إشكالية اللامركزية

مركزية الدولة والمجتمع المدني

ابتداء يجب تكرار القول بأهمية دور المجتمع المدني بوصفه مكافئاً للدولة ووسيلة فاعلة لتحقيق التوازن الداخلي بين السلطة والمجتمع.. إن المؤسسات الاهلية بمقدار ما تحد من تغوّل السلطة وانحرافها فإنها تقدّم أكبر خدمة لها من خلال تحوّل المؤسسات الاهلية الى قنوات منظمة ومكثّفات لايصال رسالة المجتمع الى السلطة.. ولذلك، فإن بدء العمل بالنشاطات الاهلية المؤسسية، أي الاتجاه نحو بناء المجتمع المدني يمثل المدخل الصحيح لأي تغييرات مستقبلية يراد منها إعادة تنظيم الدولة وتأسيس العلاقة بين المجتمع والسلطة على أسس صحيحة وكفوءة.

صحيح أن الدولة تحاول كبح وتضييق أفق عمل المجتمع المدني والحد من تكاثر مؤسساته، فإن المناخات الداخلية والاقليمية والدولية تدفع باتجاه حثيث نحو الانتقالات السريعة التي تفرضها ريتمات التحول الدولي في الفترة الراهنة، وإن العائلة المالكة تجد نفسها إما السير مع الاتجاه العالمي أو الارتداد لمواجهة التيار، وبالتأكيد فإنها لن تستطيع الصمود طويلاً لأن المواجهة تتم بعدّة قليلة ومبررات ضعيفة. وقد لحظنا كيف أن تحفظات العائلة المالكة وكتابات المؤسسة الدينية الناقدة لمواثيق حقوق الانسان وتقارير المنظمات الدولية قد فشلت في التصدي لاتجاه حقوق الانسان من أن يفرض نفسه على السعودية، حيث أصبح مصطلح (حقوق الانسان) حاضراً في خطاب السلطة، وفي الصحافة المحلية، وأخيراً تحوّل الى لجنة. وإن ما كانت تهرب منه العائلة المالكة وتتذرع بالنفي تارة والتبرير تارة أخرى قد أصبح من أهداف اللجنة الحقوقية، أي تبني لائحة الحقوق الواردة في مواثيق وعهود دولية خاصة بحقوق الانسان كمناهضة التعذيب، والدفاع عن حريات التعبير والضمير، ونبذ التعدي والتعسف والقمع وتوفير كافة الضمانات القانونية والحقوقية للمواطنين، وبذل أقصى الجهود في التحقق من دعاوى المخالفات والتجاوزات المتعلقة بحقوق الانسان.

لا شك أن أول سؤال يثار إزاء تلك اللجان والجمعيات الناشئة في هذا البلد، يتعلق بالتطبيق، أي كيفية تحويل النظام التأسيسي ولائحة الاهداف الى أفعال على الأرض، وعدم الاكتفاء بمجرد الاعلان عنها، ومنطلق السؤال واضح، فطالما اختلطت يد الدولة في بداية وعمل المؤسسات الاهلية فإن هناك شكاً مشروعاً حول الدور والقيود المفروضة عليها ودرجة التدخل المتوقعة من قبل العائلة المالكة.

إن الاحباط الناتج عن إنحباس قطر الدولة أو تساقطه بصورة غير ملحوظة أو متقطّعة لم يدع طريقاً للثقة في كل ما تأتي به العائلة المالكة، إذ لا يتوقع من أن الجمعية الحالية ستحقق القدر المتيقن من حقوق الانسان في السعودية، لا لعجز في القائمين عليها بل للتدخل المباشر والقيود المفروضة على نشاطها، أضف الى ذلك دور البيروقراطية الحالية في إعاقة عمل الجمعيات الاهلية بصرف النظر عن كفاءة ونزاهة وفعالية القائمين عليها.

خلال الشهور القليلة الماضية أعلن عن إنشاء عدد من الجمعيات التي يفترض كونها من مؤسسات المجتمع المدني، وكان آخرها (الجمعية الوطنية لحقوق الانسان) برئاسة الدكتور عبد الله العبيد وتضم 41 عضواً بينهم 9 نساء. وقد جاء في البرقية الجوابية التي بعث بها الملك فهد الى رئيس الجمعية بأن الجمعية (تعتمد في نشاطها على ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه). وقد جاء في مهمات الجمعية (العمل لحماية حقوق الانسان وفقاً للنظام الاساسي الذي مصدره الكتاب والسنة، ووفق الأنظمة والمواثيق الخاصة بحقوق الانسان، وبما لا يخالف الشريعة الاسلامية وبالتعاون مع المنظمات الدولية). وهذه تمثل القاعدة المكثّفة لعمل الجمعيات الحقوقية في المملكة وقد تسري على نشاط الجمعيات (الأهلية) الأخرى لاحقاً، حيث تخضع لمقيّدات النظام الاساسي والكتاب والسنة، كأساس قانوني وتشريعي لعمل الجمعيات.

