فضيحة من العيار الثقيل

الجامعات السعودية تشتري (مكانة أكاديمية) نقداً

عبدالحميد قدس

بعد فضيحة التصنيف العالمي للجامعات السعودية العام 2005، حيث حلّت الجامعات السعودية في المرتبة 2998 من أصل 3 آلاف جامعة حول العالم، أي بفارق مرتبتين فقط عن المركز الأخير، وتبادل المسؤولين الاتهامات حينذاك، حيث حمّل الدكتور عبد الله العثمان، وكيل وزارة التعليم العالي للشؤون التعليمية كلا من وزارة المالية ووزارة الاقتصاد والتخطيط ووزارة الخدمة المدنية مسؤولية تخلف الجامعات السعودية في الدخول ضمن التصنيف العالمي، بالرغم من أن الموازنات المخصّصة للجامعات تبدو عالية، ومن بينها تخصيص 200 مليون ريال لمجرد تطوير الموقع الالكتروني لجامعة الملك سعود!.

بعد تلك الفضيحة ظهرت أخرى في السياق نفسه، كشفت عنها مجلة (ساينس) تتمثل في محاولات جامعات سعودية لشراء هيبتها الأكاديمية. وذكرت المجلة: اعتقد روبرت كيرشنر عندما قرأ للمرة الأولى الرسالة الإلكترونية التي استلمها، أن هنالك عملية احتيال، فعالم فلك في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة السعودية كان يعرض عليه عقداً كأستاذ ملحق بأجر 72 ألف دولار سنوياً. ومقابل هذا المبلغ، سيكون مطلوباً من البروفيسور كيرشنر، وهو أستاذ في علم فيزياء الفلك في جامعة هارفارد الأمريكية، أن يشرف على مجموعة بحثية في جامعة الملك عبدالعزيز، ويقضي أسبوعاً أو أسبوعين في السنة، في حرم جامعة الملك عبد العزيز، لكن ذلك المتطلب ستكون فيه مرونة، بحسب ما ذكر الشخص الذي كتب الرسالة الإلكترونية (الإيميل). لكن المطلوب من كيرشنر هو أن يضيف اسم جامعة الملك عبدالعزيز كجهة ارتباط ثانية إلى اسمه في قائمة معهد المعلومات العلمية للباحثين الأعلى مرجعية.

كيرشنر أرسل الإيميل الذي وصله إلى رئيس قسمه، وداعبه قائلاً: (إن المبلغ المعروض أكبر بكثير من علاوة %2 التي يحصل عليها الأساتذة سنوياً). ويقول كيرشنر: (اعتقدت في البداية أنها مزحة)، لكنه اكتشف أن زميلاً له من ضمن قائمة الباحثين الأعلى مرجعية في معهد أمريكي آخر، قبِل عرضاً مماثلاً من جامعة الملك عبدالعزيز، وأضاف الجامعة كجهة ارتباط ثانية على قائمةISIhighlycited.com . وزميل كيرشنر هذا ليس وحيداً، فمجلة (Science) علمت أن هنالك أكثر من ستين من كبار الباحثين من مجالات علمية مختلفة، وجميعهم من قائمة ISIhighlycited.com، وقعوا مؤخراً عقود عمل وفق نظام غير متفرغ (PartTime) مع الجامعة، وجميعها شبيه بالعرض الذي استلمه كيرشنر. وفي الوقت نفسه، تقدّمت جامعة الملك سعود في الرياض بمئات الأماكن في التصنيف الدولي خلال السنوات الأربع الماضية، من خلال مبادرات تهدف بشكل خاص إلى ربط اسم جامعة الملك سعود بمنشورات بحثية، بغض النظر عما إذا كان العمل تضمن أي تعاون ذي معنى مع باحثي جامعة الملك سعود.

باحثون من داخل المملكة وخارجها يحذّرون من أن مثل هذه الممارسات يمكن أن تشتت الانتباه عن الجهود الحقيقية التي تبذلها بعض الجامعات السعودية؛ لتحويل نفسها إلى مراكز بحثية على مستوى عالمي. على سبيل المثال، أنفقت الحكومة السعودية مليارات الدولارات لبناء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي تتضمن مختبرات على مستوى عالمي، ويعمل فيها عشرات الباحثين البارزين كأعضاء هيئة تدريس متفرغين. لكن مبادرات جامعة الملك سعود، وجامعة الملك عبدالعزيز، تهدف إلى الحصول على نتائج أسرع. يقول محمد القنيبط، أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة الملك سعود، منتقداً مؤخراً البرامج في مقال في صحيفة الحياة: (إنهم يقومون ببساطة بشراء أسماء). ويقول تيدي فيشمان، مدير مركز النزاهة الأكاديمية في جامعة كليمزون في جنوب كارولينا: (إن البرامج تعطي انطباعاً مزيفاً مقصوداً بأن الجامعات السعودية تقدم أبحاثاً عظيمة).

