شجب تغيير المناهج

بيان تحريضي يؤسس للخروج على الدولة

وقّع مائة وستة وخمسون مفتياً وقاضياً وإستاذاً في العقيدة الاسلامية ومهنياً بياناً إستنكارياً ضد تغيير منهج التعليم الديني الرسمي، تسنم ثمانية عشر منهم مناصب سابقة في السلك الديني، وهم من تجشم عناء صياغة البيان، واضطلع بجمع التوقيعات عليه. لغة البيان تقترب كثيراً من لغة بيانات سابقة أصدرها بعض الموقعين حول قضايا داخلية واقليمية. وأمكن القول بأنه بيان المتضررين، الذين وجدوا بأن خطاباً دينياً ساهموا في الترويج له وبناء قاعدة شعبية من ورائه قد خضع للفحص والتغيير وتالياً تم جزئياً إحباط مفعوله المعنوي الانفعالي الذي يحقق به الداعية ذاته في جمهور المستعمين.

إن الاسماء الورادة في ذيل البيان تمثل تيار التشدد الديني في المملكة، الذي ألهم وألهب جماعات العنف. ولم يكن، والحال هذه، مستغرباً أن تخلو قائمة الموقعين من أسماء نسائية أو من خارج المدرسة السلفية، رغم أن لغة البيان توحي وكأنها تعبّر عن لسان حال الأمة، أو على الأقل لسان حال شعب المملكة بكافة فئاته وطوائفه ومدارسه الفكرية. وهذا يعكس جزءا قاراً في العقيدة التنزيهية الشمولية والنزعة التمثيلية المطلقة الجانحة الى مصادرة الرأي الآخر والافتئات على حقه في التمثيل بوصفه كياناً مستقلاً يجب حسابه ضمن المجموع الكلي.

كون أكثر الموقعين هم من جامعة الامام محمد بن سعود، أو من الجامعات والمراكز الدينية الأخرى لا يعني إستلاب حقهم في التعبير عما يشاؤون من مواقف وأفكار يرونها متعارضة ومنزعهم العقدي، الا أن ما يغيب عن أذهان الموقعين هو أنهم يمثلون شريحة في المجتمع فحسب، وليس مجموع شرائحه كما توحي لهجة البيان، وهذا ما ظهر في أغلب البيانات الصادرة عن بعض أفراد الموقعين، فاللغة التعميمية والاطلاقية التي درج بعضهم على إستعمالها تمثل إنتهاكاً لحق الآخرين وإكراهاً لهم على تبني مواقف قد لايشاركون الموقعين عليها، وهذا جانب عدل يغفل أصحاب العقائد التنزيهية الشمولية عنه، سيما في الآونة الأخيرة التي كثرت فيها (بيانات بإسم الأمة)، حتى جاءت ردود الفعل المضادة بنفس القدر من العمومية. فقد تعرضت الأمة بأسرها لعقاب جماعي بسبب هذا النوع من البيانات الصادرة عن فئات قليلة العدد صادرت حق الامة بأسرها، وإقترفت أخطاءً قاتلة دفع الجميع ثمنها الباهض.

البيان بمضمونه الاحتجاجي يسوّغ لخطاب التشدد والعنف، ويتجاوز حد الموضوع المعلن، أعني تغيير المناهج ليستوعب المواجهة المفتوحة بين الاديان، متسلحاً بنزعة اسكاتولوجية شديدة الضراوة التي ترى في المواجهة الحتمية بين شعوب الأرض قدراً إلهياً حتمياً، بحسب ما ورد في التراث الديني الخاص.

إنطلق الموقعون على البيان كما جاء في ديباجته من عقيدة الولاء والبراء، التي تمثل حجر الزاوية والمرتكز الايديولوجي الذي تستند عليه وتستمد منه جماعات العنف مشروعية الحرب على الآخر، الكافر والمشرك دون فصل بين الولايات المتحدة والفرق الضالة وأخيراً الدولة كما يشي فحوى البيان نفسه، وكأن الموقعين أرادوا التذكير ضمنياً بتمسكهم الشديد بهذه العقيدة، ونبذهم التام لأي تعديل في أحد عناصرها. فقد إكتسبت هذه العقيدة ـ بحسب ترجمه عنفوان الروح الخاصة لدى الموقعين ـ زخماً ايديولوجياً هائلاً، وتكاد في ركنيتها تتساوى مع وربما تتفوق على أركان الاسلام المعروفة.

