تعميم الخطاب الوطني

تآكل الخطاب التحريضي

يمكن القول ابتداءً أن الدولة نشأت على خطاب تحريضي وحملت هذا النوع من الخطاب في مراحل لاحقة. فقد غرست في أنصارها عقيدة تكفير الأقاليم خارج نجد والدول المجاورة لجهة تحريك جيوش التوحيد والتحرير من أجل فرض السيطرة والاحتلال. ولم تنته صلاحية هذا الخطاب حتى بعد قيام الدولة، إذ ظلت سطوة الخطاب عنيفة من خلال انبثاثاته الواسعة في المدرسة والمسجد وفي القضاء والانشطة الدينية عموماً وبلوغاً الى الأداء السياسي للدولة، لغرض تكريس الهيمنة وتبريرها والتشديد على تماسك التحالفات الداخلية بين الامراء والعلماء، والابقاء على جاهزية الانصار المتحدرين من الحلف الديني كإحتياطي استراتيجي يمكن استغلاله في مواجهة الاخطار الداخلية التي تهدد السلطة، لادارك القائمين عليها بأن دولتهم قامت على أساس الالحاق باستعمال القوة الغاشمة وليس الاندماج بصهر الجماعات والمناطق في وحدة سياسية ومجتمعية طوعية، وبالتالي فإن مبررات التمرد وعوامل الانشقاق ظلت قائمة.

ولذلك، فإن الجماعات السياسية التي نشأت داخل الدولة والمتناقضة معها حملت خطابات تحريضية مماثلة كرد فعل على خطاب الدولة الحامل لنفس الخصائص. ففي رد فعلها على إستئصالية النزعة لدى الدولة، تبنت الاحزاب والتنظيمات السياسية في السعودية أيديولوجيات تدعو الى تقديم نماذج الدولة البديلة، فقد خلقت الدولة نقيضها الموضوعي من خلال صناعة خطاب اجتثاثي قائم على احتكار السلطة والثروة ونبذ الشراكة الشعبية.

ويمكن التعرف على خصائص الخطاب التحريضي على النحو التالي:

أـ خطاب مؤدلج، أي كان يستعير مكوّناته من منظومات فكرية متباينة دينية أو علمانية ليبرالية أو شيوعية. فقد أضفت الاحزاب والتيارات السياسية في السعودية طابعاً أيديولوجياً على خطابها السياسي، يتبين ذلك من اللغة التي كانت تصاغ فيها الافكار، والمصطلحات المستعملة والمتداولة في الادبيات الدينية او العلمانية او اليسارية. وكانت هذه الايديولوجيات الشمولية والنهائية تفرض بحسب طريقة التعبير عنها ومملياتها الداخلية فصلا حادا بين الجماعات، وبالتالي بينها وبين المجتمع عموماً.

ب ـ خطاب فئوي على المستوى التنظيمي والتمثيلي، فهو يعبّر عن جماعات محدودة إثنية أو فكرية أو حتى مناطقية. إن الجماعات السياسية التي ظهرت منذ الخمسينيات وحتى نهاية القرن الماضي كانت تحمل تطلعات وأهداف فئوية وإن رفعت شعاراً وطنياً أو حتى قومياً وأممياً. فالأحزاب اليسارية التي ظهرت في نهاية الخمسينيات كانت مؤلفة من فئات صغيرة تتبنى الشيوعية أيديولوجية فكرية والاشتراكية نظاماً إجتماعياً وسياسياً في مجتمع مثل السعودية الذي يعد من المجتمعات المحافظة والذي يمثل فيه الدين مرجعية فكرية ونظام حياة بالنسبة للغالبية المطلقة فيه. في المقابل، الاحزاب الشيعية التي ظهرت في نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينات كانت تتبنى عقيدة شيعية واستراتيجية في التغيير على النمط الايراني. وبالرغم من التحوّلات الفكرية والسياسية التي شهدتها الحركة السياسية الشيعية الا أنها ظلت رغم حملها لشعارات وطنية في بداية التسعينيات الا أنها ظلت من الناحية التنظيمية والسياسية جماعة فئوية مقتصرة على الشيعة دون سواهم، وكذا الحال بالنسبة للتيار السلفي الاعتراضي الذي ظهر في بداية التسعينيات ممثلاً في جماعة (مذكرة النصيحة) ومن ثم (لجنة الحقوق الشرعية) ولاحقاً (حركة الاصلاح) فكلها جماعات تتوحد في صفاتها الفئوية الواضحة مهما تلبّست عناوين عمومية كالحديث باسم الأمة أو حتى بإسم المجتمع في السعودية، أي بمعنى آخر أن الصبغة العامة لهذه الجماعة بقيت ثابتة وكونها سلفية وايضاً نجدية.

