الحوار الوطني الثاني

من الحوار الفكري الى الحوار السياسي

بالرغم من أن موضوع الغلو الذي بحثه المؤتمرون في مكة في مؤتمر الحوار الوطني الثاني يحمل أبعاداً فكرية، إلا أن المؤتمر الحواري، بل مركز الحوار نفسه مدفوعٌ بضغوط السياسة المحلية والدولية. من الصعب اليوم أن تناقش القضايا في المملكة بعيداً عن خلفياتها السياسية والإجتماعية. فلا يوجد تنظير في الهواء، وقد كان حرمان المواطنين لعقود طويلة من الدخول في السياسة ودهاليزها باعتبارها حكراً شخصياً على العائلة المالكة، وباعتبارها أحد (أبواب الشرّ) والأذى الذي يمكن أن يصيب المواطن.. ذلك الحرمان الطويل أدّى بنتائج معاكسة تماماً. صحيح أن السياسة تقتحم بيوتنا وتمتزج مع خبزنا اليومي وتجري فينا مجرى الدم، وتؤثر على كل حركاتنا وسكناتنا بل وتفاصيل عباداتنا.. إلاّ إن المملكة تشهد تركيزاً للأبعاد السياسية غير مألوف، مدفوع بالرغبة في التغيير، وبالشعور المطلق بأن السياسة تمددت في الماضي فدخلت كل شيء، وبالتالي فإن الحلول السياسية ـ بغض النظر عن حجم صحة ذلك ـ هي ما يمكن البدء به، وأن كل الأمور يجب أن تعالج من زواياها السياسية.

بالطبع فإن المواطنين الذين يناقشون الفقر والبطالة والفكر والعنف والتعليم والخدمات كما المفاهيم الكلية الكبرى المتعلقة بالوطن كالوحدة والهوية.. إن مناقشة هذه المواضيع يمكن أن تقارب سياسياً بشكل محض.. أو أن بعضها سياسي بأصله.. لكن هذا لم يكن في بال المسؤولين عن الحوار الوطني، أو من دعا اليه، أو من نادى الى الحوار وتأسيس مركز له.

ولَئنْ خدم الحوار الوطني صانع القرار السياسي في بعض أغراضه، كحشد الرأي العام المحلي ضد التطرف الفكري وضد العنف الذي وصل بأذاه الى المسؤولين من كبار الأمراء، إلاّ أنه في نفس الوقت صعبَ حصر النقاش في الإطار الفكري المحض، أو على الأقل تناول مواضيع كالغلو بشكل متناسب من زوايا مختلفة، رغم أن مواضيع الحوار الأخير في عناوينها العريضة متعددة.

ذلك أن المجتمعين بل والمواطنين الذين يرقبون حوار مكة وقبله حوار الرياض، بمن فيهم المسؤولين، كانوا يتحدثون غير بعيدين عن ظروف الأزمة التي تعيشها البلاد وملابساتها المختلفة. كان الوضع الأمني المتأزم مسيطراً، وموضوعات الإصلاح تملأ الآفاق بأصدائها، خاصة مع طرح العريضة الجديدة التي نادت بملكية دستورية ووضع دستور دائم للبلاد. الجو العام في المملكة ملبّد بالسياسة، والمواضيع المبحوثة متلبّسة بالسياسة من رأسها الى أخمص قدميها، والمتحاورون في كثير منهم ليسوا منظرين بالمعنى المتعارف عليه، بل يمثلون قطاعات رأي وجماعات مصالح، وممثلي مذاهب ومناطق، ومنتمي أحزاب سياسية من ذوي التاريخ العريق. ومثل هؤلاء لا يمكنهم مناقشة موضوع الغلو من زواياه الفكرية دون الخوض في موضوع السياسة خوضاً.

