أيها الحجازيون:

صلوا ما انقطع كي لا يغلب عليكم

إضعاف وشائج الصلة والروابط الداخلية بين الافراد والجماعات كان ومازال رهان السلطة على تعزيز نفسها ودرء ما تعتبره خطراً خارجياً يستهدف الانقضاض عليها وسرقة ما تراه حقاً تاريخياً، فتماسك السلطة، إذن، يتوقف بالضرورة على تراخي الروابط وانحلالها.

من الناحية المبدئية، هناك ثمة مجتمعات قادرة على تحدي محاولات الاضعاف والتقطيع للروابط الداخلية فيها من قوى معادية أو منافسة، وتعود هذه القدرة أحياناً الى عوامل ذاتية متصلة بالبنية الداخلية، أي تكون أحياناً نتيجة للتكوين الإثني مثل الأكراد أو البنية الدينية المحكمة مثل الاسماعيلية والدروز، وأحياناً للاحساس الشديد الضراوة بالخطر مثل المجتمع اليهودي. على أن ثمة عوامل أخرى يتم تصنيعها أو بكلمات أدق تحفيزها كيما تتحول الى مصادر توحد، من خلال تنمية وتنشيط المشتركات بين أفراد المجتمع ـ أي مجتمع. فالذاكرة التاريخية الحاضرة في ثقافة الافراد، والتي تلبي جزءاً أساسياً من الاحساس بالهوية، والنشاطات المشتركة والمناسبات والاجتماعية، والرموز الثقافية، وحتى الحرف والتعبيرات الفولوكلورية تمثل جميعها عناصر يتم توظيفها مجتمعة أو متفرقة في بناء وتعزيز شبكة الروابطة الداخلية في المجتمع.

بالنسبة للمجتمع الحجازي، هناك جملة عوامل قابلة فيما لو تمت الافادة منها بصورة صحيحة لتوثيق وشائج الصلة بين أفراده، ولكن ما جرى أن عوامل التشطير والتكسير في روابط الافراد تم استغلالها من قبل الحكومة فيما لم يكن هناك ما يقابلها من عوامل مضادة، أي ما نجح هو تقسيم المجتمع وليس توحيده، والسبب في ذلك أن سياسات السلطة وتدابيرها كانت مكرّسة لاضعاف الصلة بين المدن وبين الجماعات، وجاءت التطورات الاقتصادية كي تمارس فعلاً تدميرياً للبنية الديمغرافية للمجتمع الحجازي، حيث هاجرت مجموعات كبيرة من الوسط والجنوب والشمال باتجاه مدن الحجاز الرئيسية لاسيما مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة، جاء ذلك متزامناً مع خطط الحكومة ومؤسستها الدينية في إحكام قبضتها على الحرمين الشريفين ومجمل النشاط الديني، مما أفضى الى عملية ''تغييب'' للعنصر الحجازي، وفقد الأخير على إثره لونه المذهبي الخاص به، وتراثه الثقافي والأدبي، وحضوره الاجتماعي.

ولم يكن هذا الاقصاء المنظّم يحقق نجاحه لو واجه رفضاً معنوياً وعملياً، من خلال حضور الافراد في تأكيد ثقافتهم وتراثهم ولهجتهم وحتى المطبخ الخاص بهم. لقد دمّرت الحكومة آثاراً عزيزة على المسلمين وعلى المجتمع الحجازي، وكان العالم الاسلامي المتمسك بكل ذرة رمل لها ثمة صلة بصاحب الرسالة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام وبصحابته الأبرار، كان يتطلع لأن يتحول المجتمع الحجازي الى جبهة الدفاع المتقدمة عن ميراث الامة الاسلامية. وإذا ما ربطنا ما تقدم به حديثنا بهذه النقطة فإن تدمير تلك الآثار يعني في المحصلة النهائية تدمير الروابط المشركة بين أفراد المجتمع الحجازي.

إنحلال الروابط الداخلية في المجتمع الحجازي في مقابل التماسك الشديد في بنية السلطة والمجتمع المساند لها يفسر، الى حد كبير، لماذا تكبّد المجتمع الحجازي خسائر في ثقافته وهويته وتاريخه ورموزه. وإن إعادة ترميم هذه الروابط لا يعني سوى العودة الى المدخل الرئيسي لبناء الذات، أي إعادة تأكيد وإشاعة وحماية المشتركات في التراث والثقافة والهوية والعادات والزي واللهجة والأكل. لقد خسر الحجاز مكانته كمركز إشعاع روحي لأنه يدار من غير أهله، وخسر مكانته كمضيف أصلي لحجاج وزوار بيت الله الحرام والحرم النبوي الشريف.

إن ما يلزم التأكيد عليه دائماً أن إستعادة روح وعبق تاريخ وهوية الحجاز تتطلب حضور أهله، حضوراً مسؤولاً وجاداً، إذ لا يكفي مجرد وجود المشاعر الداخلية، أو التمنيات بقدوم المنقذ بل لا بد دائماً من دور يضطلع به كل فرد، فالمسؤولية جماعية لأن المكافأة جماعية أيضاً.

إطبع الصفحة الصفحة السابقة