الوضع السياسي في البلاد وآفاقه المستقبلية

الإصلاح محتمل والديكتاتورية قد تقضي على النظام

قاربت الحرب على العراق على الحسم رغم أن المعارك ـ حتى كتابة هذه السطور ـ لم تنته؛ وتبيّن أن القيادة الديكتاتورية تكسب المعركة أولاً ضد شعبها، لتخسرها بعدئذ ضدّ الأجنبي. فالديكتاتورية لا تحمي أرضاً ولا عرضاً، ولا تهيئ شعباً للدفاع عما يعتقد أنه منجزات وطنية. إنها تهزم المواطن قبل أن يهزمه المستعمر الخارجي بآلته العسكرية الجهنمية. هذه نتيجة متوقعة. وأقصى ما يمكن أن تبلغه الديكتاتورية، لا يعدو انتصارات تكتيكية، ولعلّ الفائدة الأساسية التي نخرج بها من الحرب، هي أن نتأكّد حقّاً من أن أي نظام عربي لا يتصالح مع شعبه، وإن الديكتاتورية أينما حلّت لا تأتي إلا بالكوارث وتسهّل على العدو إقتحام الحصون الداخلية.

وهذا الدرس هو ما نأمل من شعوب وحكام المنطقة أن يستخلصوه من الحرب، قبل أن يحدد الأميركيون هدفاً آخر لهم في المستقبل. المملكة واحدة من ثلاث دول مستهدفة (إضافة الى إيران وسوريا) في مرحلة ما بعد عراق صدام حسين. قد لا يكون الإستهداف عسكرياً بالشكل الذي نشهده في العراق، فالمملكة لا تتحمل ضغطاً عسكرياً، بل أن الضغط السياسي والتهديد بالحرب كافٍ لتغيير مسارها وقلب الأوضاع فيها. ولهذا فالمملكة قبل غيرها أحوج ما تكون الى التحوّل الى نظام سياسي جديد، يمنع حدوث الكوارث في المستقبل.

معالم الوضع السياسي الداخلي في المملكة يمكن رسمها على هذا النحو:

أ ـ وضع سياسي منغلق في ظل دعوات ملحّة لتوسيع الأطر السياسية.

ب ـ سخط إجتماعي عام من العائلة المالكة وسياساتها، والتذمر من فسادها واحتكارها للإقتصاد.

ج ـ معارضة تشتدّ من مختلف الأوساط في المملكة، ومن كافة الشرائح والمناطق، وهذه المعارضة آخذة بالتصاعد، في ظل تضاؤل هيبة النظام بشكل عام.

د ـ خلاف داخل العائلة المالكة لا يعلم حجمه وأثره، ولكنه موجود وقد يتفجّر في أي لحظة.

هـ ـ قلق عند الغربيين، خاصة الأميركيين، من تطور الأوضاع في المملكة بشكل ينذر بالخطر، خوفاً من تنامي ما يسمّى بالعنف والأصوليّة المتشددة، وكذلك خوفاً من غياب النظام القائم دونما وجود بديل واضح. ومن هنا جاءت مبادرة الشراكة التي تدعو الى دمقرطة المنطقة والتي أعلن عنها باول في ديسمبر الماضي، من أجل تحوّل سلمي، ولكن إذا ما فشل فإن المسؤولون السعوديون في الإنصياع لـ (التحول الديمقراطي) فإنهم سيتعرضون لضغط قوي والبحث عن بدائل أخرى كتقسيم المملكة نفسها أو إزاحة العائلة المالكة عن الحكم.

و ـ شعب أصبح أكثر تسيسا مما مضى يصعب تطويعه، وقاعدة دينية منشقّة على النظام، ومشروعية مهتزة شارفت على النضوب.

ز ـ وضع اقتصادي غير مريح مع بطالة متفشية رغم تصاعد المداخيل بسبب ارتفاع أسعار النفط النسبي بسبب الحرب، ويتوقع أن تنخفض الأسعار الى دون معدلاتها الطبيعية بعد أن يستعيد العراق قوته التصديرية خلال السنتين القادمتين. ولهذا فإن أغلب الإحتمالات المستقبلية بشأن الإقتصاد السعودي وقدرته على توفير فرص معيشية وسيولة تمكن النظام من الإستمرار معتمة.

هذه النقاط تشكل ملامح الصورة الحالية للوضع الداخلي للبلاد. وحتى هذه اللحظة لم يقدم النظام على سياسة ذات نفع تحدث تطوراً جوهرياً لحلحلة المشكلة السياسية والإجتماعية وتخفف من آثارها المتصاعدة، خاصة فيما يتعلق بالإصلاح السياسي.

من جهة أخرى لم يثبت حتى الآن أن إجراءات النظام القمعية ـ وهي البديل المتوفر المقابل للإصلاح ـ والتي اتخذها تجاه المعارضة بمختلف تشكيلاتها السياسية وألوانها المناطقية قد نجحت في إبعاد الخطر، بل تكثر الأدلة التي تفيد بأن الشعور بالنقمة من النظام والإحتجاج عليه ـ وإن لم يؤطّر بالكامل في تشكيلات ـ في تصاعد سريع حتى في البيئات التي لم تكن لتجرأ علناً على معارضة النظام من قبل.

خلال الفترة القادمة، فإن الوضع المستقبلي (6-12 شهراً القادمة) يمكن أن يكون على هذا النحو:

أ ـ تصاعد الضغط الأميركي والغربي على الأمراء السعوديين لكي يخففوا من الأزمة الداخلية بمزيد من الإنفتاح ولمنع الإنفجار الذي قد يتوجّه للمصالح الأميركية في الداخل والخارج. وكذلك الضغط من أجل المزيد من الإنفكاك بين النظام السعودي وقاعدته السلفية (الوهابية) والتي تعتبر الطريق أو المحصلة الأساسية للإنفتاح السياسي الداخلي.