وهذا ما حدث بالفعل في مؤتمر الحوار الوطني الثاني. فقد بدا الحوار سياسياً منذ يومه الأول، رغم شحّة ما رشح عنه وإحاطته بالسرية والكتمان، ورغم أن بعض الأوراق المقدمة، والتي نشر مركز الحوار الوطني ملخصات لبعضها، تحمل طابعاً تقليدياً بحتاً في مناقشة الموضوع، وكأن بينها وبين السياسة ما بين الأرض والسماء.

لقد أثارت بعض أوراق الحوار جدلاً كبيراً، نظراً لتنوّع المشارب الفكرية والمذهبية والسياسية، كورقة دور مناهج التعليم في نشر ثقافة الإرهاب والتطرف والغلو، وكذلك العلاقة بين الغلو الديني والأوضاع السياسية. وما قيل أثناء النقاش وتداول الرأي ـ حسب بعض المشاركين في المؤتمر ـ كان شديد السخونة، ولامس قضايا لم يكن لتطرح لولا استشعار الجميع بأن الوضع الداخلي وصل الى مراحل متقدمة من التأزم، وأن الدولة ـ وليس نظام الحكم فحسب ـ تعيش ظروفاً عصيبة، وإرهاصات تغيير عميقة، وتراجع لدور الدولة مقابل قوى المجتمع المتوثّبة للإصلاح. لقد طرح مثلاً موضوع الآثار الإسلامية في الحجاز، وهو موضوع من المحرمات، وطالب عددٌ من المؤتمرين التوقف عن تدمير الآثار الإسلامية، بل وغير الإسلامية بحجج الشرك، كما طالبوا بإعادة الإهتمام بها وتعميرها لأنها تمثل الذاكرة العامة لجموع المسلمين وليس لسكان المملكة والحجاز بصفة خاصة.

أيضاً ناقش المؤتمرون دور الإعلام المحلي في نشر التعصّب والغلو، وقد قدّمت ورقة ضعيفة تناولها المؤتمرون بالنقد، ورأوا بأن الإعلام ساهم في نشر التطرف لأنه اعتمد ترويج الفكر والرأي الأحادي، وأقصى الكثير من التوجهات والآراء، حتى أصبح المجتمع رهين الرؤية الأحادية للمواضيع، وكان ذلك المدخل الكبير للتطرف. أيضاً تحدث البعض عن ضرورة وجود هامش حرية كبير للإعلام في مناقشة القضايا المحلية، وكذلك في تأسيس الصحف والمجلات وتخفيف القيود بهذا الشأن، وكذلك المطالبة بتعديل نظام المطبوعات لأنه لا يتلاءم مع المرحلة الحالية لأنه إعلام رسمي ويجب أن تتوفر القنوات للآراء الأخرى.

في صلة موضوع الغلو والإرهاب بالأوضاع الإقتصادية، فإضافة الى الأوراق المقدمة بهذا الشأن، والتي انتقدت الأداء الحكومي الإقتصادي، والتلاعب في المال العام وهدره، وعدم تلبية المتطلبات الأولية للمواطنين، وعدم القدرة على جذب الإستثمارات بسبب القيود الحكومية الكبيرة.. إضافة الى ذلك، كان واضحاً أن النقاش اتجه الى تعزيز حقيقة أن الإنهيارات الإقتصادية لم تكن بسبب وضع خارجي (انخفاض أسعار النفط مثلاً والتي شهدتها المملكة في فترات سابقة) وإنما في الأداء الحكومي، وفي ضعف الرقابة المالية، وانتشار الفساد والنهب لميزانية الدولة وممتلكاتها.. وكل ذلك يؤشر الى مسؤولية الطاقم الحاكم من الأمراء أنفسهم. كما أن الأغلبية من المجتمعين رأت بأن سوء الأوضاع الإقتصادية له دور حاسم في تأجيج العنف.

