مراجعة السعودية لسجلّها الحقوقي في جنيف

يوم الحساب والإهانة والفضيحة!

عبد الوهاب فقي

كان يوماً مشهوداً. وصفه البعض بـ (يوم الحساب)، ووصفه آخرون بـ (يوم التهزيء)، او (يوم الإهانة)، او يوم الفضيحة.

انه الإثنين، الواحد والعشرون من اكتوبر الماضي. والمكان في جنيف، حيث الصالة الضخمة التي تضم ممثلي كل دول العالم في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

اما المناسبة، فهي مراجعة سجل السعودية الحقوقي للمرة الثانية، فيما يعرف بالمراجعة الدورية الشاملة.

والحضور تعدّى مَنْ هم في الصالة من الرسميين، والناشطين الحقوقيين وبينهم سعوديون، الى جمهور غفير في كل بقاع العالم، بمن فيهم السعوديين الذين شاهدوا ما سُمي بـ (يوم الحساب) على الهواء مباشرة، في بث حيّ من تلفزيون الأمم المتحدة، كان متاحاً على شاشات الكمبيوتر والهواتف الذكية.

(يوم التهزيء) لم يكن بعيداً عن السياسة، والحقوق السياسية في صلب موضوع حقوق الإنسان، لكن مراجعة السجل الحقوقي السعودي وشكل المراجعة وحجم النقد من حلفاء النظام، جاء في وقت انحدار سياسي للرياض ولنفوذها، ما سهّل نقدها، ورفع الغطاء عن ممارساتها القمعية ولو قليلاً.

استبقت عشرات المنظمات الحقوقية الدولية الجلسة في التحشيد ليوم (كشف المستور من الانتهاكات السعودية) وأصدرت بيانات ضاغطة على دول العالم، كما فعلت العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، اضافة الى عدد كبير من المنظمات الدولية الأخرى، مثل الكرامة، والمفوضية الدولية للقضاة، والمفوضية الاسلامية لحقوق الانسان، ومراسلون بلا حدود، وفرونت لاين وغيرها.

وتقدّم الناشطون الحقوقيون السعوديون بتقارير مقابلة للتقرير الرسمي ستناقش في فبراير القادم، وهو ما فعلته جمعية الحقوق المدنية والسياسية (حَسْمْ)، ومركز العدالة لحقوق الإنسان، بحيث غطّت كل الموضوعات المتعلقة بالمرأة والعمالة الأجنبية واضطهاد المدافعين عن حقوق الإنسان والتعذيب والاعتقال التعسفي والمحاكمات غير العادلة وغيرها.

في افتتاح الجلسة، حذر رئيس مجلس حقوق الإنسان بصورة مبطنة الحكومة السعودية من التعرّض للناشطين الحقوقيين السعوديين الذين جاؤوا الى جنيف والإنتقام منهم في حال عودتهم الى بلادهم مذكرا اياها بالتشريعات الدولية في هذا المضمار والتي تحمي المتعاونين مع آليات الأمم المتحدة.

من جانبها، جاءت الرياض بوفدها ليقرأ منجزات الأمراء الحقوقية، وليدافع عن الانتهاكات. رأس الوفد رئيس هيئة حقوق الإنسان الحكومية بندر العيبان، وكان معه اضافة الى الذكور، ثلاث نساء مُبرقعاتٍ وغير مُبرقعات، فالرياض تريد ان تُريَ العالم كيف أنها تحترم المرأة، لولا ان توقيت المراجعة لسجلها جاء في وقت حرج، اذ لم يكن يفصله عن الحملة الشعبية لكسر الحظر عن قيادة المرأة للسيارة ـ والتي يتابع العالم تفاصيلها ـ سوى أربعة أيام، ما نَسَف الدعاية الرسمية من أساسها.

السعودية لا تطبق حكم الشريعة ولا القانون الوضعي، وان تذرّعت بذلك ونسبت ممارساتها الى الدين، في حين أن أهواء الأمراء هي الحاكمة.