لعل أولى التحفظات التي أثيرت حول الجمعية أن أعضاءها بما في ذلك رئيسها هم جزء من الحكومة، بما ينفي عنها صفة الأهلية، وربما تنبّهت العائلة المالكة الى ذلك فأزالت عبارة الاهلية وأبقت على عبارة الوطنية وهي ذات معاني مختلطة في الثقافة السياسية الرسمية والتي تحتمل كونها أهلية ورسمية.

الا أن ما هو واضح بأن الجمعية أقرب ما تكون الى المؤسسات الرسمية منها الى مؤسسات المجتمع المدني، ليس كون أعضاءها يستلمون مرتبات وإعانات مالية من قبل الحكومة فحسب، بل أن الاشكالية تتصل بأصل النشأة، فالجمعيات الأهلية هي منتجات مجتمعية مستقلة، وأن القائمين عليها لا تربطهم علاقات ومصالح مع الحكومة من أي نوع. وفي حقيقة الأمر، أن الحال لا يتوقف على الاشكال الاجرائية وهل كون مؤسسات المجتمع المدني لم تجد الأرضية الخصبة التي تؤهلها للعمل دون عون من الدولة، بل هي تعكس عقيدة الدولة والعائلة المالكة بوجه خاص في كيفية ادارة التحولات الداخلية في المجتمع، والتي تخشى من فقدان السيطرة على النشاطات الاهلية بكل الكوامن الثاوية فيها، وهو ما تدركه العائلة المالكة بصورة تامة، فالزيادة المتصاعدة في توقعات المجتمع في مقابل الممانعة الرسمية والتأجيل المتكرر قد أوصل الجميع الى حافة الانفلات التام. إن العائلة المالكة تحاول الامساك بكافة خيوط اللعبة الداخلية بما في ذلك العمل الاهلي المرشح لأن يأخذ بعداً سياسياً وعلى أفق واسع.

لا يبدو أن المبرر المشاع عن مركزة العمل الاهلي واخضاعه تحت الرقابة الرسمية على أساس أن المجتمع لم يبلغ بعد مستوى متقدماً من العمل الاهلي والحقوقي، أو أنه بحاجة الى عملية تثقيف واسعة يكتسب ـ أي هذا المبررـ مصداقية من أي نوع، فالمؤسسات الاهلية في كافة أنحاء العالم تعبّر عن حاجة المجتمع للتعبير عن نفسه ومطالبه في مقابل الدولة ، وأن المجتمع كفيل بتنمية دور المؤسسات ووظيفتها، وهو وحده القادر على تصنيع ثقافة أهلية وتطوير تجربة مؤسساته. إن هذه البداية تشيع جواً من التشاؤم بين دعاة الاصلاح، وتعزز موقف الأغلبية الساخطة من أن خيار الدولة وبدائلها هي لتسوية مشكلاتها وحدها، وإن هذه الجمعيات بصفتها الوطنية أو الاهلية ليست أكثر من فطريات تغشي الانظار ولكن دون نفع مرجو منها وفي أحسن الاحوال لا تتجاوز أكثر من ديكور سياسي خارجي للعائلة المالكة.

مركزة المجتمع المدني!!

السلطة بدأت في نجد وكأن هناك من يريد كتابة تاريخ ولادة المجتمع المدني في مركز نشأة السلطة..إن الجمعيات الاهلية التي أعلن عن تأسيسها خلال العام الماضي بدأت في نجد، وفي ذلك إشارة كافية الى ما يسلبها صفة الأهلية، فنجد تعني السلطة السياسية ومركزها، وهذا من شأنه التشكيك في استقلالية الجمعيات. ولكن هناك ما هو أعظم أي تحويل نجد الى مجمع للجمعيات الاهلية الكبرى حيث تتم مركزة السلطة وما يدعى بالمجتمع المدني. ليس الغرض من اثارة هذه النقطة الدعوة الى إثارة النزعات العنصرية أو الاقليمية، ولكن حين يراد تغليب منطقة على باقي المناطق يصبح الحديث مختلفاً حرصاً على الوطن، وتحذيراً من الافتئات عليه وتقسيمه والتفريق بين أبنائه.