من زاوية المشتركين في المؤتمر، فإن الجميع يعلم بأن المؤسسة الدينية الرسمية ترفض مبدأ الحوار وهناك من بين الأمراء من يعضدها في ذلك، من باب المنافسة ضد ولي العهد، ولهذا رأينا تخلف الأمير سلطان في حفل استقبال المؤتمرين في نهاية المؤتمر، وحتى الأمير نايف وزير الداخلية فإنه جاء الى الحفل على مضض ولم يكن يشعر بالإرتياح من ذلك. رجال المؤسسة الدينية يرون التالي:

1 ـ إن الحوار الوطني يضع المذهب الصحيح (المذهب الوهابي الرسمي) على قدم المساواة مع المذاهب الأخرى التي يعتبرونها شركية وبدعية (الصوفية والشيعة والإسماعيلية) فكيف يتساوى الحق والباطل حسب رأيهم، وكيف يجتمع أهل الحق مع أهل الضلال؟!

2 ـ إن الحوار يمنح المذاهب الدينية وكذلك المذاهب السياسية التي يمثلها الليبراليون (أو حسب تعبيرهم العلمانيون) شرعية التواجد والعمل والنشاط بين معتنقي المذاهب والأفكار السياسية الأخرى التي تعرضت للقمع منذ تأسيس المملكة، ورجال الدين الوهابيون لا يرون إلاّ القمع والصهر للمختلف معهم مذهبياً وأيديولوجيا.

3 ـ إن الحوار الوطني قد يفضي الى نقد ممارسة المؤسسة الرسمية وهو سيصبح تظاهرة ضدها، باعتبارها المسؤولة عن ترويج الفكر المتطرف التكفيري وعن ترويج الغلو، وكل ما يقدم من نقد تتحمله هي بالدرجة الأساس، سواء ذاك الذي تتضمنه مناهج التعليم، أو الفتاوى غير المتعقلة أو التحريض على الآخر من المنابر الدينية السلفية. ولم يشأ شيوخ المؤسسة أن يحضروا مؤتمراً أو يباركوه وهو يعني قدحاً في فكرهم ومسلكهم.

4 ـ إن مؤتمر الحوار قد يفضي من وجهة نظر رجال المؤسسة الدينية الى إشراك الفئات المذهبية والمناطقية المهمّشة في إدارة الدولة، وربما في المؤسسة الدينية نفسها، أو اختلاق مؤسسات مشابهة لكل منها.

لهذا فإن الكثيرين رفضوا دعوة الحوار، ليس بين المؤسسة الرسمية، بل بين القريبين منها في المنهج الإقصائي، وإن كانوا متباعدين عنها سياسياً، مثل ناصر العمر وسفر الحوالي وعبد الله الجبرين وأضرابهم. لقد قلّب هؤلاء ونظراؤهم الرسميون الأمر فوجدوا أن المشاركة ليس فقط غير صالحة وغير مفيدة لهم بل ربما تكون (محرمة).

فضلاً عن هذا، ورغم مشاركة السلفيين في المؤتمر بشكل مكثف، فإن كثيراً منهم دخلوا بنيّة (إبعاد الضرر أو تخفيفه) وعدم ترك الساحة من وجهة نظرهم لأصحاب البدع والشرك! ولهذا كان لبعض هؤلاء صولات وجولات في جلسات الحوار، بعضها اتّسم بالحدّيّة، بل أن بعضهم تجاوز ـ كما يقول مؤتمرون ـ موضوع المؤتمر، وكاد أن يصرح بكفر بعض الحاضرين، وغمز من قناتهم. لكن تجربة الجلوس والنقاش لا بدّ أن تؤثر إيجابياً في رؤية جميع المشاركين، فشرائح المجتمع في المملكة متقاطعة متدابرة (لخدمة السلطة) وها هي الآن تحاول أن تتفاهم وتتعرف على بعضها عن قرب، ربما مرة أخرى (خدمة للسلطة والمجتمع معاً).