جـ ـ خطاب إنفعالي، أي مرتبط بتحولات نفسية واجتماعية وفي الغالب نتج هذا الخطاب كإستجابة لظروف خارجية (الناصرية في مصر، الحركة الاشتراكية في سوريا والعراق حصرياً، الثورة الايرانية، الجهاد الافغاني). فالاحزاب والجماعات السياسية في السعودية وإن نشأت داخلياً وتحرّكت للدفاع عن قضايا محلية الا أنها كانت في الغالب مؤطرة بأوضاع سياسية خارجية، بل إن كثيراً من أفراد هذه الجماعات والاحزاب إرتبط عضوياً في تجارب خارجية كما فعل الامراء الاحراء الذين استقروا في مصر والتحموا بالتجربة الناصرية وهكذا بعض افراد الاحزاب اليسارية الذين ذهبوا الى موسكو او بعض الدول الاشتراكية مثل بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا الى جانب العراق وسوريا، وهكذا الحال بالنسبة للمعارضة الشيعية التي كانت تتخذ من طهران مقراً لها، والجماعات السلفية التي تقاطرت ضمن حملات متوالية على افغانستان للالتحاق بركب المجاهدين ضد الاحتلال السوفييتي، ثم إنبثت في الشيشان وكوسوفو ومناطق عديدة من العالم.

د ـ خطاب ثوري في استراتيجية العمل التغييري، أي ينزع الى تعميق الاعتقاد بالبديل الثوري القائم على أنقاض نظام فاسد في الداخل، أي أن الخطابات التحريضية تستمد قوتها وعنفوانها من الدعوة الى ثورة شعبية عارمة من أجل إزالة النظام الذي توصمه الادبيات الداخلية لدى الاحزاب والجماعات السياسية بأنه نظام فاسد وكافر وظلامي وعميل للأجنبي وعاجز عن تحقيق شروط النهضة الشاملة على المستوى القطري والقومي والاسلامي.

هـ ـ مثالي ويرتكز على الاحساس المتخضم لدى أنصاره بأنهم يحملون نموذجاً كفوءا لاصلاح العالم، ورسالة لأمم الأرض، ولعل واحدة من تعبيراتها هو ارتباط أصحاب هذه الخطاب بحركات ذات توجهات عالمية وأممية، وتحمل هذه الحركات استراتيجية مثالية مصممة نظرياً لاصلاح الكون. فقد كانت فكرة الاممية من المبادىء المحورية التي يقوم عليها الخطاب التحريضي لدى هذه الجماعات، فقد بشّر بها اليسار والشيعة ولايفوتنا الاشارة هنا الى أن النشاط الديني السلفي الرسمي والشعبي على المستوى الدولي قائم على مبدأ أممية الاسلام ونشر الدعوة في كل أنحاء المعمورة التي غمرتها الجاهلية بحسب الكتابات السلفية الارشادية، وقد سعى تنظيم القاعدة الى تحقيق هذا المبدأ عملياً من خلال اعلان حرب مفتوحة الجبهات على المسرح الدولي.

