية رأي وفكر، وليس قضية أمنية لها علاقة بالجرائم في بعديها الفردي او الجماعي.

الملاحظة الثانية، أن الدعوى تنطوي على قضية خطيرة وستكون أشد خطورة فيما لو جرى اعتمادها من قبل قضاة المحكمة الكبرى، وهي قضية سبر النوايا التي على أساسها تقام الدعوى أو يجري إدخالها كعنصر رئيسي في المرافعات القضائية. كقول المدعي العام ''إن هذه العبارة تكفي لإدراك ما ينطوي عليه نفس كاتبها من شطط وانحراف في التصوير تجاه ديننا الحنيف''.

الملاحظة الثالثة، أن مضامين الدعوى تتعارض الى حد كبير مع التفسيرات التي قدّمها المدعي العام، فالأخير أراد إثبات قضية ضد المؤلف هي ليست ضمن مجال اختصاصه.

اجمالاً، فإن الدعوى المقدّمة يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1 ـ أن الكتاب يشتمل على مخالفات وزلاّت متعلقة بأمر العقيدة الاسلامية السمحاء.

2 ـ التطاول على رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3 ـ التجاوز على العاملين في المؤسسات الدينية والقائمين عليها.

4 ـ الايقاع بين رجال الدين والمسؤولين من جهة وبينهم وبين العامة من جهة أخرى.

5 ـ الغمز واللمز تجاه الحكام.

هذه النقاط تلخص مجمل الدعوى المرفوعة ضد الاستاذ كتبي، وهي نقاط تقع خارج مجال اختصاص وزارة الداخلية، وكان يفترض ان يتولى مهمة تمثيل الادعاء العام شخص من هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر او من جهة تابعة للمؤسسة الدينية بوصفها الجهة المتضررة بصورة مباشرة من الكتاب. ومع ذلك سنحاول هنا إعادة قراءة النصوص المعتمدة من قبل المدعي العام لاثبات قضيته.

يحيل المدعي العام لاثبات مخالفة كتبي للعقيدة الاسلامية الى الصفحة العاشرة من الكتاب حيث جاء فيها ما نصه: ''إننا نفرق في نماذج عقيدة من الفكر الأرعن ولم نكن قادرين على إيجاد منظور فكري مناسب ينير زماننا ويساعدنا على تطبيق معاملاتنا الاسلامية بطرق أكثر منطقية وانسانية..''. فهم المدعي العام من هذا النص بأن كتبي يرمي ''للتشكيك في أصل عقيدتنا السمحاء ومطالبة بالاستعاضة عنها بمنظور فكري لزعمه بأننا إن لم نقم بهذا الجهر (يقصد العمل الفكري ـ تفسير المدعي) سنتعرض للفشل في الارتقاء بمفاهيمنا وقيمنا الاسلامية الى مستويات تحديات العصر''.

وفي واقع الأمر ان النص المحال اليه في مؤلف الاستاذ كتبي لا يشير سوى الى انفصام النص والممارسة في الاطار الديني، أي عدم القدرة على استيعاب أبعاد ومقاصد النص الديني بدرجة تعين على تحقيق أداء أفضل للمعاملات الاسلامية. هذا النص لا يقع داخل حيز النص كيما يقال ان كتبي تطاول على العقيدة الاسلامية، فهو يمارس لياقته الفكرية في مضمار العقل. وإن أقصى ما يمكن للمدعي أن يحتج به على كتبي أنه قدّم قراءة للنص الديني مخالفة لقراءة المذهب الرسمي للدولة الذي يمثّله المدعي العام وربما قضاة المحكمة الكبرى. وبالتالي فإن القول بمخالفة العقيدة الاسلامية يجب تصحيحه ووضعه في كلمات ذات دلالة دقيقة ومحددة وهو مخالفة لعقيدة أتباع المذهب الرسمي للدولة، هذا في حال بلغ بنا التنزل الى مستوى القراءة الحرفية او الماورائية للنص.

