المجتمع المدني.. شرط المنجز الديمقراطي

مع قيام الدولة الحديثة نشأت الحاجة الى وجود تنظيمات اجتماعية متعددة الوظائف تخترق حدود الاطارات التقليدية، وتستهدف بدرجة أساسية التعبير عن مصالح مجموعة كبيرة من الافراد. وهذه التنظيمات ولدتها الحاجة الى ضرورة احداث توازن في مقابل الدولة ذات الطبيعة التسلطية والاستبدادية بصرف النظر عن المدعيات الايديولوجية او الاشكال التي استقرت فيها. فمؤسسات المجتمع المدني في الوقت الذي تمثل مصالح مجموعة كبيرة من الافراد توفر أيضاً ضمانة صلبة امام عسف الدولة واجهزتها. فالدول التي تنشط فيها هذه المؤسسات تعتبر اكثر استقراراً وديمقراطية من الدول التي مازالت تعتبر قيام المؤسسات الاهلية غير الخاضعة لاشراف الدولة ''اخطار'' محتملة ومصادر تهديد لوجود الدولة.

من الضروري الاشارة الى أن غياب مؤسسات المجتمع المدني أو قطع الطريق عليها وتعطيل فرص ظهورها لن يمنع من نزوع الافراد الى الانضواء في تشكيلات جماعية. فقد شهدت السعودية في مرحلة مبكرة من نشأتها ظهور تشكيلات سياسية، ثقافية وحقوقية وادبية بصورة سرية وفي كثير من الاحيان مخالفة لرغبة الدولة. وقد أكدت التطورات السياسية التي عاشتها البلاد بدءا من الموجة القومية الناصرية في الخمسينيات والستينيات الى انبعاث التيار الاسلامي في نهاية السبعينيات الى الموجة التكنولوجية الرابعة وما تخلل هذه التحولات الكبرى في مجال حقوق الانسان وتيار العولمة والانفتاح الفكري ان ثمة نزوعات كامنة داخل سكان هذه البقعة الجغرفية الى التشكل الجماعي.

مجتمع في حالة تحوّل دائم

واذا كانت التغييرات الاجتماعية التي جرت خلال برامج التحديث لم تستعلن نفسها ـ بصورة طبيعية ـ في هيئة تشكيلات جماعية في العقود الماضية، فإن عقد التسعينيات كان كفيلاً بأن يفرز مجتمعاً متبايناً بصورة حادة منذ التسعينيات.  فثلاثة عقود من برنامج تحديثي واسع النطاق أحدثت تطوراً كبيراً في البنية الاساسية المعمارية لهذه البلدان، شمل ذلك بناء المدارس والمستشفيات والمطارات والجامعات ومراكز التسوق التجاري والمطاعم ومراكز الترفيه بفعل المداخيل البترولية الضخمة. ولكن هذا التدفق الهائل قد اثبت، على اية حال، بأنه سلاح ذو حدين، فالمأزق الذي واجهته السعودية في التسعينيات هو كيفية الحفاظ على ميراثها الثقافي والديني في الوقت الذي تحاول تحقيق المكاسب التي يمكن أن تقدمها الثروة. فقد كان النزوع العام لدى القيادة السعودية ينصب على ادخال التكنولوجيا الغربية مع الاحتفاظ بتلك القيم التي ينظر اليها بأنها جوهرية بالنسبة للمجتمع، وعلى حد قول مسئول سعودي ''إننا نجحنا في جذب التكنولوجيا بدون ايديولوجيا''.

إشكالية تقليدية تثار في الوسط الاسلامي والليبرالي العلماني على حد سواء مفادها ان قيام الدولة على أسس ايديولوجية دينية يحرمها من تبني نموذج المجتمع المدني على الطريقة الغربية، فرسالة الدولة الدينية هي إدخال المجتمع برمته ضمن مشروعها الدعوي وإحالته الى جيش من الموالين. وهذه الاشكالية تتغذى، غاالباً، على بعض التوجهات المحافظة التي ترى الدولة كأداة تبشيرية ووسيلة لتحقيق التوحد المجتمعي عبر غرس مفهوم محدد للدين. وقد ظهر بأن وجود طيف واسع من التفسيرات الدينية المتباينة سيما في مجتمع تتوزع فيه المذاهب الدينية بصورة شبه متعادلة يكون استعمال الدين فيه من قبل الدولة مشتملاً على مخاطر جمة.

