مغالبة سياسية، وليست ثقافة وطنية

الولاء الوطني العجيب في مملكة آل سعود

عمرالمالكي

لا اعتقد ان هناك اي جدوى من هذا الجدل الذي يصر عليه كتاب الصحافة السعودية لطرح الخلافات المذهبية في المنابر الاعلامية، وتداولها وكأنها حدث يشكل جزءا من اهتمام الرأي العام. وواقع الحال ان هذه النقاشات العقيمة لا تعدو كونها جزءا من مادة التحشيد والتحريض المذهبي في الاتجاهين.

والغريب ان هذا الاصرار على الدخول الى ساحة الصراع المذهبي، بات واحدة من الخصوصيات السعودية، اذ قل ما تجد مثل هذا الاهتمام في الصحافة في اي بلد عربي او اسلامي بمثل هذا الاصرار والاثارة!! مما يكشف البعد السياسي والقصدية في الطرح، بما يخدم جزءا من استراتيجية النظام السعودي، في بحثه عن ركيزة يستند اليه في مشروعه للزعامة في المنطقة.

وكتعبير عن هذا الاصرار لا بد للمتابع ان يقف عند تقاطع مواقف ثلاثة من ابرز الكتاب السعوديين، على النظر الى الحدث المحلي والاقليمي، من المنظور المذهبي. كما جمع بين الكتاب الثلاثة: الخطأ الظاهر في التعامل مع الفكرة المطروحة. اذ ان منهجية التفسير المذهبي للحدث السياسي، هي المدخل الى الخطأ الفكري والخطيئة الوطنية.

فقد أخطأ علي سعد الموسى في المعادلة التي ارساها في تقابليته بين الانتماء والمرجعية في مقاله المنشور في صحيفة الوطن في الثامن من اكتوبر 2016 الذي يحمل العنوان التالي: (لأخي الشيعي.. تقابلية الانتماء والمرجعية).

وخطأ الكاتب يظهر في الملاحظات التالية:

أولا: ان هذه التقابلية كما سماها، غير مطروحة في المدرسة السياسية السعودية ومنهجها الطائفي، لانها في الاصل مدرسة إلغائية، ترفض التعدد ولا تدرك معنى التنوع، في الفكر والانتماء. وأصل المعادلة خاطئ.. اذ ليس ثمة صراع او نزاع بين الولاء الوطني للدولة والهوية الدينية. فالأرثوذكسي اليوناني لا يُسأل عن اولوية ولائه للكنيسة الكبرى في موسكو، أو التزامه الوطني بالدولة. والكاثوليكي في فرنسا، لا يفاضل بين مركزية عقيدته في الفاتيكان، ووطنيته في الاليزيه.. والمسلم السني الذي يعتبر الازهر مرجعيته الدينية التاريخية، لا ينتقص ذلك من سوريته او عراقيته او شيشانيته.. وحده الوهابي يطرح هذا السؤال العدمي.

 
علي سعد الموسى.. تأسيس الولاء الوطني على القاعدة المذهبية!

ثانيا: لقد أقر الكاتب بأن الامر ليس مطروحا الا على الشيعة في السعودية. الا ان تبريره لهذا التخصيص جانب الحقيقة والواقع، اذ ان الكثير من علماء الشيعة في السعودية قالوا مرارا رأيهم في المسألة، الا انهم باتوا يرون البراءة من مرجعيتهم والالحاح عليها مصدرا للاهانة والاذلال، في ظل القمع والاستهداف العقائدي والاجتماعي الذي يتعرضون له.

ولقد حاول الكاتب الذي يعرف هذا الواقع تماما، ان يموه عن السبب الحقيقي لهذا الاصرار على الطلب من الشيعة دون غيرهم التبرؤ من خلفيتهم المذهبية، وهو هدف سياسي يخدم الصراع المفتعل، الذي يحاول النظام السعودي تكريسه حقيقة واقعة في المنطقة، وهو الصراع الشيعي السني، وهو في جوهره معركة المذهب الوهابي مع الاخرين، لجعله بديلا للصراع القومي مع الصهاينة، والصراع الوطني للتحرر من ربقة التبعية للاستعمار، والصراع الاجتماعي من اجل العدالة الاجتماعية، والصراع الحضاري للارتقاء بمجتمعاتنا الى مصاف الدول المتقدمة، والخروج من دائرة التخلف والعيش على فتات موائد الحضارة العالمية.