وصف الاسلام بالايديولوجية في كتاب كتبي هو الآخر يفرض اعادة قراءة ضمن السياق الفكري والبيئة الاجتماعية الذي ظهر فيها، فكتبي هنا يعالج موضوعاً على درجة كبيرة من الحساسية وفيه انطباق على حالة السعودية وكثير من الدول التي ترتكز على ايديولوجية دينية. وبخلاف تعريف المدعي العام الذي اعتبر وصف كتبي للاسلام بالأيديولوجية بأنه ''يطلق على كل فكر من إنتاج البشر''، فإن الاسلام بالفعل قد تحوّل الى ايديولوجيا دينية حين يتم توظيفه لأغراض سياسية محددة، وتستغل نصوصه لتبرير ممارسات سياسية واجتماعية معينة، وتفبرك تفسيرات للنص الديني لغرض خدمة توجهات وسياسات معينة للدولة، بحيث يفقد النص الأول (الكتاب والسنة) سلطته ونقاوته لصالح النص الثاني (اجتهاد العلماء) المتأثر بدوره بمصالح وأغراض التحالف مع أهل الحكم.

نقد رجال الهيئة

الدعوى تضمنت تركيزاً شديداً يكاد يصبغ الجزء الأكبر من المساحة المخصصة للدعوى على نقد الاستاذ كتبي لتصرفات وسلوك رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نقد يجري تداوله شفهياً في الغالب بين العامة.

النقاط التي أوردها المدعي العام حول ما اعتبره ''تجاوزات'' الاستاذ كتبي على رجال الهيئة والمؤسسات الدينية على وجه العموم حول ممارسات المحتسب الخاطئة مثل الغلو والتطرف والتعصب والارتجال والانحراف.

نقل ممثل الادعاء العام الغامدي عن الكتاب ما نصه ''لم يأمر الاسلام بالنهش في الأعراض والتشهير وقذف الناس بقبائح السلوكيات والتفسيق حتى أصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عنواناً للمخازي والفضائح في نظر المجتمع''. ورغم أن الاستاذ كتبي لم يستعلن الجهة المقصودة بهذا النقد الا أن النص يكاد من فرط تداوله بين الناس ان يمثل التعبير الثقافي للكلام العام المشاع بين الناس، فالاستاذ كتبي استعلن او بصورة أدق صاغ وبصورة مكثّفة ما يقوله المواطنون عن رجال الهيئة حيث اختراق الحدود المقررة شرعاً وعرفاً في التعامل مع الحرمات واقتحام البيوت وانتهاك خصوصيات الافراد بطريقة مخزية من قبل رجال الهيئة.

ولا شك ان مقارنته بين نموذجين من الاسلام: اسلام التسامح واسلام الدروشة والسواك والثياب القصيرة هي مقارنة نقدية يراد منها انتقاص ليس ''لما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر السواك وتقصير الثياب'' كما ذهب المدعي العام بل كان الاستاذ كتبي يرمي الى الاشادة بنموذج للاسلام ممثلاً في تسامحه واحتماله للإختلاف، واسلام لا يغدو أكثر من طقوس وممارسات محنّطة مسلوبة المعاني.

والمثير للدهشة بأن زعم المدعي العام بأن ما كتبه الاستاذ كتبي من عبارات ''ظاهرها الاصلاح وباطنها الاثارة ومحاولة الايقاع واشاعة الفتنة في المجتمع وتأليب النفوس بعضها ضد بعض على مختلف المستويات'' يحتمل أكثر من دلالة، ففيه ما يستبطن إقراراً ضمنياً بصحة ما ذهب اليه الاستاذ كتبي ''من مطاردة الشباب وملاحقة النساء في كل زوايا المجتمع''، ولعل في ذلك وجه اعتراض المدعي العام حول ما أشار إليه الأستاذ كتبي من ردود فعل محتملة مثل ''خطر انفجار الشارع العام ضد هذه المؤسسة الدينية المتطرفة''.