وبمرور الزمن ثبتت خطورة توظيف الدولة للدين بالطريقة التي يراد من الاخير تعزيز سلطانها السياسي، فقد أظهر النزوع المتزايد الى تكريس التحالف بين المؤسستين الدينية والسياسية لجهة كبح حركة التغيير الاجتماعي تعثر مسيرة التنمية الشاملة في البلد، فالخيار المبتور في التعامل مع المشروع التحديثي، قد وفر، مؤقتا، فرصاً إضافية لتعزيز إستقرار الدولة بالطريقة التي أرادها رجالها، ولكن الخسائر الناجمة عن خيار إنتقائي كهذا كانت كبيرة ولاشك أن الازمات الاقتصادية والسياسية والامنية وبأشكالها الانفجارية الراهنة ليست سوى تداعيات للانحباس الطويل الامد الذي تم بقرار من الدولة ذاتها.

فالتمدين الواسع النطاق والتحول الكبير في الاوضاع الاقتصادية نشّطا الى جانب الاتجاه المحافظ قوى التغيير أيضاً، فالعملية التمدينية أنتجت معها فئات اجتماعية جديدة مثل الطلاب، والخبراء التكنوقراطيين، وعمال أجانب ومثقفين وغيرها. فرغم المجهود الكثيف للدولة لجهة تعطيل تأثير المجتمع العمالي الاجنبي، ووسائل البث الفضائي واخيراً الانترنت على المجتمع المحلي، الا ان المهمة باتت مستحيلة في ظل إنفجار إعلامي كوني أطاح بمفهوم سيادة الدولة وألغى قدرتها بصورة شبه نهائية على تعبئة مواطنيها أو عزلهم عن مؤثرات هذا الانفجار.

وكان بامكان الدولة ان تستعيد مجتمعاً بات منهوباً لوسائل البث الخارجية من خلال ربطه بسلسلة مؤسسات هي كفيلة بملء جزء هام من الاهتمامات المعطلة لدى كثير من أفراد المجتمع، وما هروب هؤلاء الى وسائل البث الفضائي أو الانغماس في كونية الانترنت الا تعبيراً عن وجود اهتمامات لم تجد فرصتها في التعبير أو التفعيل محلياً.

ولعل المراقب لاوضاع البلاد خلال العقدين الماضيين يلحظ بوضوح كيف بدت الحاجة الى أن تفسح دول الخليج المجال أمام ظهور مؤسسات اهلية تستوعب هذا التطور الكبير الذي شهدته هذه الدول مع اتساع حجم الطبقة الوسطى كمنتج اساسي لعملية التحديث. ففرص التعبير الحالية لم تعد كافية لاستيعاب حاجات المواطنين، والافتتان المكرور بما يسمى بالمجالس المفتوحة او مجالس استشارية مترهلة أو الاحتجاج بنصوص مفتوحة في الدساتير او النظم الاساسية لا يتجاوز غرضها حد كليشيات'' التجميل لن يلغي حقيقة كون هذه المجالس والنصوص تظل عاجزة عن توفير الضمانات الكفيلة بتلبية متطلبات مجتمعات مفتوحة على التجارب السياسية في العالم والجوار معاً مع غياب مؤسسات أهلية قادرة على حث الدولة باتجاه تفعيل مواد النظام الاساسي أو الدستور. وحتى لا نضيف في رصيد المقولة الدارجة بأننا نسن القوانين حتى نخالفها، فإن الحاجة تجاوزت مجرد وضع قوانين معلبة فالقوانين تسن لتنظيم عمل المؤسسات للحيلولة دون تداخل مهماتها وأدوارها ولكن حين لا توجد هناك مؤسسات في الاصل فإن وجود القوانين يصبح لغواً باطلاً، بل تصبح القوانين غطاء يحمل بداخله مبرر إنتهاكه وخرقه.