ثالثا: ان المواطن لا يُسأل انتمائه لوطنه في كل صباح ومساء. وليس مطلوبا من الافراد والجماعات والقبائل والمذاهب والقوميات المتعددة، في اي بلد، ان تقدم كشف حساب واقرار بحقيقة ولائها لوطنها باستمرار، او تبعا لحاجة النظام لذلك.. هذا لا يحدث في اي مكان في العالم ولا في اي مرحلة من التاريخ.. الا لاسباب عنصرية او سياسية، وكنوع من الاستهداف من قبل النظام اولا.

ثالثا: ان المواطن لا يُسأل انتمائه لوطنه في كل صباح ومساء. وليس مطلوبا من الافراد والجماعات والقبائل والمذاهب والقوميات المتعددة، في اي بلد، ان تقدم كشف حساب واقرار بحقيقة ولائها لوطنها باستمرار، او تبعا لحاجة النظام لذلك.. هذا لا يحدث في اي مكان في العالم ولا في اي مرحلة من التاريخ.. الا لاسباب عنصرية او سياسية، وكنوع من الاستهداف من قبل النظام اولا.

فالتقابلية الصحيحة هي ان يسأل المواطن عن سلوكه، وان يحاسب على مواقفه العملية، لا على انتمائه العقائدي والفكري والسياسي.. فهل بدر من الشيعة في السعودية موقف يعارض الانتماء الوطني لمصلحة الولاء المذهبي؟ لماذا تريد ان تسأل الشيعي سؤالا افتراضيا مشبوه الاهداف؟

 
جمال خاشقجي.. خلطة مخابراتية واخونجية وطائفية!

رابعا: ولعل الامر لا يخفى على الكاتب وعلى اي مثقف يعيش القرن الواحد والعشرين، هو التمييز او ضرورة التمييز بين الوطن والنظام الحاكم.. وهذه اشكالية عميقة من طبيعة الانظمة الدكتاتورية، التي وحدها تساوي بين الانتماء للوطن والولاء للزعيم او الرئيس او العائلة التي يأتيها الحكم من عند الله، وتملك من القداسة ما يجعل معارضتها ومخالفتها خيانة للوطن، بل كفرا بالله وارتدادا عن الدين في الحالة السعودية، التي تماهي بين السلطة السياسية ومذهبها الديني.

رابعا: ولعل الامر لا يخفى على الكاتب وعلى اي مثقف يعيش القرن الواحد والعشرين، هو التمييز او ضرورة التمييز بين الوطن والنظام الحاكم.. وهذه اشكالية عميقة من طبيعة الانظمة الدكتاتورية، التي وحدها تساوي بين الانتماء للوطن والولاء للزعيم او الرئيس او العائلة التي يأتيها الحكم من عند الله، وتملك من القداسة ما يجعل معارضتها ومخالفتها خيانة للوطن، بل كفرا بالله وارتدادا عن الدين في الحالة السعودية، التي تماهي بين السلطة السياسية ومذهبها الديني.

خامسا: نسأل الكاتب بصدق وبساطة: هل كانت هذه التقابلية مطروحة قبل خمسين سنة او اربعين او ثلاثين.. او حتى مئة عام وهي عمر المملكة؟ وحتى بعد التغيير السياسي في ايران وإسقاط حكم الشاه.. هل كان المطلوب من الشيعي ان يقدم وثيقة حسن سلوك وطني في زمن الشاه في ايران ونوري السعيد في العراق؟ والمرجعية الشيعية موجودة وقائمة ومزارات كربلاء والنجف ومشهد موجودة منذ مئات السنين!

خامسا: نسأل الكاتب بصدق وبساطة: هل كانت هذه التقابلية مطروحة قبل خمسين سنة او اربعين او ثلاثين.. او حتى مئة عام وهي عمر المملكة؟ وحتى بعد التغيير السياسي في ايران وإسقاط حكم الشاه.. هل كان المطلوب من الشيعي ان يقدم وثيقة حسن سلوك وطني في زمن الشاه في ايران ونوري السعيد في العراق؟ والمرجعية الشيعية موجودة وقائمة ومزارات كربلاء والنجف ومشهد موجودة منذ مئات السنين!

انني اكتب ذلك وفي ذهني صورة اخرى هي اسوأ ما قرأت لمثقف وكاتب يدعي العصرنة والحداثة.. ثم يسقط في مستنقع يؤمه البعوض والمرض والرائحة الكريهة.. ان هذا النوع من الكتابة لا يليق بعقل سليم ولا بحس وطني أصيل.