ومع ان السعودية صارت مصدراً للكراهية والطائفية والتكفير وتصدير القتلة باسم الدين الى كل أصقاع العالم وتأجيج الفتن حتى داخل البلاد نفسها، زعم العيبان أن عكس ذلك تماماً هو ما يحدث. اكثر من هذا فالعيبان يقول ان المملكة اعطت نموذجاً رائداً لتطبيق حقوق الإنسان بين دول العالم، وان بلاده تطبق تلك الحقوق منذ نشأتها. وأنها انضمت الى العديد من المواثيق الدولية، في حين ان كل دول العالم تطالبها بالحدود الدنيا والانضمام الى العهدين الدوليين، وليس تطبيقهما بالضرورة. تحدث العيبان عن القضاء السعودي العادل الذي يوفر الحريات ويصون الحقوق، في حين أن عشرات الألوف من معتقلي الرأي في السجون، وتدخلات الأمراء في القضاء سافر بحيث فقد المصداقية على المستوى المحلي فضلاً عن الدولي. وبالنسبة للمرأة زعم ممثل الوفد السعودي تطبيق الشريعة واعطاء المرأة حقوقها وقال انها مواطنة كاملة، وارجع امتهانها الى مفاهيم مغلوطة ومعلومات غير موضوعية.وفي موضوع اضطهاد العمالة الأجنبية والعمالة المنزلية والذي هو واضح حيث يتكرر نقد دول العالم للرياض بشأنه، رسم العيبان صورة وردية كالعادة.

وكرّت سبحة المديح لتشمل كل الموضوعات الحقوقية الأخرى حتى لكأن السعودية صارت جنّة الله في أرضه، وليست بلداً يختنق بأهله تحت حكم طاغٍ ظالم لا يعير الشريعة ولا المواثيق الدولية اي اعتبار.

وهنا بدأت الدول بالمداخلات الناقدة وتقديم التوصيات كيما تلتزم الرياض بها، وكأن كلّ ما قاله العيبان لم يعنِ لأكثرها سوى القليل. وحسب احدى وكالات الأنباء، فإن السعودية كانت تحت مرمى النار، حيث تقدمت الدول بتوصيات الى السعودية الواحدة تلو الأخرى. واذا كان الأمريكيون قد بدأوا النقد لحليفهم ـ مضطرين او لغرض سياسي آخر ـ فإن الدول الأخرى بدأت تأخذ نفس المنحى، تصديقاً لقول الشاعر:

اذا غَضبتْ عليكَ بنو تميمٍ

حَسِبْتَ الناسَ كُلّهمُ غِضابا

ممثل بريطانيا الذي رعت بلاده العرش السعودي منذ نشأته، اعرب عن خيبة أمل بلاده من ان الحكومة السعودية لم تنفذ التوصيات السابقة للمراجعة الدورية الشاملة الأولى عام ٢٠٠٩؛ وقال بأن السعودية فشلت في التزاماتها تجاه مجلس حقوق الانسان، ورفضت السماح للمقررين الخاصين التابعين للأمم المتحدة لزيارة المملكة، واوصى بان تساهم المرأة السعودية كاملاً في بناء المجتمع، والغاء نظام الوصاية عليها، وتعيين نساء اكثر في مواقع المسؤولية، وزيادة حرية الحركة.

الوفد السعودي

الحليف الأمريكي طالب الرياض بان توفر محاكمات عادلة لمعتقلي الرأي، وشكك في مصداقية القضاء السعودي، كما طالب بحرية تشكيل منظمات المجتمع المدني بدون قيود.

ممثل فيتنام أوصى بتعزيز سلطة وحكم القانون في السعودية، والغاء التمييز، ومراعاة الفئات الضعيفة في المجتمع. وممثلة البانيا طالبت السعودية بالتوقيع والمصادقة على المواثيق الدولية خاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وكذلك العهد المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والبروتوكول الاختياري (كات) وغيرها. كما اوصت بالغاء أحكام الإعدام، والتعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية. ارمينيا اوصت بزيادة الوعي الحقوقي في السعودية من خلال ادماج موضوعات حقوق الانسان في المناهج الدراسية كافة.

اما استراليا، فأوصت بحرية السفر للمرأة بدون محرم، وباصلاحات قانونية سببت خروقات لحقوق الإنسان وادت الى الاعتقال التعسفي وحرمان المرأة من حقوقها الطبيعية وكذلك حقوق الأقليات.

ممثل النمسا أبدت قلقاً بسبب غياب الضمانات القانونية في الأنظمة الجنائية؛ ودعا ممثلها الى تقنين الأحكام القضائية، والى الحرية الدينية للأقليات في المملكة وحقها في العبادة، وليس فقط الى تأسيس مراكز لحوار الأديان في الخارج، وقال ان المرأة تعاني من التمييز في كل جوانب الحياة اليومية، واوصى بعدم تطبيق احكام الإعدام على الأطفال، واخيراً اوصى بتطبيق معاهدة السيداو المتعلقة بالمرأة. ودعت البرازيل السعودية الى مواءمة قوانينها المحلية مع القوانين الدولية والمعاهدات التي صادقت عليها.