ثمة حاجات لدى المواطنين تبحث عن طريق للتعبير العلني عبر مؤسسات، فإما أن تتولى الدولة مهمة خلق المناخ المناسب ووضع الترتيبات القانونية لظهورها كما حدث في البحرين منذ ديسمبر ما قبل الماضي أو أن ترعى الدولة المبادرات المستقلة التى يضطلع بها ذوو الكفاءات والمهتمون بتنمية المواهب وتمثيل المصالح العمومية. مع الاشارة الى أن الرعاية لا تعنى سوى تقديم الدعم المادي والمعنوي لها لا الانطلاق من فكرة الاستحواذ عليها أو ربطها بالجهاز البروقراطي وأحالتها الى مجرد جهاز ملحق بنشاطية الدولة كما الحال بالنسبة للنوادي الرياضية والادبية والمؤسسات الصحافية التي بدأت مستقلة في نشأتها ثم تحولت الى أجهزة ملحقة بماكينة الدولة. فاعلان تشكيل لجان حقوق الانسان الاهلية ليست سوى مثالاً بارزاً على التشويه المقصود من المهمة الانسانية المنوطة بها، خصوصاً حين تكون هذه اللجان مربوطة بإرادة الدولة، فهي تقرر نشأتها وزوالها.

الدولة والمجتمع المدني

ثمة تصور يتنامى أحياناً بفعل التوترات الداخلية يتجه الى الايقاع بين مؤسسات المجتمع المدني وأجهزة الدولة، بما يجعل إتساع نشاط المجتع المدني خطراً ينذر بتآكل صلاحيات الدولة وتقويض  سلطانها. هذا التصور يجد مبرره غالباً في ظل غياب آلية واضحة للعلاقة بين المجتمع والدولة، فالتوترات السياسية والامنية بين فئات المجتمع والدولة وظهور حركات اعتراضية بصورة فجائية يخلق في أذهان المسئولين في الدولة شعوراً ملتبساً بين ما يمكن أن يوفر ضمانات لبقاء السلطة وإستقرارها من خلال تكثيف عمل أجهزة الامن واستعمال القمع كخيار فعال في سحق أي ظاهرة احتجاجية تولد في المجتمع وبين ما يمكن أن تخلقه الدولة من فرص لامتصاص الاحتقانات المحتبسة داخل قطاع واسع من المتضررين من المجال اللامحدود للدولة، اذ يرى هذا القطاع بأن مجال الدولة يمتد من غرف النوم مروراً بالمصير السياسي والادوار المقررة لكل فرد في هذا القطاع الى لحظة رحيله الى العالم الاخر.

التجاذب الافتراضي أو هاجس الحرب بين المجتمع المدني والدولة هو وليد التشويه الذي طال هذين المفهومين، ولا شك ان الاحساس بالخطر من تكاثر مؤسسات المجتمع المدني وفق هذا التشويه سيفضي الى الاحساس بخطر الاطاحة بالدولة. وإزالة هذا الاحساس متوقفة على ادراك المعنى الحقيقي والمهني لكل من الدولة والمجتمع المدني. فمن الثابت ان الدولة لدينا مارست عملية اختراق واسعة بحيث أدت الى حيازة الدولة على مساحة تفوق صلاحياتها وتضخمت بحيث باتت عاجزة نتيجة للتطورات شديدة السرعة التي شهدها المجتمع والدولة معاً عن الايفاء بالحدود الدنيا من المسئوليات وتلبية متطلبات عاجلة لم يعد بالامكان ترحيلها الى أزمان مفتوحة.

فالدولة التي نشأت بوزارة لا تماثل الجهاز البيروقراطي الحالي، وبالتالي فإن استراتيجية عمل الدولة تطلبت تطويراً عاجلاً في الجهاز الاداري للدولة وانشاء وزارات متخصصة تتولى رعاية وادارة المصالح العمومية للمجتمع والدولة معا. في المقابل إن المجتمع الذي كان يدار بوزارة واحدة ليس هو المجتمع الراهن، وبالتالي فإن تحولات عميقة الجذور شهدها المجتمع على إمتداد عقود من الزمن أحدثت معها تبدلات قيمية وثقافية وإجتماعية واسعة، ولدت معها حاجات وإنشدادات نفسية وثقافية وسياسية مختلفة، وبالتالي لم يعد مجرد وجود جهاز بيروقراطي ممتد قادراً على إستيعاب هذه الحاجات، فضلاً عن أن هذه الحاجات والانشدادات إنما ظهرت لتعبر عن نفسها بصورة مستقلة عن الدولة وأحياناً لمواجهة استبدادها فاذا ما قررت الدولة إحتواء هذه الحاجات والانشدادات داخل مؤسسات خاضعة لسلطانها عطلت المسار الطبيعي للتمظهرات الفردية والجماعية، فلا تجد فرصتها الحقيقية خارج قيد الدولة وهذا من شأنه إحداث إحتقانات داخلية تنتظر الفرصة المناسبة لتعبر عن نفسها بصورة راديكالية.