فما دار حوله الكتاب المثقفون مداورة، ولامسوه عن بعد، طرحه جمال خاشقجي بشكل مباشر، معتقدا ان الشجاعة تكمن في طرق باب الفتنة، وطالب قراءه بالدفاع عن أهل السنة دون مبالاة! ودون اكتراث لحرمة الدين والوطن، لانه يعتقد فعلا ان السبيل الوحيد لانقاذ مشروعه السياسي، والمتماهي مع مشروع النظام ذاته، والمتمثل بالتسعير المذهبي.. ولتشتعل المنطقة.

 
خالد الدخيل وتمثّل السلطة التسلطية السعودية الوهابية النجدي

ودون مواربة هذا هو جوهر ما كتبه جمال خاشقجي بعنوان: «دافع عن (السنّة) ولا تبالِ»، في الثامن من اكتوبر وفي صحيفة الحياة.

وهو لا يبالي ان تسيل الدماء، وهي تسيل فعلا، او تدمر الاوطان، والدمار في اوج نشاطه، او يستضعف المسلمون وان تتحول المنطقة الى غابة من الوحوش الطائفية تنهش بعضها بعضا.. فلا تبال بكل ذلك يقول خاشقجي.. حتى ولو اصبحت كلمة مسلم تعني التوحش في العالم.. ولا يبالي ان نستحضر الاستعمار الاجنبي، وان يعربد في ارضنا الصهيوني.. فالمهم ان ينتصر السني على الشيعي والعلوي والزيدي وان يستضعف المسيحي.

وبكل بساطة يسقط خاشقجي عن اكثر من نصف الشعب العراقي اخوتهم في الدين، ووطنيتهم، لا لسبب الا لانتمائهم المذهبي!

ولكي لا يلتبس الموقف على القارئ، يقولها خاشقجي، بكل ما في الكلمة من قرف وفجاجة: (حان الوقت لزعماء المنطقة السنّة، عرباً وتركاً، أن يتخلصوا من حرج الاتهام بالطائفية، ويدافعوا عن حقوق السنّة بل ووجودهم ولا يبالوا).

لا فائدة من استكمال عرض ما كتبه جمال خاشقجي، على هذه النغمة النشاز، ونتوقف لنسأل الكاتب علي سعد الموسى، اذا ما كان يعتقد ان اعتراف الشيعة بتقديم ولائهم للدولة يتناسب مع هذا الجو الفكري والسياسي الذي يشيعه غير واحد من الكتاب السعوديين، بل لا تخلو منه صحيفة في اي يوم من ايام الاسبوع على مدار العام، في حفلة تجييش تتلاقى مع كورس وسائل التواصل الاجتماعي ومساجد المذهب الرسمي؟

والسؤال الحقيقي هو: من الذي يلزمه ان يؤكد اثباتا في انتمائه، وقناعته بحق الاخرين بالانتماء الى وطن واحد؟

والامر لا يقل هولاً امام ما يطرحه ويعممه كاتب متنور آخر.. يعتبر دخول العراقي الشيعي الى مدينة عراقية سنية احتلالا واستيلاء عليها، بينما دخول الشيشاني والتركي والوهابي والاميركي وحتى الاسرائيلي ولو مقنعا، يعتبر تحريرا لها!

والامر لا يقل هولاً امام ما يطرحه ويعممه كاتب متنور آخر.. يعتبر دخول العراقي الشيعي الى مدينة عراقية سنية احتلالا واستيلاء عليها، بينما دخول الشيشاني والتركي والوهابي والاميركي وحتى الاسرائيلي ولو مقنعا، يعتبر تحريرا لها!

وبنفس المنطق والنفس المذهبي العقيم، يرى الكاتب والأكاديمي النجدي خالد الدخيل، ان التدخل التركي في الشأن العراقي واحتلال ارض عراقية حق للاتراك، وليس من حق العبادي رئيس الوزراء العراقي ان يعترض او يحتج دفاعا عن سيادة بلده!

هذا هو المنطق الذي تشيعه ثقافة هذه المملكة النجدية الوهابية في الداخل والخارج، ثم تأتي لتسأل مواطنيها عن الولاء؟ الولاء لمن يا سيدي المثقف؟!

انها مغالبة سياسية، وليست ثقافة وطنية، وهذا المنطق ليس كلام حق يراد به باطل، بل هو باطل يستهدف تكريس الباطل على انه حق وفضيلة.

الصفحة السابقة