وربما يزداد الأمر سوءاً بالنسبة للمدعي العام حين يتقدّم الاستاذ كتبي باقتراح للحيلولة دون تغوّل دور رجال الهيئة ودون احتمالات الصدام مع الشارع كقوله ''لا بد من وضع الخطط الكفيلة بمواجهة هذه المؤسسة الدينية المنتشرة في الشارع الاسلامي والتي تمارس سلوكياتها دون أدنى تدخل من السلطة السياسية والتي أخشى ان ينالها شيء من ممارساتهم في المستقبل بعد أن يشتد عودهم، لأنهم سوف يدخلون مرحلة جديدة تنتقل من القول الى القتل''. وفي هذا النص ما دفع المدعي العام للقول بايقاع الاستاذ كتبي بين رجال الدين والمسؤولين من جهة وبينهم وبين العامة.

ومن أجل تهويل الدعوى وزخمها بأدلة أخرى عاضدة، يعطي المدعي العام مدلولات مخيفة لمصطلح المؤسسة الدينية كما يستعمله الاستاذ كتبي. يقول المدعي العام ''وللاحاطة فإن المؤسسة الدينية في نظر زهير المذكور تعني كل الجهات المسؤولة عن أمور الدين في البلاد الاسلامية وذكر منها هيئة كبار العلماء ومجلس القضاء الاعلى ودار الأزهر في مصر''.

يثير لجوء المدعي العام الى مطالبة الاستاذ كتبي بالحصول على منابر للرأي وفرص متساوية مع المؤسسة الدينية للتمكن من ممارسة الحوار والنقاش والمجادلة مع رجال المؤسسة، كدليل إدانة، وكأن المطالبة تمثل في نظر المدعي جنحة او جريمة يجب ان يعاقب عليها الاستاذ كتبي، وهذا الاعتراض من المدعي العام كفيل بإثبات كل ما قاله كتبي عن العقيدة الرسمية، وهي التي أحالت الاسلام الى عقيدة محتكرة في يد مؤسسة والاسلام الى ايديولوجية للدولة.

هناك جانب آخر من الدعوى لا يقل إساءة لنظام القضاء وتعدّياً صارخاً على حقوق الافراد وفي القلب منها الحقوق الفكرية، وهو خروج الاستاذ كتبي على القيود الصادرة بحقه من أوامر من قبل وزير الداخلية في 11/12/1411 والقاضية ''بمنعه من ممارسة الكتابة في الصحف وتجنب الخوض في أمور السياسة'' ثم بعد مراسلات استعطاف مع الملك عاد الاستاذ الكتبي للتأليف ولكن ما لبث ان منع من الكتابه ثانياً وأخذ عليه تعهد آخر بتاريخ 4/5/1412هـ وذلك ''بالامتناع عن الكتابة والتفرغ لعائلته''. وفي هذا النص ما يثير السخرية حقاً فالامتناع عن الكتابة يمثل بحد ذاته خرقاً للحد الأدنى من حقوق الآدميين، لأن الكتابة فعل عقلي يترجم الجانب الآدمي من الانسان، أما الحاق ذلك بعبارة ''والتفرغ لعائلته'' فهذا مثير للضحك، وكأن الاستاذ كتبي بحاجة لأوامر من ولاة الأمر كيما يتفرغ لعائلته، بل في النص ما يعيب الحكومة حين تطلب من مواطن بالتفرغ لعائلته، ففي ذلك اختراق مفزع من قبل الدولة لخصوصيات الافراد.

الطلب بتجنب الخوض في أمور السياسة هو أمر ينطوي على عقيدة لدى أهل الحكم، يمكن تلخيصها في أن السياسة إحتكار فئة أو وقف ذري لعائلة آل سعود لا يجوز لأفراد غيرها ان يزاحموها فيه.

وفور انتهاء المدعي العام من عرضه لاثبات التهمة الموجهّة الى الاستاذ زهير كتبي أعقبه مطالبة ''بإصدار الحكم الشرعي بحق المذكور.. وإعادته الى جادة الصواب''.