ان التفكير السليم يتطلب تقييماً شاملاً لدور الدولة واداءها العام كما يتطلب تصحيح المفهوم المشوّه للمجتمع المدني. فالاخير ليس موجهاً لاختراق حريم الدولة او الانقضاض عليها بل هو عون لها على خلق الانسجام داخل الفضاء العام الذي يحوي كل منهما، وهو أولاً وأخيراً يستهدف إنشاء مجتمع متعاون يراد منه تحمل مسئوليته في إستيعاب الانشطة الفائضة والخارجة عن مجال عمل الدولة. فكثير من التوترات السياسية والامنية التي شهدتها منطقة الخليج في غضون العقدين الاخيرين كان بالامكان إمتصاصها عبر إيجاد قنوات تعبير ومؤسسات أهلية قادرة على تسهيل مهام الدولة وإيصال رسالة المجتمع الى الدولة.

ان الاوضاع الاقتصادية والسياسية التي تمر بها البلاد حالياً تفرض تطويراً جوهرياً في خطاب الدولة وبخاصة مع قصورها عن الايفاء بمتطلبات الرعاية.

فادامة عصر الدولة الريعية التي ترى في جمع المحصول السنوي وإعادة توزيعه على المواطنين كآلية وحيدة لتحقيق الولاء والاستقرار لم تعد من الناحية الواقعية ممكنة، وبات من الضروري ان تتخفف الدولة من أعبائها القديمة، وان تهيئ أجواء قابلة لعملية نقل بعض ما ليس داخلاً في الاصل ضمن تخومها من مهام ومسئوليات الى المجتمع، فكما أن الخصخصة تمثل خياراً عاجلاً لتخفيف الضغط على الدولة سيما مع فقدان المبادرات الحقيقية الفاعلة في تسوية مشكلات لم يعد بالامكان حلها عبر مشاريع إستثنائية أو برامج عاجلة بل لابد من قرارات جريئة واسترتيجيات بعيدة المدى، فكذلك تشجيع مؤسسات المجتمع المدني هو ايضاً خيار موضوعي لتصفية التوترات الداخلية وتحقيق التوازن الداخلي.

فالاوضاع الجديدة تلح بشدة لافساح المجال أمام نشوء مؤسسات أهلية تستهدف اولاً تمثيل مصالح الجماعات على أساس مهني (إتحادات، نقابات، مؤسسات صحفية) و ثقافي (مراكز ثقافية مستقلة، مؤسسات نشر، صحف ومجلات)، وثانياً تخليص الدولة من اعباء اضافية وتعزيز دورها الحقيقي كأداة تنظيمية للمصالح العمومية.

وليس سراً القول بأن هناك مؤسسات عديدة تعمل بصورة غير رسمية في البلاد، ونقول غير رسمية لا للتعريض بمشروعيتها، فهذه المؤسسات تمثل المصاديق الحقيقية لمفهوم المجتمع المدني، بل إن ظهور المزيد من المؤسسات على إختلاف تلاوينها تمثل التعبيرات الجماعية لفئات تطمح للتصريح عن نفسها وتفعيل ما بداخلها من كفاءات وإنشدادات عاطفية وثقافية وحتى سياسية. ما نود التشديد عليه هو الطريقة التي تعاملت بها الدولة مع هذه المؤسسات التي توصم بأنها ''غير رسمية'' او ''غير مصرح لها'' او ''غير قانونية'' كأحكام نهائية كافية لتعطيل عمل أي مؤسسة وإغلاق ابوابها بالشمع الاحمر. وتزداد الاحوال سوءا حين تدرج هذه المؤسسات في خانة الاعمال المخلّة بالامن العام، أو حين توكل الى أجهزة الامن (المباحث) للتعامل معها تماماً كما هي صلاحيات وزارة الداخلية التي تجعل من التعليم والاعلام والعمل موضوعات خاضعة لصلاحيتها المباشرة.