في مؤتمر الحوار الأول، قال الشيخ محمد عبده يماني، وزير الإعلام السابق، وأمام ولي العهد أنه لم يكن ينوي حضور المؤتمر (في الرياض آنئذٍ) وكيف يمكنه أن يحضر للقاء أناس سيقومون بشتمه والتعريض بدينه وأخلاقه.. أناس سبق لهم أن كفروه وتهجموا عليه؟ ولكنه ـ كما أضاف ـ وجد أن الأمور ليست بذاك السوء، وأن إمكانية التلاقي والحوار والتفاهم ممكنة.

وفي مؤتمر الحوار الثاني، ألمح الدكتور السيد محمد علوي المالكي الى شيء من ذلك، حين ألقى كلمته أمام ولي العهد، وأشار الى ما بين علماء الحجاز وبين من أسماهم بـ(طلبة العلم) أي العلماء النجديين من سوء علاقة، والذين كان السيد المالكي يؤمل أن يخفّ غلواؤهم وتشددهم، خاصة وأنه واحد ممن أوذي كثيراً بسببهم، حيث ظهرت الفتاوى الكثيرة التي تكفّره وهو علم الحجاز الديني، هذا غير الكتب التي أُلفت ونشرت داخل المملكة وبترخيص من مسؤوليها، الذين لازال بعضهم الى اليوم يكنّ للمالكي كراهية مؤسسة على الإختلاف المذهبي والمناطقي.

بالرغم من كل ذلك، فإن الأجواء العامّة التي سادت داخل ملتقى الحوار تحمل بذوراً إيجابية للغاية، فهي مرحلة تأسيس للعلاقة بين شرائح المجتمع المتضاربة، ولقد اكتشف كلّ خصمه أو من يعتقد أنه كذلك. ولا شك أن التغيّر لن ينحصر في رؤية الوهابيين الى من عداهم، بل وأيضاً في رؤية الآخرين تجاه التيار السلفي نفسه والألوان الكثيرة التي تتنازع مؤيديه. وهناك إجماع كبير بأن الشيخ الحصين الذي قاد مؤتمر الحوار كان شخصية غير عادية في علمها وثقافتها واحترامها ونزاهتها وتقديرها للمشاركين جميعاً. وهذا الإنطباع نقل الى مختلف مناطق المملكة التي شاركت في الحوار والى كل الحوارات الصغيرة التي عقدت في مدن عديدة من المملكة بعد انفضاضه الرسمي.

التطبيع المذهبي إن صح التعبير كان مدخله سياسي: أمرٌ من ولي العهد، وعبر نافذة واضحة: مركز الحوار الوطني.. مثلما كان التقاطع والحرب المذهبية قد جاءت عبر بوابة سياسية وبموافقة سياسية. لذا لا يمكن تحميل التيار السلفي وحدة ما نشهده من انقسام خطير في المجتمع السعودي، بل النخب السياسية والتكنوقراطية أيضاً. وإذا كان الغرض من من الحرب المذهبية هو الإخلال بتوزيع السلطة والثروة، او احتكارهما.. فإن إيقاف الحرب المذهبية، سيفضي ـ كما يتوقع ـ الى توزيع أكثر عدلاً للسلطة والثروة، وهذا وحده كفيل بتهدئة الأوضاع وتقوية اللحمة بين أفراد المجتمع، وتوثيق عرى العلاقة بين الشعب والعائلة المالكة.

يجب أن ينجز الإصلاح السياسي ليؤتي الحوار الوطني ثماره، أما إذا اتخذ الصفة المذهبية ـ وقد خفّفت في المؤتمر الثاني، ويمكن ان تخفف في اللقاء الثالث بعد ثلاثة أشهر ـ وتمّ الإصرار عليها، فإن المشتركات بين المتحاورين، أي بين فئات المجتمع، ستكون قليلة، أو عرضة للجدل والخصام، أما موضوعات الإصلاح فستوفر بدائل التقاء وتصنع أخرى، تعوّض عن الإختلاف العقدي، وتدعم منطق المصلحة الوطنية.

الصفحة السابقة