الخطاب الاصلاحي

منذ مطلع العام الفائت، أي يناير عام 2003 بدأت السعودية تشهد تحولاً جوهرياً في العمل السياسي على مستوى الخطاب المبثوث والمستوى التنظيمي، وهذا يعد في حده الأعلى إيذاناً بتآكل الخطاب التحريضي بكل خصائصه الواردة سابقاً، ويمكن تسليط الضوء على أهم مفردات التحوّل والتي يمكن أن تكون مقومات لخطاب سياسي جديد ووطني في آن. فهذا الخطاب كما يمكن توصيفه في الفترة الراهنة على أنه:

أ ـ سياسي بالدرجة الاولى، حيث تقل فيه الصبغة الايديولوجية رغم أن المشاركين في صياغته والترويج له مازالوا محتفظين بهوياتهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية. فهذا الخطاب لم يؤسس للترويج لأفكار بقدر إهتمامه وتركيزه على المطالب ذات الطابع السياسي، ولكونه كذلك فإنه جاء الى حد كبير خالياً من التعبيرات والميول الايديولوجية. إن من الضروري الاشارة الى أن أية محاولة لاضفاء لون خاص على الخطاب يفقد زخمه الاعلامي والشعبي، تماماً كما حصل بالنسبة للعريضة الثالثة التي بالرغم من أنها استمدت جزءا كبيراً من انتشارها وزخمها السياسي من الروح العمومية التي نفختها عريضتا (الرؤية) و(دفاعا عن الوطن) الا أنها لم تحظ بإهتمام وتأييد واسع النطاق ولم تستقبل بترحيب مفتوح من قبل كافة فئات المجتمع، والسبب في ذلك أن غالبية القائمين عليها كانوا يمثلون خطاً فكرياً وفئوياً، إضافة الى المسحة الايديولوجية الفاقعة التي كست عبارات ومضامين ومطالب العريضة، فيما كان الاتجاه العام لدى دعاة الاصلاح من مختلف الجماعات والتيارات السياسية يتجه نحو الاتفاق على أجندة سياسية موحدة من حيث المطالب المرفوعة الى القيادة السياسية، باعتبار أن هذه الاجندة قابلة لأن تكون عامل توحيد دون الانغماس في مرحلة الاستحقاق السياسي قبل حلول أوانها.

ب ـ عمومي وطني، أي أنه خطاب جماهيري موجّه لكافة فئات الشعب ويستهدف أيضاً إيصال رسالة الى عامة الافراد وينطلق من مشاعر ومبادىء وطنية. ولكونه مكرّس لمعالجة مشكلات ذات بعد وطني، وتمّس كافة أفراد الشعب، أمكن القول بأنه خطاب وطني، ويعبّر عن مجموع الافراد وليس فئة محددة.

جـ ـ عقلاني: لم ينشأ الخطاب كرد فعل على أوضاع خارجية وإن كانت هذه الاوضاع وفّرّت مناخاً ووسيطاً سياسياً مناسباً لنشأته، فقد تشكّل هذا الخطاب وارتبط بظروف داخلية محضة، وجاء كرد فعل على أوضاع محلية اقتصادية وسياسية وأمنية وإجتماعية ولا يحمل معه مشاريع بديلة مستوردة من الخارج، أي أنه لا يدعو الى نقل (النماذج الجاحزة) بقدر ما يدعو الى إيجاد حلول شاملة وصحيحة لمشكلات غير قابلة للترحيل. وينبذ أصحاب الخطاب فكرة الترويج لمشروعهم الاصلاحي عبر إثارة الحماسة العاطفية في قلوب المناصرين من أجل تجنيدهم وكسب ولاءهم، بل يؤكد الخطاب على عقلانية الخطاب في ابلاغ رسالته وفي إستهدافاته وأنه ينطلق من مبادىء واضحة ومحددة وليست استفزازية أو انفعالية، ومازال يرى في أن هناك هامشاً من التفاهم بين دعاة الاصلاح والسلطة ما يحول دون تطوير خيارات الضغط على الدولة من أجل الاصلاح.