كتبي مدافعاً

بعد استماعه للدعوى، قدّم الاستاذ كتبي رواية مختلفة تنطوي على أبعاد قانونية مهمة ولا شك أن لها تأثيراً مباشراً في طبيعة الدعوى والحكم. التهم المنسوبة الى كتبي حسب ما وردت في نص الدعوى لا ترتقي الى مستوى الدليل القطعي في حال تمت قراءتها مفصولة عن قرائن اخرى، لا سيما كتاباته الاخرى التي تتضمن اشارات كثيرة صالحة للاسقاط على بلده.

تضمن دفاع كتبي نقاطاً كثيرة على درجة كبيرة من الأهمية:

النقطة الاولى: أن العاملين في جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصدق عليهم وصف ''المحتسب'' كما جاء في عنوان الكتاب، وذلك لأن الاحتساب في الاسلام هي وظيفة خيرية لا يرجو صاحبها الحصول على أجر مادي، بينما أعضاء الهيئة في المملكة هم موظفون يتلقون رواتب شهرية محددة ويخضعون لنظام الترقية، شأنهم في ذلك شأن باقي مؤسسات وأجهزة القطاع العام.

النقطة الثانية: أن أركان التهمة ناقصة بخصوص هذا الكتاب، وبالتالي فإن القول بالقذف يعتبر لاغياً لآسباب عدة: أن الكتاب ليس موجّهاً ضد انسان محدد أو دولة محددة، وأن الكتاب لا يحدد مكاناً أو زماناً معينين.

النقطة الثالثة: أن الكتاب يمثل مقاربة اخرى مختلفة لموضوعة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالكاتب يعالج مشكلة لها حضورها في العملية الفقهية، حيث يتطلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواصفات خاصة في المضطلعين بأداء هذه المهمة الخطير وأهمها الحكمة وحسن المعاملة. وبالتالي فهو يمارس ما يراه ومارسه السلف حقاً اصيلاً في فهم النص والاجتهاد في تفسيره استناداً على أصول الفقه.

رواية الاستاذ كتبي تبدأ باعترافه بأنه مؤلف كتاب ''الستر في الاسلام وغلو المحتسب'' وقد طبع في مصر وهذا عنصر مهم في القضية، وحسب الاستاذ كتبي ''وقد طبعت الكتاب في مصر لأنني ممنوع من الكتابة، ومصر أرخص طباعة، وأما منعي من الكتابة وأخذ التعهد عليّ سابقاً فإنني لم أتجاوز ذلك، لأن التعهد كان خاصاً بعدم الكتابة في الصحف، وقد التزمت به فلم أكتب في صحيفة بعد المنع''. فالمنع في أصله يعتبر خرقاً صارخاً لحق الانسان في التعبير، أما أن يسري قرار المنع من منطقة الى مناطق اخرى خارج حدود تطبيق القوانين فذلك يعتبر استهتاراً ساخراً بحقوق الآدميين حيث يشي باستعباد الانسان استعباداً مطلقاً.

ثم إن نفي المؤلف بما نصه ''لم أقصد به هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية وانما أقصد به بعض البلدان العربية والاسلامية ولم تكن المملكة في نيتي أثناء تأليف الكتاب'' فهو نفي يجب أن يؤخذ في الاعتبار، سيما مع استدعاء ما قاله المدعي العام بأن المؤلف عني بالمؤسسات الدينية اضافة الى هيئة كبار العلماء ومجلس القضاء الاعلى دار الازهر في مصر، فإن القول بأنه انما عنى هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حصراً يعتبر خلافاً لما تضمنته الدعوى.

توضيحات الاستاذ كتبي الاخرى تعتبر أشد إفحاماً مما سبق ذكره. فما اعتبره المدعي العام تطاولاً على العقيدة الاسلامية، أظهره كتبي على أنه تفسير لغرض الفصل بين نموذجين من الاسلام: إسلام الجوهر واسلام المظهر. ورغم أن الاستاذ كتبي نفى ان يكون ما قصده بالسواك والثياب المقصّرة هو ذلك السلوك المتبع لدى رجال الهيئة او أتباع المذهب الرسمي للدولة وانما مصر والجزائر والسودان والأردن، فإن ثمة اصراراً من قبل القضاة والمدعي العام سواء بسواء على توجيه نص الاستاذ كتبي الى منطقة محددة ـ المملكة.

