تعمية وشللاً

إزدواجية الخطاب الرسمي السعودي

هناك غياب مريع لخطاب رسمي واضح. ونقصد بغياب الخطاب السياسي للحكومة، تلك السياسة التي تنهجها، والأهداف التي تريد تحقيقها، والمسار الذي تختطّه لتحقيق تلك الأهداف، وفي مقدّمتها التبريرات التي تضعها لإقناع جمهورها بذلك الخطاب وما يحويه من أهداف وتوجهات بغية إشراكه فيه والمساعدة على تحقيقه.

المشكلة كما نراها واضحة اليوم، هي أن الحكومة السعودية لاتزال متمسكة بالخطاب القديم، الخطاب الذي يحدد هويّة الدولة وأهدافها. فهي كما تشي عبارات المسؤولين وتصريحاتهم (الجديدة) دولة سلفية، تستهدف تحقيق أهداف دينية على الصعيد المحلّي، يدخل فيها عنصر الهيمنة الدينية ـ الوهابية، ويدخل فيها المزيد من (تديين) الشعب السعودي، وزيادة الجرعة الدينية في ثقافته اليوم وفي ممارساته الحياتية. وخطاب الدولة القديم والحاضر، خطاب سياسي محافظ، يرفض الإصلاح السياسي، بحجّة أنه موجود ولم ينقطع منذ تأسست الدولة، ولذلك تظهر عبارات: القرآن دستورنا، والشورى كانت ولاتزال نهجنا، وبالتالي لا يوجد شيء يحتاج الى تغيير. والخطاب القديم يعطي للقوى المحافظة الدور المهيمن على حياة السكان وعلى ثقافتهم ومسلكهم، ويبعد كلّ من يعترضه، سواء على قاعدة وطنيّة أو دينية مذهبية. كما أنه خطاب يتمتع بسمة الجمود في كل شيء تقريباً، ويبقي العائلة المالكة ومن ثمّ الدولة ومؤسساتها محوراً لكلّ فعل ونهج، ولا يعترف للجمهور بأي دور مهما صغر.

هذا الخطاب القديم، الذي أنتج الأزمة الحالية التي تعاني منها المملكة، لازال محافظاً على مواقعه، تجده يتعايش جنباً الى جنب مع خطاب جديد يحاول أن يجد له موقعاً في وسائل الإعلام المختلفة المحلية، وأن يعبّر عن قاعدته بشتّى الوسائل الممكنة. أيضاً فإن الخطاب الجديد الذي بدا وكأن العائلة المالكة قد سمحت بتمرير عباراته وفي بعض الأحيان يستخدمها الأمراء الكبار في مفردات لم تكن مألوفة: كالتعددية، والحرية، وحقوق المرأة، وحرية الصحافة، وحقوق الإنسان، والوحدة الوطنية، والهوية الوطنية، الخ.. هذا الخطاب الجديد، لم تستطع المعدة الرسمية حتى الآن من هضمه، ولا هي ـ فيما يبدو ـ مقتنعة به، ولكنها أجبرت ـ على الأرجح ـ على استخدامه ومحاولة ركب حصانه، منعاً لمصادمته وهو يكتسب زخماً جديداً ودفعاً داخلياً وتأييداً خارجياً من خلال الضغوط المباشرة على السلطة أو من خلال النماذج التي تقدمها الدول المجاورة.

الخطابان الجديد والقديم يحويان قدراً كبيراً من التعارض، في ثنائيات متصادمة واضحة، فالدولة الدينية توضع قبال الدولة المدنية، والهوية الوطنية تتعارض مع الدولة السلفية، ومع مصالح الفئات المحافظة سياسياً ودينياً والتي تسيطر على معظم جهاز الدولة. لا تستطيع أن تطلب حقوقاً للمرأة أو ترعى حقوقاً للإنسان وفق النهج السلفي القائم. كما لا يمكن تحقيق التعددية في وقت يعزّز فيه الخطاب القديم نزعة الإقصاء ويحتكر صوت الفرقة الناجية والإثرة بالسلطة والثروة.

إن وجود خطابين سياسيين للدولة متعارضين، أو لنقل غير متصالحين، أو على الأقل لنقل بأن الدولة لم تسع أو فشلت في مصالحتهما، أو هي لا تريد تلك المصالحة أساساً.. وجود خطابين متعارضين يؤسس لرؤيتين سياسيتين ولمشروعين سياسيين متناقضين يشقان الجمهور. فالسلفيون يعتقدون ـ وفق حضور الخطاب القديم ـ بأن الدولة لاتزال أمينة على ماضيها السلفي، ومحاباتها لرموزه، وأنها تدعم ذلك الخطاب، وبالتالي تشجّع التيار السلفي على المضي في أفكاره وتصوراته القديمة تجاه المواطنين وتجاه الإصلاح السياسي وتجاه النظام نفسه.