إن الاستهداء بالآية القرآنية يجنح بمعدّي البيان الى تثبيت معيارية دينية تعين على وتشرعن إعادة إنتاج التاريخ وإحضاره بسطوة في حاضر له ظروفه وشروطه المختلفة. فقد توهم معدو البيان تواطئاً بين فئة من المسلمين مع (الكفارّ!!) من أهل الكتاب، يسلب فيه الطرف الأول مصداقية المتبنى الايماني العقدي، بفعل المؤازرة الخفية التي يظهرها المسلمون للكافر والمشرك تلبية لمصالح متبادلة، قد تكون فيها كفة الكافر أكثر رجحاناً، بما يقرّب ذلك من مفهوم العمالة والخيانة، بحسب النص التالي:

(وقد اقتضت حكمةُ الابتلاء أن يكون لهم من هذه الأمة أولياء يسرون إليهم بالمودة، ويسارعون في موالاتهم واسترضائهم، وهؤلاء من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا وقد يصلون ويصومون معنا، لكن ولاءهم وهواهم مع أهل الكفر والشرك والضلال، خشيةً على أنفسهم ومصالحهم من تسلط الكفار..وفي هذا الزمان العصيب أعلن كثير منهم موالاتهم للكافرين ، وامتثالهم لأوامر اليهود والصليبيين ، فهم يرددون هنا ما يقال في دوائر الكفر العالمي هناك، وقد رضوا أن يتولوا بأنفسهم ما يعجز الأعداء عن مباشرته من تشويه لدين الإسلام، وإضلال للمسلمين عن الصراط المستقيم وتحريف لعقيدتهم المنـزلة من رب العالمين).

فهكذا تُصوّر القضية في بيئة النص الديني المجتزىء، وفيها أيضاً تتشكل رؤية كونية تملي نمط تفكير من نوع خاص يضع مسألة تغيير المناهج في سياق مؤامرة خفية وتواطئاً معدّاً بين أطراف باتوا يحتكرون كافة الأدوار على المسرح العالمي، وهم اليهود والنصارى وذيولهم في داخل بلاد المسملين، من فرق ضالة وتيارات منحرفة، فخيوط اللعبة في العالم، بحسب مخرجات الذهنية المسكونة بنظرية المؤامرة، تقع في أيدي قوى خفية، تخطط لتهديم عقيدة المسلمين وتفرض دين النصارى واليهود بديلاً. مكوّنات البيان تخفي بداخلها الكثير من الاستبطانات، وهذا يفسّر جزئياً طبيعة التصويرات الخاصة للحوادث الجارية، فثمة سلسلة من المؤامرات تحاك ضد الاسلام، وثمة قوى خفية تكيّد للاسلام من داخله وخارجه.

في واقع الأمر أن هذه الرؤية التحليلية الخاصة قذفت بأصحابها في معسكر الآخر دون وعي بذاتها واعداداتها، وانقطعت عن خط سيرها الطبيعي، بحيث حرمت نفسها من تقييم واقعها ونقد ذاتها، بل أوهمت هذه الرؤية أصحابها بأنهم المالك الأوحد للحقيقة الغائبة عن مجتمعات الأرض، فتمسكت بما تراه سر الاسرار، ونبذت ما تراه الأغلبية من أهل دعوتها بأنه مصدر تدمير للعقيدة وأهلها.