د ـ سلمي: أي أنه لا يستهدف في تحقيق انتشاره والتعبير عن نفسه اللجوء الى وسائل عنفية في التعبير عن نفسه، كما أنه لا يستهدف إزالة واجتثاث النظام القائم بل يتمسك بشدة بضرورة تطوير النظام الحالي ومؤسساته بطريقة سلمية الى مستوى يسمح بتوسعة قاعدة المشاركة السياسية والتمثيل العادل والمتكافىء في عملية صناعة القرار وإطلاق الحريات العامة والسماح لنشوء مؤسسات المجتمع المدني، ووضع خطة إصلاحية إقتصادية من أجل معالجة مشكلات البطالة والدين العام والفقر..ويؤكد أنصار هذا الخطاب بأنهم شركاء في مناهضة العنف والدفاع عن الوطن في مقابل محاولات جرف البلاد الى مزلق العنف.

هـ ـ واقعي: أي أنه لا ينطلق من مثل مجرّدة أو نظريات تسبح في الفضاء، بل هو ينطلق من واقع المجتمع ومشكلاته ويتبنى حلولاً لقضايا ذات صلة حميمية بما يجري في حياة الافراد اليومية. فقد تخلت الجماعات السياسية المشاركة في تصميم وتعميم الخطاب الاصلاحي عن الانصهار في مشروع أممي تديره أطراف خارجية، بل يرفض رجال الاصلاح تدخّل أي جهة أجنبية مهما كانت في الشؤون الداخلية للبلاد إيماناً منهم بأن الاطراف الخارجية لها مصالح وأطماع في الداخل وتحاول استغلال دعوات الاصلاح في علاقات ابتزازية، فيما لا تزال هناك فرصة للتوصل الى إتفاق مع القيادة السياسية على تحقيق التطلعات الشعبية الاصلاحية ضمن الاطار الوطني.

قد يقال بعد ذلك كله، أن من المبكر جداً الحديث عن تبلوّر خطاب وطني إصلاحي يحظى بإجماع التيار العام في السعودية، على أساس أن ما يستند اليه الحديث لا يتجاوز عريضتين وقّعها دعاة إصلاح من كافة التيارات السياسية، فيما قد تكون العريضة الثالثة بمسحتها الايديولوجية وتمثيلها الفئوي الغالب دليلاً مضاداً على دعوى تشكّل خطاب اصلاحي. ولكن يمكن الرد على ذلك بالقول بأن العريضتين هما ثمرة لنشاطات واتصالات ولقاءات عديدة وتحوّلات فكرية شهدتها الساحة السعودية في السنوات الأخيرة وأوصلت الى مرحلة متطوّرة كان فيها الجميع مؤهلاً نفسياً وفكرياً وسياسياً للدخول في أعمال سياسية مشتركة، وأن السيرورة العامة تؤكد بان لا خيار أمام الجميع سوى التمسك بخيار وطني بوصفه منقذاً جماعياً، إذ لم تعد الاعمال الفئوية مجدية ولم يعد البحث عن حلول جزئية ومنفردة حاسمة.

نشير أخيراً الى أن هناك فئة داخل المجتمع تحاول حشد جمهورها بالتوسل بالخطاب التحريضي ونخص بالذكر علماء التيار الديني المتشدد وجماعات العنف، ولكن هذا الخطاب يتآكل حالياً لصالح الخطاب الاصلاحي العقلاني الذي لم يعد يتحرك على أساس دعاوى ايديولوجية محضة وان حاول بعض من يحسبون عليه ذلك. إن أصحاب الخطاب الاصلاحي يتحركون على أساس ملامسة مشكلات المواطن وقضاياه اليومية والمباشرة، وهذا يجب أن يكون عامل تطمين للمجتمع والدولة معاً، والسبب في ذلك أن المجتمع يستشعر بأن صوتاً وطنياً موحّداً ينطلق من كافة أرجاء البلاد ويهدف الى ايصال مطالبه الى القيادة السياسية ويعبّر عن هموم أفراده قاطبة، ومن جهة أخرى يملي هذا الخطاب على الدولة أن تكف عن لغة التجريم والتخوين وأن تضع الخطاب وأصحابه في الموقع اللائق بهم، لأنهم يأتون إليها مملوئين وطنية ونزاهة وإخلاصاً.

الصفحة السابقة