ب ـ تصاعد المواجهة بين التيار السلفي ونظام العائلة المالكة، إما على خلفية الضغط الأميركي أو على خلفية الضغط الحكومي وتقليص نفوذ (الوهابية) في أجهزة النظام.. وهناك احتمال بأن تكون بعض المواجهات عنيفة ودموية، من خلال استقراء التجارب الماضية التي علمتنا أن التيار السلفي عموما لم يسكن للنظام إلا بالقمع إبتداءً من التجربة الأولى مع الإخوان (1926-1930) والثانية مع التيار الديني الذي احتجّ على التلفزيون عام 1965 والتي أدت الى إعدام الأمير خالد بن مساعد آل سعود؛ والثالثة مع حركة الأخوان الجدد بقيادة جهيمان العتيبي عام 1979، والرابعة التي أخذتنا جميعاً الى مستنقع العنف الذي نحن فيه والتي بدأت منذ تواجد القوات الأميركية عام 1990 من أجل ما سمي بتحرير الكويت ومن ثم المراقبة الجوية للأجواء العراقية؛ وقد أدت تلك المواجهة الى موجة من الإعتقالات وانفجارات عنف لاتزال مستمرة. وها نحن ندخل مرحلة خامسة ابتدأت بالحرب على العراق، ولن تنته فيما يبدو بدون انعكاسات خطيرة على الوضع الداخلي السعودي، خاصة من جهة العلاقة بين التيار السلفي الذي ولد النظام السعودي من رحمه، وبين العائلة المالكة. لقد ظهر في الآونة الأخيرة بعض الإعتدال في صفوف التيار السلفي، ونقول اعتدالاً ـ بالمقاييس السعودية! ـ ولكن الجسد الأكبر لهذا التيار، ينحو باتجاه التطرف الشديد، وهو تيار لا يؤمن بالمساومة ولا بأنصاف الحلول، ولديه قابلية شديدة للمغامرة فإما أن يأخذ كامل كعكة الحكم أو يخسر كل شيء.

ج ـ يتوقع أيضاً وخاصة بعد أن تنجلي الحرب، أن تحسم مسألة الحكم من جهة إيجاد مخرج سياسي من نوع ما، يتيح إقالة الملك (فعلياً) وحسم ولاية العهد للأمير سلطان. لعل ما يحدث من تطورات يحسم موضوع الصراع بين الأجنحة حول المسألتين عن طريق المساومة السياسية التي قد تتيح للأمير عبد الله هامشاً من الحركة لإدارة البلاد واتخاذ قرارات مصيرية. بالطبع هناك من لا يرى هذا التطور، بل على العكس، يرى أن الصراع سيتطور، وسيكون الأمراء أقلّ قدرة على إدارة الصراع الداخلي، ومن المحتمل أن يخرج الصراع بين الأمراء الى الشارع، وتساهم فيه النخب. بل أن بين المتشائمين من يعتقد أن الصراع قد يحسم بين الأمراء ولكن بعملية جراحية أي بعد المرور بتجربة تصادم عنفي مسلح بين أفرع القوات المسلحة والأمن الداخلي.

د ـ من المتوقع خلال العام القادم، أو الأشهر الستة القادمة، أن يحسم موضوع الإصلاحات السياسية سلباً أو إيجاباً.. فالتمطيط بلغ منتهاه وغايته. وقد نشهد مطالبات جديدة من رموز المجتمع تطالب بتسريع العملية الإصلاحية كما لو كانت عملاً استباقياً لمواجهة التحديات القادمة من الحليف الأميركي، وما يفرضه تغير الوضع بل انقلابه في العراق وما يحمله من آثار بالغة التحدّي للمملكة. مجلس الشورى المنتخب، وإصلاح القضاء، وإعطاء دور أكبر للمرأة، وانتخاب مجالس المناطق، ومكافحة الفساد، وغير ذلك من القضايا ستكون محور المطالب الشعبية التي هدأت بسبب اشتعال الحرب، والتي يحتمل جداً أن تستأنف وتتخذ صوراً أخرى أكثر شعبية.

هـ ـ سيبقى السخط العام قائما بسبب الوضع الإقتصادي من جهة، وبسبب عدم السيطرة على الفساد داخل العائلة المالكة من جهة ثانية، وبسبب تضاؤل الإصلاحات السياسية وعدم إرضائها شرائح غير قليلة في المجتمع، وستبقى هناك دوافع لدى الكثيرين من أجل تحسين الأوضاع السياسية والإقتصادية بشكل عام. وغير أن هذا لا يلغي بسبب ضعف النظام احتمالات أن يكون الجو العام جو انفتاح وحرية في الحديث والصحافة. وحتى مع وجود بوادر الإصلاح، سيبقى الوضع الإقتصادي المتردي مولداً أساسياً للسخط العام، الذي لن يتوقف خلال السنوات القادمة.

و ـ وأخيراً، هناك احتمال بأن يقاوم النظام الضغوط الداخلية والخارجية فيبقي الأمور على ما هي عليه، بحيث تمشي على النسق التي هي عليه الآن. وهذا يعني استمراراً للديكتاتورية الرديفة للفشل الإقتصادي والإجتماعي، وهذا بدوره سيجعل مستقبل المملكة مفتوحاً أمام كل الإحتمالات الخطرة شأن كل ديكتاتورية تقامر بمصير مواطنيها ومستقبلهم، فهي تخسر المعركة مع الشعب ولا تستطيع المواجهة مع الأجنبي.. وحينها يذهب النظام غير مأسوف عليه.

الصفحة السابقة