القول غير الفصل للقضاء

حين يكون القضاة على طريقة المدعي العام ومذهبه في الاعتقاد، فإن أول ما يثار أمام القضية برمتها وأول خشية تبرز هي النزاهة والحياد القضائي، كل ذلك في ظل غياب نظام للمحاماة يتولى مهمة توفير أسس صلبة للدفاع عن المتهمين.

هيئة المحكمة صادقت على دعوى الادعاء العام وأعادت تأكيد التهمة الموجهة للاستاذ كتبي، فقررت ''أن من الواضح بجلاء أن المقصود بالكتاب هو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمملكة العربية السعودية لأن المؤلف سعودي الجنسية ويتكلم عن بيئته ولا يعرف في البلاد الاسلامية جهاز ديني بهذا الاسم''. الصحيح أن هناك دولاً أخرى بها جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ماليزيا وإيران).

كما أعادت هيئة القضاة ما ورد في دعوى الادعاء العام بخصوص عبارة ''أن الاسلام يخدمه التسامح لا الثياب المقصّرة'' باعتبار أن ''ذلك شناعة وقبحاً لأنه يتضمن إستهزاء وتنقصاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم''.

وختمت الهيئة تقييمها للكتاب بالقول ''حيث أن مجمل الكتاب يتضمن الطعن والاستهزاء برجال الحسبة والطعن فيهم ليس لذواتهم وإنما لما يقومون به من وظيفة شرعية عظيمة''. وعليه وبناء على ما تقدم أصدر القضاء حكمه بسجن الاستاذ كتبي لمدة سنتين، وقد أبلغ بذلك كتابياً في الثامن عشر من ذي الحجة عام 1416 هـ.

المثير في الأمر، أن العقوبة التي أصدرها قضاة المحكمة الكبرى بمكة المكرمة، ورفعت لاحقاً على أساسها أوراق المعاملة الى محكمة التمييز عادت الى المحكمة الكبرى حيث اعتبرت محكمة التمييز بأن الجزاء لا يتناسب مع الجريمة، وطالبت المحكمة بجزاء أشد ''لأن ما كتبه في كتابه فيه إساءة للعقيدة الاسلامية وتنقّص لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ومصادمة لنصوص الكتاب والسنة'' وطالبت محكمة التمييز أعضاء المحكمة الكبرى بـ ''تأمّل ما كتبه ودراسته دراسة عميقة ودراسة خطاب سماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى جزاء الله خيراً المتضمن إيضاح ما انطوت عليه كتابة المدعي عليه ومعاقبته معاقبة تتناسب مع جريمته ويكون فيها الجزاء الرادع..''.

وخشية وقوعه ضحية تهمة الردّة حسب ما أوحت به عبارات أفراد محكمة التمييز، تم احضار الاستاذ كتبي لاستبراء ذمته ودينه مما نسب اليه وقرر لدى قاضي التمييز عبد العزيز الرضيمان في السادس والعشرين من رجب سنة 1417 قائلاً: ''إن كتابتي لم أقصد بها الاستهزاء بالكتاب والسنة وأهل العلم وإنني أستغفر الله وأتوب اليه وحسبنا الله ونعم الوكيل''، وبذلك بقي الحكم الأولي الصادر بحقه على حاله دون تعديل.

هذا نموذج آخر لمصيبة المملكة بجهاز قضائها الفاسد، وبتشدد مؤسستها الدينية، وبتآمر سلطانها السياسي مع الديني لإنتاج أقبح ما يمكن إبداعه في مجال الإستبداد والإستهتار بحياة المواطنين.



إطبع الصفحة الصفحة السابقة