إن الشعور بالامتلاء الايماني الذي يتحزّم الفئة القائمة على البيان، يولّد ما يمكن وصفه بإنتحابية واهمة على ضياع مصدّر تميّز الأمة كما يختزله البيان في عقيدة الولاء والبراء ومملياتها. وفي ذلك إشارة واضحة الى فصل النص الديني عن واقعه التاريخي، ونفي العلاقة بين العقيدة ومصالح الامة الكبرى، التي تعرضت للضياع بفعل التطبيق الخاطىء للنص. ومن الجدير ذكره، أن البيان تحاشى المفعول التدميري لعقيدة الولاء والبراء على الخارج والداخل، فلم يشر من قريب أو بعيد الى التداعيات الكارثية الناجمة عن الخطأ القاتل في الحادي عشر من سبتمبر، ثم سلسلة العمليات الارهابية التي دكت البلاد في صميمها، ومزّقت صورتها في أرجاء العالم، حتى بات الاسلام يدرج في قائمة العقائد المشجّعة على الارهاب والعنف. فقد أسدت سذاجة بعض المهووسين بالمواجهة الحتمية بين الاديان خدمة مجانية للقوى الامبريالية في الغرب كيما تطلق يدها في تغيير خارطة العالم، ففي مقابل برجي نيويورك سقطت دولتان اسلاميتان تحت الاحتلال، فيما بدأت الولايات المتحدة إعادة صياغة الشرق الاوسط والعالم تحت شعار (الحرب على الارهاب). لقد أخفق روّاد سد الذرائع في أن يسدّوا هذا الباب في وجه الاطماع الامبريالية، فقدموا ذريعة على طبق من ذهب للولايات المتحدة كيما تنتقم بطريقتها الخاصة.

تغيير المناهج: مطلب داخلي أم خارجي

ثمة إلحاح شديد لدى معدّي البيان على إخضاع كل متغير داخل رؤية كونية تقوم على مفهوم ايديولوجي في الصراع بين الاديان، إنها رؤية تضع تغيير المناهج في سياق الحرب على الاسلام، وتالياً العدوان على سيادة الأمة واستقلالها وهويتها وخصوصيتها. ومما تقصر الرؤية عن إستيعابه أن تغيير منهج التعليم الديني في المدارس الحكومية كان مطلباً داخلياً بالدرجة الأولى، فيما لو أراد معدو البيان الانصاف قبل وضع فرضية التواطىء. ففي هذه البلاد من قدّم قراءة نقدية في المناهج قبل سنوات لعل آخرهم الاستاذ حسن فرحان المالكي، وهناك في دول الجوار الخليجي من دعى الى تصحيح منهج التعليم الديني كونه غير منسجم مع العصر، وينمّي مشاعر الكراهية على قاعدة دينية.

وكان مستغرباً اصرار معدي البيان على تصوير دور لشخص أو عدة أشخاص بحجم الايغار في صدور الامريكان على محتويات المناهج من عقيدة الولاء والبراء، وكأن هؤلاء يشكّلون إحدى مجموعات الضغط الفاعلة في الولايات المتحدة وجزءا نشطاً في مطبخ القرار السياسي الأميركي، إستناداً ـ وهنا الطامة ـ على ظهور شخص أو أكثر في وسائل الاعلام الأميركية تنتقد جانباً من العقيدة الوهابية. إن ثمة إختلالاً خطيراً في التقييم لابد من الاشارة اليه، فكما توحي عبارات البيان إن الولايات المتحدة تبدو وكأنها خلو من مراكز الابحاث، والجامعات المتخصصة، ودوائر الاستخبارات، والمكتبات الكبرى الجامعة لنتاجات العالم الثقافية والفكرية والعلمية، والخبراء الضالعين في دراسة حضارات شعوب العالم وأديانها، حتى تكون بحاجة الى شخص أو أكثر كيما يدّلهم على مواطن الخلل في منهج التعليم الديني في بلادنا، وكأننا نتعامل مع مخطوطات نادرة أو نشرات محدودة التداول، حتى يأتي من يسرّب خبرها الى الكفّار!! ولا يمكن تفسير ذلك سوى كونه تسطيحاً للوعي وإستخفافاً بقدرة القارىء للبيان على وضع الأمور في نصابها الحقيقي. أضف الى ذلك، أن من أوليّات الحرب إمتلاك معرفة إجمالية بقوة الخصم، ولا يبدو من مضمون البيان أن الموقعين يدركون قوة عدوهم، حين توهموا بأن شخصاً قادر على إملاء السياسة الخارجية للولايات المتحدة، أو تخفيض تحالفها الاستراتيجي مع المملكة.