الأكاديميون الذي قبلوا عروض جامعة الملك عبدالعزيز يمثلون تشكيلة واسعة من أعضاء هيئة التدريس، من مؤسسات نخبوية في الولايات المتحدة، كندا، أوروبا، آسيا، وأستراليا. جميعهم رجال (ذكور)، وبعضهم أساتذة فخريون تقاعدوا مؤخراً من مؤسساتهم التي كانوا يعملون فيها في بلادهم. جميعهم غيروا ارتباطهم على قائمة ISIhighlycited.com، كما هو مطلوب في عقد جامعة الملك عبدالعزيز، وبعضهم أضاف جامعة الملك عبدالعزيز كارتباط في الأوراق البحثية.

المتطلبات الأخرى في العقد تشمل تخصيص (كل وقتك، اهتمامك، مهارتك، وقدراتك لأداء واجباتك)، والقيام (بعمل يساوي ما مجموعه أربعة أشهر من مدة العقد). نيل روبرتسون، أستاذ فخري في الرياضيات في جامعة ولاية أوهايو، أحد الذين وقعوا عقداً مع جامعة الملك عبدالعزيز يقول إنه ليست عنده مشكلة مع العرض. ويضيف: (إنها الرأسمالية. هم لديهم رأس المال، ويريدون أن يبنوا به شيئاً)! أحد الباحثين الآخرين الذين وقعوا مع جامعة الملك عبدالعزيز، عالم الفلك جيري جيلمور، من جامعة كامبريدج في بريطانيا، يقول إن: (الجامعات تشتري سمعة الأشخاص دائماً، من حيث المبدأ، هذا لا يختلف عن قيام جامعة هارفارد بتوظيف باحث مشهور).

من جانبها، حاولت مجلة (Science) إجراء مقابلة مع مسؤولين من جامعة الملك عبدالعزيز، لكنهم لم يردوا على ذلك. لكن سوريندر جاين، أستاذ رياضيات متقاعد من جامعة أوهايو في أثينا، وهو مستشار لجامعة الملك عبدالعزيز، وساعد في توظيف عدد من الباحثين الملحقين، قدم لنا قائمة تتضمن 61 أكاديمياً وقعوا عقوداً مشابهة للعقد الذي أرسل إلى كيرشنر. يقول جاين إن الترتيبات المالية في العقود متنوعة، فبعض الباحثين الملحقين يقبضون تعويضاً بدلاً من رواتب منتظمة، ولكن ذلك يأتي كجزء من منحة بحثية تقدمها جامعة الملك عبدالعزيز.

ويعترف جاين أن أحد الأهداف الرئيسية للبرنامج الذي تموله وزارة التعليم العالي هو: (تحسين رؤية وترتيب جامعة الملك عبدالعزيز). يقول سوريندر جاين أن جامعة الملك عبدالعزيز التقطت الإشارة من جامعة الملك سعود، التي بدأت توجهاً رئيسياً منذ ثلاث سنوات؛ لتحسين ترتيبها الدولي. الرجل الذي كان وراء ذلك التوجه هو عبدالله العثمان، وهو يحمل شهادة دكتوراة في علوم التغذية من جامعة أريزونا، وكان وكيل وزير التعليم العالي قبل أن يتم تعيينه رئيساً لجامعة الملك سعود في عام 2008 (وقد أقيل مؤخراً من منصبه).

العثمان أصبح مديراً للجامعة في وقت كانت الجامعات السعودية تتعرض للانتقاد في الإعلام السعودي؛ بسبب أدائها الضعيف في الترتيب العالمي للجامعات. ومن بين 300 جامعة في تصنيف (Webometrics) عام 2006، كان ترتيب جامعة الملك سعود (2910)، فيما كان ترتيب جامعة الملك عبدالعزيز أفضل بقليل (2785). وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن جاءت في المرتبة (1681). ولم تكن أي من هذه الجامعات ضمن قائمة أفضل خمسمائة جامعة حسب تصنيف شنجهاي لأفضل جامعات في العالم عام 2008.

العثمان أراد نتيجة سريعة، وحصل عليها؛ إذ سرعان ما تعاقدت جامعة الملك سعود مع مجموعة من أبرز العلماء من أوروبا وآسيا والولايات المتحدة، الذين رفعوا عدد الأبحاث المشتركة المنشورة مع جامعة الملك سعود إلى1211 مقالاً في عام 2010، أي حوالى ثلاثة أضعاف العدد في عام 2008. قليل من العمل الذي تتحدث عنه هذه المقالات البحثية تم القيام به في جامعة الملك سعود، حسب قول عبدالقادر الحيدر، وهو أستاذ في الصيدلة في جامعة الملك سعود. نتيجة لذلك، وفي عام 2010، وصلت جامعة الملك سعود إلى المرتبة العالمية التي بين 30-400 حسب تصنيف شنجهاي؛ كما وضعها تصنيف شنجهاي لعام 2011 في المجموعة التي ترتيبها بين 200-300. وحسب تصنيف Webometrics الأخير، جاءت جامعة الملك سعود في المرتبة 186، متقدمة بشكل هائل على ترتيبها عام 2006 (جامعة الملك فهد للبترول والمعادن التي قامت بالجهود نفسها من أجل الحصول على الأهمية، وصلت الآن إلى المرتبة 300-400 حسب تصنيف شنجهاي).

شراء سمعة علمية بالمال لا تعني أن الجامعات السعودية ذات قيمة!

الصفحة السابقة