فالتعامل مع المؤسسات الاهلية من منظور أمنى لا يكفي لتوتير العلاقة بين المجتمع والدولة فحسب بل من شأنه خلق مجتمع موتور لا يرى في بقاء واستقرار الدولة شأناً يعنيه بل يرى في زوالها خلاصاً من طوق الامن وقيود القمع. فقد تتحول الدولة بالنسبة لكثيرين كابحاً وعائقاً أمام تحقيق طموحاتهم المشروعة نتيجة للاصرار على اللجوء الى الوسائل القمعية كخيار للتعامل مع الظواهر السلمية. فإذا ما ازدادت الدولة إصراراً على إستثمار أكبر قدر من القمع في مواجهة المبادرات الفردية والجماعية السلمية توفّرت مبررات العنف المتبادل بين الدولة والمجتمع. وهذا يعني في أحد مدلولاته فشل الدولة في تحقيق الانسجام الداخلي، كما يعكس ايضاً عجزها في التوصل الى تفاهم حقيقي مع شعبها.

إن احدى التغييرات الكبرى التي شهدتها دولة مثل البحرين وخلال فترة قياسية هي ولادة مجتمع مدني بمؤسساته المستقلة عن الدولة، فجمعيات حقوق الانسان، والمراكز الثقافية والصحافية، اضافة الى الاتحادات والنقابات المهنية واللجان الاهلية والجمعيات الدينية وجدت طريقها الى الظهور العلني بمباركة وتشجيع من الدولة نفسها.

وماذا كانت النتيجة؟ ان البحرين ولأول مرة منذ عقود تشهد إستقراراً داخلياً وتلاحماً وطنياً. ورغم ان ثمة موضوعات مازالت قيد الجدل بين قوى المعارضة والحكومة الا ان ثمة اطمئناناً بين الطرفين بأن هذه الملفات قابلة للحسم سيما في ظل تجاذب سياسي في الهواء الطلق.

البحرين بالتأكيد ليست حالة استثنائية وليست نموذجاً غير قابل للاحتذاء، بل إن ما جرى يقدم دليلاً إضافياً على أن الاصلاح السياسي وإرساء البنية الاساسية لنشوء مؤسسات مجتمع مدني يمثل مصالحة حقيقية بين المجتمع والدولة.. فما يجري في هذه الجزيرة يستحق كل تقدير وتعضيد واشادة، كما يلزمنا جميعاً ومن باب الحرص على نجاح التجربة ان تجد انصاراً لها في الداخل والخارج لكي تضاف الى رصيد التجارب الناجحة في المنطقة وان تشجع باقي الدول الى تطوير تجاربها الخاصة بحيث يكون الاتجاه الاصلاحي تياراً عاماً يتنافس فيه كل المتطلعين نحو عقد مصالحة وطنية شاملة.

فجميل ان تنادي الدولة شعبها نحو تشكيل مؤسساته وتستحثه على تطوير الاطارات التمثيلية لفئاته، وليس مبادرة الدولة ممثلة في قادتها سوى تعبيراً عن إطمئنان تام بأن تمأسس المجتمع لا يخل بهيبة الدولة بل يزيد في استقرارها، فالسلطة تتعامل الآن مع اطارات واضحة وعلنية دون انفجارات مبيتة في السر او تشكيلات راديكالية تبرز في هيئة أعمال صدامية مع مؤسسات الدولة ورجالها، ولم يعد هناك حاجة مباشرة لتضخم المؤسسات الامنية وانتشار رجالها أوساط الناس فهناك مؤسسات قادرة على نقل ما ينبض في المجتمع من قضايا حقوقية وسياسية وثقافية وإجتماعية الى الدولة. هذا من المنظور الامني، وهو منظور مازال يضعف عزم كثير من قادة دول الخليج التي لم تولد فيها المؤسسات الاهلية بصورة طبيعية غالباً.

إن الضمان المؤكد لنجاح التجربة الديمقراطية في أي بلد يكمن في كمية وفعالية المؤسسات الاهلية القادرة على إعادة تنظيم المجتمع ضمن مؤسسات حديثة وقطع الطريق على فورانية الانشدادات الخاصة القبلية والمناطقية والمذهبية التي ستفرض نفسها على المعادلة الانتخابية في ظل غياب مؤسسات مجتمع مدني كفيلة بمحو الروابط التقليدية واستبدالها بأخرى حديثة وتتصل بالحاجات الجديدة للسكان. ولذلك فإن الحديث عن الانتخاب في السعودية لا يكفي وحده من أجل انجاح التجربة الديمقراطية، بل لابد أن يسنُّ قانون إنشاء المؤسسات الاهلية، واطلاق العنان لظهور الجمعيات الحقوقية والصحافية والحرفية المستقلة، فالديمقراطية الناجحة هي المولودة في رحم المجتمع المدني.

الصفحة السابقة