جانب آخر يلح على التذكير به وهو أن منهج التعليم الديني الرسمي ليس نصاً دينياً وإن استهدى به، فسيظل في كل الاحوال مجهوداً بشرياً ولن يتجاوز حد الشارح للنص الديني الذي لا يجوز المساواة والمطابقة بينهما، لأن في ذلك تقويضاً للنص الديني وللشروحات الاخرى المغايرة، التي قد لاتتفق معه. وإن زعم الحرب على الأمة واستقلالها وسيادتها بسبب تغيير المناهج هو زعم واهم، لأن البيان يتحدث عن أمة متخيلة مقطوعة الصلة بالواقع، وثانياً أن الأمة لم تجمع على هذا المنهج لأنها لم تستشر حين تم وضعه بادىء الأمر، فهو يعبّر عن عقيدة المشاركين في اعداده ومنهم من وقّع على البيان، فكيف يزج بالمجتمع في هذا البلد فضلاً عن الأمة بأسرها في أتون حرب الموقعين مع غيرهم. وثالثاً أن هذا المنهج لم يكن يعبّر عن عقيدة المجتمع بكافة فئاته وطوائفه حتى يقال بأن تغييره يسبطن تعريضاً باستقلال وسيادة الامة، فهذه فرضية تعسفية بتمثيل الامة من قبل فئة، وهي في ذات الوقت ترجمة أمينة للعقيدة الاستئصالية.

يحاول البيان رسم صورة التغيير ومضاداته ومؤدياته، أي أن تغيير منهج التعليم الديني ينتج هزيمة وانحلالاً وطمساً للخصوصية الايمانية، وهذا لم يكن مقصداً في التغيير البتة وليس نتيجة له، بل على الضد من ذلك أن نبذ التغيير يعني تسليماً واقراراً بتأثيراته التدميرية على جيل الشباب، الذي نشأ على عقيدة توصم العالم بأسره بالجاهلية وتنزع ـ زعماً ـ الى إصلاح الكون. لقد أراد معدو البيان عكس معادلة الوعي الديني من خلال تثبيت مدخل ملتبس الى (إحياء الثقة بين الامة، والتشديد على تمسكها بعقيدتها، وبثُّ روح العزيمة والأمل فيها)، بما يتطلب عودة من الباب الذي خرجت منه، وليس من خلال إعادة صياغة الوعي الديني على أساس فهم متطور للنص، لا يحبسها في سكونية الماضي ولا يتيه بها في القادم. لم يكن التغيير مضاهياً ولا مكافئاً أخلاقياً للانحلال كما يحاول معدو البيان إيهام القارىء، بل إن الضرورة هي الباعث عليه والدليل اليه. ولا يجب أن يحول الالتصاق المفتعل بالنص الديني وتدجيج البيان بلغة دينية صارمة دون إضفاء الصفة البشرية الاجتهادية على البيان وموقعيه، رغم أن هذا النزوع يستبطن تصنيفاً دينياً بين من هم في معسكر الايمان ومن هم في معسكر الكفر، ومهما يكن فإن خطاباً تنزيهياً كهذا يحقق قوته المعنوية من خلال التمترس خلف سواتر دينية، فضلاً عن الجرعة الانذارية التي يحملها البيان للمعنيين بقراءة البيان، يخوّفهم من عواقب الامتثال لممليات العدو المتوهم.

الجهل بالذات

يستنكر معدّو البيان على كون منهج التعليم الديني الرسمي يحتوي مواد تشيع الكراهية وتنتج الارهاب والعنف ضد الآخر، غير المسلم، بالرغم من أن القراءات المتفحصة التي قدّمت من قبل متخصصين تربويين في الداخل توصلت الى ذات النتيجة، قبل أن يلتفت اليها الغرب بعد الحادي عشر من سبتمبر. إن كتاب التوحيد والشروحات اللاحقة عليه وبخاصة فكرة تقسيم العالم الى معسكرين هما: أهل التوحيد وأهل الشرك والبدع، والاسلام والجاهلية بما يقتضي من أحكام وردت في باب عقيدة الولاء والبراء، يملي شعوراً بالكراهية ويولّد نزعة عنف ضد الآخر، وهذا ما عانى منه المجتمع في الداخل منذ عقود قبل أن تتدوّل أضراره منذ الحادي عشر من سبتمبر.