ومن جهة ثانية، توجّه مفردات الخطاب الجديد، شريحة من المواطنين، الى أن المملكة بصدد التغيير والإصلاح، وبالتالي يجب العمل والدعوة اليهما، لأن مؤشرات القبول بهما واضحة في تصريحات المسؤولين، الذين ما فتئوا يتحدثون عن ضرورتهما وأن الإرادة السياسية متوفرة لتحقيقهما!

الواضح أن خطاب الدولة مرتبك غير قادر على الحسم، فإما الإستمرار في القديم أو البدء بالجديد، وهو يدل على عجز في تقرير وجهة الدولة في المستقبل. لكن الإستمرار في الخطاب القديم وعدم رفض الجديد أو الإصطدام معه يدلّ على انتهازيّة وسوء نيّة، فالحكومة تخاطب شريحتين غير متساويتين في الحجم، إحداهما سلفية، والأخرى بقية الشعب. للأولى قديمها وللأخرى جديدها دون المضي فيه. ولذلك لا يجب أن نستغرب لماذا يكثر الحديث عن الإصلاحات دون أن نراها! فلو كانت النيّة باتجاه الإصلاحات لكان الخطاب السياسي واضحاً محدداً لا متعدداً متناقضاً يستخدم التكتيك للخروج من الأزمة بأقلّ التنازلات السياسية.

النيّة في الإصلاح تفترض سيادة خطاب جديد، خاصة إذا كان التعايش بين القديم والجديد أضحى غير ممكناً، على الأقل ضمن الرؤية السلفية المتشدّدة. إذا كان من الصعب إحلال خطاب جديد مكان القديم، فإن بالإمكان ـ لو توفرت النيّة لدى أمراء العائلة المالكة ـ إخراج الإصلاحات في إطار الخطاب القديم. أي تقديم تبريرات دينية للإصلاحات السياسية، مثلما فعل الكثيرون، سواء في عهد الدولة العثمانية أو الدولة الإيرانية الحالية.

لكن التخبّط الحكومي الذي نراه في كل الإتجاهات والمجالات، ليس سببه ازدواجية الخطاب فحسب، وإنما التعمية عبر الإزدواجية. لا شك أن هذا التخبط انعكس على المسؤولين والمقربين من العائلة المالكة نفسها. ففي حين يصرح عادل جبير بأمر يأتي وزير الداخلية فينقض كلامه، مما يدلل على أن الجبير نفسه لم يفهم (اللعبة). ونفس الشيء يمكن قوله عن صحافيين مقربين من السلطة، خدعوا بمفردات الإصلاح، فما أن تمادوا في التنظير لها، أو مواجهة الخطاب القديم، حتى أقصوا عن مواقعهم أو حرموا حتى من الكتابة. ونموذج ذلك جمال خاشقجي وعثمان صيني وغيرهما.

والمواطن الذي يتلقّى الإشارات المتناقضة والمزدوجة التي يتضمنها الخطاب الرسمي أصيب بدوار الرأس ـ وربما يكون ذلك مقصوداً ـ فلا يعلم أي اتجاه تسير عليه الدولة. فهل هي مع الإصلاحات، وهناك إشارات من الأقوال تفيد بذلك، في حين يرى إشارات عكس ذلك تماماً فمواقع المحافظين لازالت باقية ومدعومة بقوّة، والخطاب الرسمي لم يستنفذها بعد. ولذلك لا يدري هل يتفاءل أم يتشاءم ويصاب بالإحباط؟

لربما تكون حيرة المواطن من حيرة المسؤول نفسه. فغياب إرادة الإصلاح هي التي ترسل الإشارات المتناقضة في الداخل والخارج، حتى ان العديد من الدول لا تدري على وجه اليقين كيف تعالج الحكومة السعودية ـ على سبيل المثال ـ أزمة العنف، وتصديره وتفريخه. ولعلّ ما أفصح عنه المستشار الألماني شرودر في زيارته للسعودية في الخامس من أكتوبر الجاري، ومطالبته السعودية بوقف الجهات ـ الرسمية ـ التي تدعم عناصر متطرفة في بلاده، مؤشر على أن (الآخر) لم يعد يثق في دقّة (البوصلة) السعودية. هل هي باتجاه مكافحة العنف والإرهاب، وهذا يتطلب نمطاً من تغيير السياسات الدينية في الداخل والخارج، مضت فيه الحكومة السعودية لبضع خطوات حتى الآن، أم باتجاه تسكين النقد الداخلي والخارجي بممارسات هامشية استعراضية تبقي الوضع القديم على حاله؟

حتى هذه اللحظة، يبدو أن الحكومة السعودية لن تقدم على تغيير جوهري في سياساتها الداخلية. فالإصلاحات مؤجّلة في رحم الغيب، والأولوية لمكافحة العنف السلفي، وهو عذر لم يستنفذ بعد. وحتى إذا ما تحققت الإرادة السياسية بإصلاحات، فإنها ستكون جزئية لن تمسّ جوهر النظام وممارساته، ومثال ذلك ما يتوقع من إجراء (شبه انتخابات) بلدية، أو مناطقية، يستطيع المواطن ـ حسب الرؤية الرسمية ـ أن يقتات عليها لسنين قادمة!

الصفحة السابقة