من خلال نظرة فاحصة على اللجان المعلن عنها حتى الآن: (لجنة العمل والعمال) و(اللجنة الوطنية لحقوق الانسان) أو رابطة الصحافيين ولجنة الكتّاب والادباء، أن نجد هي مركز نشأة اللجان هذه، وأن أعضاءها هم إما من نجد مقرّبين من السلطة أو موظفون سابقون قد تحقق فيهم شرط الولاء للعائلة المالكة، أضف الى ذلك أن هذه اللجان تخضع بصورة وأخرى تحت إشراف وزارة الداخلية والوزارات المتخصصة فلجنة العمل والعمال تخضع لنظام وزارة العمل، ولجنة حقوق الانسان تخضع لوزارة الداخلية ورابطة الصحافيين لوزارتي الاعلام والداخلية..

في المقابل، نجد أن كافة الطلبات التي تقدّم بها دعاة الاصلاح وناشطون في مجال حقوق الانسان لانشاء جمعيات أهلية لم تحصل على رخصة رسمية..بصراحة إنها رسالة واضحة تبعث بها العائلة المالكة الى دعاة الاصلاح بأنها وحدها تقرر شكل المجتمع المدني ووظائفه وأعضاءه، وهذا بحد ذاته دليل كافي على أن هذه العائلة المالكة قد فقدت كل سبب يجعل التعويل عليها مصيباً..وبإمكان تصور صورة المجتمع المدني حين تكون لوزارة الداخلية الحصة الأعظم فيه، فكل الاجراءات التي تتم في وضع لبنات المجتمع المدني لا تشجّع على الاعتقاد بأن مؤسسات أهلية خالصة ستجد النور ما لم تتحرر من قيود المكان والخصم التقليدي لها.

ومن السخرية أن يضطلع من كانوا بالأمس على خلاف مع وثائق حقوق الانسان بمسؤولية الدفاع عن حقوق الانسان، أو أن تكون نجد هي الحاضن الأول له، وكنا ننتظر أن تتأسس أولى اللجان الحقوقية في المناطق الأشد إضطهاداً وحرماناً من قبل السلطة، لا أن تكون المنطقة المنعّمة هي من يكون مركز نشأة حقوق الانسان، وكنا نأمل أن تنشأ لجنة حقوق العمل والعمال في المناطق الصناعية التي تكون عادة مرشحة لخصومات بين العمال وأرباب العمل والمصانع والشركات، وكنا نتطلع أن تكون رابطة الصحافيين في المنطقة الرائدة في مجال الاعلام والصحافة..فيا ترى ما مغزى تنجيد المجتمع المدني؟

ليس هناك من يعترض على نشوء مؤسسات المجتمع المدني، فالاجماع قائم على دعم مبادرات الدولة والمجتمع في إرساء دعائم وآليات المجتمع المدني، بصرف النظر عن مقدار المأمول به ومنه ضيقاً وسعة..ولكن في الوقت نفسه ليس هناك من يود رؤية هيمنة الدولة على المجال الحيوي لعمل المؤسسات الاهلية، التي تنشأ في الاصل لدفع جبروت السلطة ودرء تمددها اللامحدود في المجتمع.

إن ما يلحظه المراقبون ودعاة الاصلاح أن الدولة تحاول التغلغل في المحيط الطبيعي للمجتمع، وبسط سيطرتها على مؤسساته. ومنذ بدء بوادر تأسيس الجمعيات الأهلية كانت النوايا الخفية لدى الأمراء تنزع نحو إيجاد آليات ملتوية من أجل إحباط مفعول المبادرات الوطنية الحقيقية التي يقف وراءها دعاة الاصلاح. ولعل ما يزيد في كثافة الشكوك حول سلوك الدولة إزاء الجمعيات الأهلية هو ما يظهر في ضبط وتوجيه التطور السياسي والاداري في البلاد حيث يتم الالتزام بقائمة معايير معروفة: المنطقة، الولاء السياسي للعائلة المالكة، خلو صفحة المنتمين للجمعيات من تجارب سياسية سابقة، أو حتى خبرات في مجال عمل الجمعيات الاهلية، والمذهب، بل هناك معيار غير معلن يضطلع به جهاز المباحث وهو التحقق من كون الشخص المرشح لمنصب ما لا يملك نوايا مبيّته تخّل بوظيفته المقررة سلفاً. يخضع جميع الاعضاء المعيّنين لاختبار القائمة هذه قبل المصادقة على قرار التعيين، ولا يتوقف الأمر على الجمعيات الأهلية بل تسري هذه القائمة على جميع المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية، وهذا ما ظهر بجلاء في تعيين الوزراء وأعضاء مجلس الشورى، ومجالس المناطق، وأخيراً الجمعيات الاهلية.