إن احتجاج معدي البيان على تهمة تحريض منهج التعليم الديني الرسمي على الارهاب يدحضه البيان نفسه الذي لم يخلو من عبارات التكفير ضد الغرب وشعوب عديدة في العالم لا تندرج في قائمة الامة المعنية في البيان، وهي بطبيعة الحال لا تنطبق بحسب الشروط المقررة في أدبيات هذه الفئة سوى على المدرسة التي ينتمي اليها الموقعون.

إن الجهل بتأثيرات هذا المنهج ودوره في صياغة ذهنية الناشئة يؤكد قصور من شارك في إعداد هذا المنهج، ومن بينهم من وقّع على البيان. فالانصاف يدعو هؤلاء الى إعادة تقييم منظومة ثقافية معرفية كانت حاكمة ومنفردة في العملية التوجيهية منذ قيام الدولة، عوضاً عن التفكير في تبرئة الذات بطريقة المماحكات السجالية البالية، التي تدفع باتجاه تنزيه الذات وإدانة الآخر بحق أو باطل. إشارة واحدة تكفي للقول بأن تغيير مناهج التعليم في بلادنا لا يتطلب تبرئة لمناهج التعليم في الولايات المتحدة أو في أي بلد كان في العالم. وبالمناسبة فقد مرّت مناهج التعليم في الولايات المتحدة بعمليات تصحيحية متكررة منها على سبيل المثال ما جرى في نهاية الستينيات حيث صدر تقرير بإسم (أمة في خطر) واشتمل على نقد واسع لنظام التعليم في الولايات المتحدة، وهناك أمثلة عديدة عن ثورات ثقافية وتعليمية وتربوية حدثت في عدد من دول العالم، من أجل تحسين أداء المجتمع والدولة وتطوير مؤسساتهما.

إن من سخريات الجهل بالذات إستحواذ شعور المنقذ على معدي البيان، حين توهموا بأن منهج التعليم الديني كجزء من منظومة معرفية ممتدة في التاريخ تشكّل في مجملها عقيدة خلاصية (ظهرت بركتها وعمّ نفعها لأجيال متعاقبة) دون توضيح مواطن البركة والمنفعة ما لم يتم اخضاعها للقسمة. فالانتقال من الامة الى الدولة يصل في صيرورته النهائية الى الفئة ليستقر في هيئة التحالف التاريخي بين العلماء والأمراء. فالبيان يذكّر بالاساس الايديولوجي للدولة، والدور السياسي الذي لعبته العقيدة السلفية في نشأة الدولة، حين شرّعنت السيطرة على الاقاليم والحاقها بسلطة مركزية في نجد. ولابد من الالتفات هنا الى ما ذهب اليه مصيغو البيان من تذكير للقيادة السياسية بالأساس الديني للدولة، وأن مشروعية الأخيرة مستمدة من تحالف ديني سياسي، تشكل فيه العقيدة السلفية أساسها الايديولوجي. وينبّه البيان الى أن أية تغييرات في العقيدة السلفية وحضورها الكثيف في مؤسسات الدولة سيؤدي الى (هزة عنيفة للأساس الذي قام عليه هذا الكيان، وتوحّدت عليه أقاليمه وقبائله). وزاد أصحاب البيان على ذلك بإستعمال نفس اللغة التي درجوا عليها حين افترضوا تسلسلاً منطقياً خاصاً يبدأ بتغيير منهج التعليم ويتلوه تغيير في العقيدة وصولاً الى الموقف الايديولوجي بأن الدولة توحّدت (على أساس باطل وكل ما قام على الباطل فهو باطل لا يصح الانتماء إليه ولا الولاء له. وهذا ما يريده الأعداء ويسعون إلى تحقيقه). والحال، أن ما ظهر حتى الآن لا يعدو كونه دعوة لاعادة بناء الدولة على أسس حديثة تستهدف دمجاً شاملاً وكاملاً لفئات المجتمع، وتخفيض المكوّنات الخاصة التي قامت عليها الدولة لأنها إن صلحت في إنشاء الدولة فإنها لا تصلح بحال في تعزيز عوامل استمرارها واستقرارها. وليس هناك من تبنى دعوة ازالة هذا الباطل، أي الدولة وبخاصة في الآونة الأخيرة سوى الجماعات التي تشرّبت تعليمات الموقعين وفتاويهم، ناهيك عن أن التقعيد الديني للصراع ضد الدولة هو ديدن الجماعات العقائدية المتطرفة كما سيأتي.