ايطاليا من جانبها دعت الرياض لمراجعة العقوبات وقرارات الإعدام، وطالبت بحماية النساء من الزواج القسري، وتوفير حرية التعبير الديني. واخذت اليابان الحديث فاوصت بإدماج النساء في كل المجالات، وتوفير ادوات تتيح للضحايا الوصول الى القضاء؛ والتصديق على العهدين الدوليين، وانصاف ضحايا الانتهاكات الحكومية.. كما أعربت ايرلندا عن قلقها من عدم سماح الرياض للمنظمات الأهلية المستقلة بالعمل ومحاكمة الناشطين بعدئذ بحجة القانون؛ اما ألمانيا فأوصت الرياض بنشر ثقافة حقوق الإنسان وادماجها كمادة في المناهج الدراسية.

وهكذا تواصل النقد وطرح التوصيات، فسويسرا دعت الرياض الى ضمان حرية الرأي والمعتقد، ومراجعة العقوبات القصوى او الغائها، وإلغاء التمييز وغيره. والنرويج طالبت بإلغاء منع السفر عن النشطاء الحقوقيين ان لم يكن دعمهم، والى منح النساء الأهلية القانونية الكاملة.

عشرات الدول تحدثت وانتقدت.. كل هذا يجري واعضاء الوفد الرسمي يستمعون للتقريع كأطفال أغبياء، والعالم يسمع من شاشات التلفزيون، فيما الجمهور السعودي المتابع على هاشتاقات تويتر والهواتف المحمولة يستمتع بالسخريات والتعليقات التي أطلقت على الوفد الرسمي، ويأخذ مقاطع من كلام العيبان والنساء المرافقات للوفد واللاتي بذلن جهداً كبيراً لإقناع العالم بأن بنات جنسهن ينلن حقوقهن كاملة، بعكس ما يروج!! ثم يقوم المغردون بالتعليق عليها والطعن فيها واتهام الوفد الرسمي بأنه لا يمثل احداً لا رجالا ولا نساء، وانما يمثل العائلة المالكة فحسب.

وكما كان متوقعاً، فإن الدول العربية خاصة الخليجية أثنت على تقرير العيبان وامتدحت النظام السعودي وسجله (الأبيض جداً) في منح شعبه الحقوق المشروعة. هذا كان حال الكويت والإمارات؛ اما البحرين التي تواجه شعبها بالحديد والنار، فرحبت بتقرير السعودية ودافعت عنه بشراسة، وقالت ان اداء العيبان حرفي ومهني. واليمن لم يكف ممثلها عن المديح للرياض وتجاوز الوقت المسموح فقطع عنه الميكروفون! حتى العراق الذي يعاني من الإرهاب الممول من السعودية، انضمّ الى قائمة المطبّلين لعدالة السعودية، وكذلك فعلت الجزائر وأفغانستان.

قيمة المراجعة لسجل السعودية هذه المرّة، أنه كشف عن أن مظلّة الحماية الغربية لتجاوزات وانتهاكات آل سعود قد بدأت بالتمزّق على وقع ضغط المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية، وهو يكشف في جانب مهم أن مكانة السعودية ورشواتها للعالم لم تعد قادرة في السيطرة على النقد الموجه لسجلها الأسود.

توصيات وتحذيرات للرياض

بعد هذا، تقدمت أكثر من مائة دولة في مجلس حقوق الإنسان بجنيف بمائتين وست وعشرين توصية للسعودية لإصلاح وضعها الحقوقي وفق القرارات والمواثيق الدولية؛ ويفترض أن تجيب السعودية بقبولها تنفيذ هذه التوصيات من عدمها، لتتحول الى واجبات للتنفيذ خلال السنوات الأربع القادمة. وكانت السعودية قد قبلت بتوصيات سابقة اثناء مراجعة سجلها عام ٢٠٠٩، لكنها لم تنفذ منها شيئاً يذكر، ما أدى الى اهانة وفدها الرسمي وتحذيرها من ضغوطات دولية قادمة لا قِبَل لها بها.