رسالة بالغة

في شهر مارس الحالي واجهت الحكومة السعودية أشد الامتحانات في مجال عمل الجمعيات الاهلية، لتضع مائزاً حقيقياً وعملياً بين ما يصدق عليه (أهلي) و (رسمي) بصرف النظر عن المسميات التي تسبغ على الجمعيات القائمة. فقد تقدّم مجموعة من المحامين والناشطين السياسيين ودعاة الاصلاح الى وزارة العمل بطلب إنشاء جمعية أهلية ذات نفع عام، وكان على وزير العمل أن يتقدم برد واضح على الطلب المرفوع اليه، استناداً على أنظمة وزارة العمل، الا أن الاخيرة أحجمت عن الرد، وهو ما كان متوقعاً كون القرار لم يكن بيد وزير العمل وإنما وزير الداخلية، بالرغم من عدالة الطلب والتزام أصحابه بالسبل القانونية الموضوعة في مجال عمل الجمعيات وهكذا الامتثال لكافة اللوائح الواردة في نظام الوزارة.

وحين فشلت الوزارة في حسم موضوع الطلب، قررت المجموعة رفع الأمر الى ولي العهد من أجل الحصول على ترخيص باللجنة، وقد اتفقت المجموعة على تقديم عريضة الى الامير عبد الله موقّعة من قبل الاشخاص المعنيين بتولي مهام عمل اللجنة الحقوقية، يعقبها طلب مقابلة ولي العهد. وفيما يلي نص العريضة بحسب المسوّدة الاولى منها:


بسم الله الرحمن الرحيم

صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز

ولي العهد ونائب

رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تجاوباً مع توجيهاتكم الكريمة للمواطنين بتقديم طلباتهم في كافة الأمور إلى الجهات المعنية في أجهزة الدولة،

فقد قدم الموقعون على هذا الخطاب نيابة عن زملائهم الآخرين، طلباً إلى معالي وزير العمل والشئون الاجتماعية، في محرم من عام 1424هـ الموافق مارس عام 2003 للسماح لهم بإنشاء (اللجنة الأهلية السعودية لحقوق الإنسان)، وفق ما جاء في أهداف اللجنة ونظامها الداخلي الذي نرفق لسموكم الكريم نسخة منه. وقد مضى أكثر من عام على تقديم طلبنا دون أن نتلقى الاستجابة من الجهات المعنية، بينما وردت الإشارات الإعلامية على قبول طلب مجموعة أخرى من المواطنين، أعلنت عن تشكيل لجنة لحقوق الإنسان الأهلية في المملكة.

وكما تعلمون يا صاحب السمو، فان الدول الأخرى ومن بينها الدول العربية والإسلامية، قد سمحت بتشكيل العديد من جمعيات حقوق الإنسان الأهلية للإسهام بجهودها الإنسانية التطوعية مع الحكومات، في تعزيز تمتع الإنسان بحقوقه كاملة، وبالكشف عن التجاوزات والأخطاء التي تحدث في كل مجتمع، من أجل تصويبها، وإزالة آثارها السلبية على الأفراد والمجتمعات. لذا فإننا نلتمس من سموكم الكريم تذليل العقبات الروتينية أمام طلبنا، والسماح لنا بمزاولة نشاطنا عبر (اللجنة الأهلية السعودية لحقوق الإنسان)، لنسهم مع غيرنا في خدمة الصالح العام لبلادنا. وفقكم الله، وسدد خطاكم على طريق المضي في تطوير بلادنا وازدهارها، والله يرعاكم.


إن هذه العريضة التي لم يكشف النقاب عنها حتى وقت قريب قد وضعت الحكومة أمام امتحان جاد فيما يخص إستقلالية النشاط الاهلي. ولم تكتف الحكومة بتجاهل الطلب بل أقدمت على قرار غاشم وتعسفي باعتقال المطالبين بإنشاء الجمعية الحقوقية، لأن فحوى عريضتهم تتضمن تشكيكاً في اللجنة الحقوقية التي أعلنت عنها الحكومة، ولأن أصحاب الطلب يمثّلون الطيف السياسي والاجتماعي العام في المملكة، ولا تنطبق عليهم معايير العائلة المالكة فقد كان من الطبيعي أن يواجه طلبهم بالرفض القاطع بل وبالتوسل بخيار القمع جواباً ليس للمجموعة هذه فحسب بل وللمجتمع المدني برمته.

الصفحة السابقة