دعوة ضمنية للخروج على الدولة

ينبّه البيان الى تشبّث الموقعين بنموذج الدولة الدينية القائمة على تحالف العلماء والامراء، وهما الفئتان اللتان تتقسمان الأدوار والوظائف والمهام، وهذه القسمة توحي بأن الدولة إمتياز خاص بطبقتين متعاقدتين على تبادل المنافع، وهذا يكشف بوضوح تجاوز الموقعين لأسس الدولة الحديثة ومبدأها الأصيل، أي العقد الاجتماعي الذي يستوعب فئات المجتمع المنضوية داخل حدود الدولة. فمعدو البيان يؤكدون على التحالف الديني السياسي بوصفه مصدر استقرار الدولة وأن تصدع التحالف ينذر بزوالها.

هذا التأسيس يراد منه أن يكون تمهيداً لدعوة خطيرة، وهي الخروج على الدولة، فالبيان يحثّ على مخالفة شبه صريحة للسياسة التعليمية الجديدة من خلال التأكيد على المنهج السابق، وهذا يؤسس لمخالفة القانون العام، والخروج على الدولة، ونفي مرجعيتها، وأن القوانين التي تصدر لاحقاً عن مؤسسات دستورية مثل مجلس الشورى والنواب وغيرهما تكون غير شرعية بنفس المنطق، لأنها صادرة عن جهات غير شرعية في نظر هؤلاء، إذ أن الدولة نفسها باتت ناقصة المشروعية. ففي الفقرتين التاليتين ما يشير الى تلك الدعوة: (نخص المعلمين والمعلمات بالتذكير بوجوب بيان العلم ونشره وعدم كتمانه وتبيان الأصول الثابتة والعقائد الراسخة من مسائل الولاء والبراء، وتكفير المشركين، والبراءة منهم..لابد من وقفة حازمة صادقة. فالواجب التأكيد على الاستنكار، والمطالبةُ بزيادة المادة الشرعية في المناهج وغيرها وتثبيتِ التربية الدينية، والتعاون مع الدعاة والمربين لسد النقص الحاصل فيها).

وهذا يفرض سؤالاً: إنها رسالة لمن؟ ولاشك أن الموقعين على البيان يدركون بأن قطاعاً عريضاً من السكان هم مع تغيير المناهج، لا لكونهم أعداء الدين والعقيدة كما يحلو لبعض الموقعين قذف المؤيدين للتغيير به، ولكن لأن التغيير ضرورة دينية ودنيوية، ولأن اختزال التربية الدينية في عقيدة الولاء والبراء يحرم أبناء هذا الجيل من فهم صحيح وشامل للدين الذي جاء لبناء الانسان والحضارة لا لاشاعة الكراهية ومحاربة الغير، وأن إستحضار صورة مبتسرة عن تاريخ الاسلام في مرحلة التكوين لا يعبّر سوى عن وعي معلول ونفسية متشظية ترى في الدين سلاحاً يحارب به الدعاة مخالفيهم، فيما الامة تواجه تحديات كبرى في التنمية الشاملة بأبعادها المتنوعة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

إن ما يمكن أن نخلص به من قراءة البيان أن مخزون العنف الكامن في منهج التعليم الديني كبير الى حد لفت اليه إنتباه الموقعين، بعكس ما كان يردد بعض المسؤولين بأن تغييرات طفيفة جرت في هذا المنهج وأن التعليم الديني لا يشجّع على العنف، وأن دعاة العنف ايضاً مازالوا ينشطون في الساحة ويبثون فكرة تقسيم المجتمع والعالم قاطبة الى مؤمنين وكفّار، وفي ذلك تأييد ومبرر اضافي للعنف والارهاب.

الصفحة السابقة