وتشمل التوصيات كل شيء تقريباً فالحكومة السعودية اما انتهكت او قصرت في ايفائها بالتزاماتها الدولية تجاه حقوق مواطنيها ومن يقيم عليها. ويكشف حجم التوصيات عمق المشكلة وخطورة الإنتهاكات، واصرار النظام السعودي على مواصلة مسيرته، ولهذا يمكن القول بأن السيف اصبح مصلتاً على النظام، وإن بشكل ناعم، ولن يمكنه ان يتهرب من اصلاح الوضع الحقوقي الداخلي واحترام حرية وكرامة مواطنيه، حتى ولو أنفق المليارات لشراء الضمائر والتضليل. هذه اللعبة باختصار: انتهت.

مجلس حقوق الانسان

بعد التهزيء والإهانة بأسبوعين، كان مدهشاً ان تُنتخب السعودية عضواً لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، فلا أحد يجهل سجل هذه الدولة في الإنتهاكات، ولكن ثلاثة أمور ساهمت في انتخابها:

الأول، ويعتمد طريقة الانتخاب في مجلس حقوق الإنسان، حيث تقسم المقاعد على القارات، وأعضاء تلك القارات هي من ينتخب ويقرر، ولأن السعودية ضمن القارة آسيا، كان من البديهي ان تحصل على الأصوات المطلوبة، وليس لدى المعترضين من سبيل لإيقاف ذلك، حتى لو كان الإعتراض من الدول الغربية الحليفة.

الثاني، ويعود الى رغبة الحكومة السعودية في تبييض صفحتها، واعتقادها بأن الأموال التي تدفعها للمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، بما فيها المجلس نفسه والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، ستساعدها في تحقيق غايتها. وهذا صحيح الى حد كبير.

والثالث، توفر الغطاء السياسي الغربي الحمائي للإنتهاكات السعودية، إذ قلّما ينتبه الغرب: اعلاماً ومؤسسات الى ما يجري في السعودية، والإنتهاكات التي تجري فيها والموثّقة بشكل واضح. ذلك ان معظم دول الغرب قد فضلت مصالحها على ما تدّعيه من قيم تريد تطبيقها، خاصة في البلدان الحليفة لها، ومن اهم البلدان تلك التي تتمتع بوفرة مالية يمكن ان استحلابها خاصة في الظروف الصعبة التي تمرّ بها اقتصاديات دول الغرب بالذات. ومع هذا، فإن تحوّلاً ما حدث وإن كان محدوداً في الموقف الغربي تجاه سجل السعودية الحقوقي، ولكن لم يتم رفع الغطاء الحمائي بشكل كبير. فالإنتهازية لاتزال ديدن سياسة العواصم الغربية تجاه مملكة الإنسانية جداً!

سبق انتخاب السعودية عضواً أن تقدّمت ست منظمات حقوقية عربية ودولية، برسالة الى الملك السعودي، هي في واقع الأمر رسالة احتجاج الى المجتمع الدولي السياسي، تتعلق بالشروط المراد تغييرها في السلوك السعودي كيما تستحق بجدارة عضوية مجلس حقوق الإنسان، ما يعني ان هناك اعتراضات على هذه العضوية المحرجة.

المنظمات الست هي: هيومن رايتس ووتش، ومبادرة الكومنولث لحقوق الإنسان، ومشروع المدافعين عن حقوق الإنسان في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي، والخدمة الدولية لحقوق الإنسان، ومركز القاهرة لحقوق الإنسان، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.

وكانت رسالة هذه المنظمات الى الملك عبدالله تفيد بضرورة اتخاذ بلاده خطوات فورية لتحسين سجلها الحقوقي، ومن بين تلك الخطوات: الافراج عن كافة نشطاء حقوق الإنسان والمجتمع المدني بمن فيهم الدكتور عبدالله الحامد ومحمد القحطاني وفاضل المناسف، ورائف بدوي وغيرهم؛ اضافة الى ايقاف الملاحقة للناشطين الحقوقيين مثل مخلف الشمري ووليد أبو الخير.

ومن الخطوات: القبول فوراً بزيارة المقررين الخاصين التابعين للأمم المتحدة بشأن التعذيب وحرية التعبير والرأي والمدافعين عن حقوق الإنسان، وان تقبل بالتوصيات التي تم تقديمها اثناء عملية الاستعراض الدوري الشامل في مجلس حقوق الانسان في ٢١ اكتوبر الماضي، وان تصادق السعودية على المعاهدات الرئيسية لحقوق الانسان والتي تمثل اساس عمل المجلس، وفي مقدمتها العهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الإقتصادية والاجتماعية والثقافية.

الصفحة السابقة