نتائج التحقيق في حريق الحائر

هل يفتح ملف الفساد في الدولة؟

بعد صدور نتائج التحقيق في حريق سجن (الحائر) بمدينة الرياض بتاريخ 18 رجب 1424 هـ نتج عنه وفاة 68 مواطناً ومن جنسيات أخرى مختلفة، اختلفت المواقف إزاء النتائج بين من إعتبرها منهجاً سعودياً جديداً، وبداية مرحلة شفافية إتبعتها وزارة الداخلية السعودية، وخطوة نوعية في أسلوب محاسبة المسؤولين في دوائر الدولة، وبين من اعتبرها بداية حرب تعلنها وزارة الداخلية على الفساد وهناك من بالغ في اعتبار نشر نتائج التحقيق بأنه تجسيد لنهج إصلاحي تقوده وزارة الداخلية. فقد ذكر عبد العزيز الجار الله (أن وزارة الداخلية السعودية دشنت عهداً جديداً على المستوى المحلي مضمونه الشفافية، وعنوانه تساوي الجميع أمام القانون).

في المقابل هناك من صرف النظر بصورة مطلقة عن نشر نتائج التحقيق، ولم يمنحها أية أهمية بل سخر من التوصيفات التي جاءت عقب النشر، مستدعياً الاداء الهزيل للأجهزة الامنية والحكومية عموماً فيما يتصل بالمصالح العامة وحقوق المواطنين وسلامة أرواحهم. وقد خلص هذا البعض الى اعتبار التحقيق مجرد ذرّ الرماد في العيون، ومحاولة للتخفيف من الاحتقانات الداخلية التي تشهدها البلاد، وفبركة قصة مفتعلة لتبرير إزهاق عدد كبير من الارواح لصرف الانتباه عن المسؤول الأول عن الحادث، وتقديم تعويضات لأسر الضحايا من أجل إقفال ملف القضية وامتصاص سخط الاهالي.

البعض الثالث رأى في نشر نتائج التحقيق في حريق الحائر بأنه خطوة غير مسبوقة، وتستحق التقدير كونها تمثل ارهاصات أولية لمرحلة من الشفافية والمحاسبة من أجل الدفع باتجاه تحسين أداء الاجهزة الامنية والسجون التابعة لها باعتبارها الجهة المسؤولة عن سلامة المواطنين، وباعتبار الاخيرين االمتضرر الأكبر من هذه الأجهزة لعقود عديدة.

من ناحية ثانية، ينظر هذا البعض الى توصيف نشر نتائج التحقيق بالحرب على الفساد أو بكونه تجسيداً لمنهج جديد مبالغاً فيه كون أولاً: أن حدود الحرب لم تتجاوز ملفاً واحداً من بين آلاف الملفات التي لا تقل أهمية وحساسية لم تطلها التحقيقات، وثانياً: أن التحقيق قصر على حدود حريق الحائر فيما كانت هناك حرائق أخرى نشبت في مدارس وسجون أخرى في فترات سابقة ومع ذلك ظلت خارج طائل المسائلة والتحقيق، فالبلد يضم مئات بل آلاف السجون تحت ادارة واشراف وزارة الداخلية ولكن لم تخضع للرقابة رغم أن الظروف القاسية فيها قد تكون أسوأ مما هي عليه في سجن الحائر، وقد شكى كثير من السجناء من أوضاع صحية ونفسية بالغة السوء ولكن جرى بصورة متعمدة إهمال شكاويهم.. وهناك سجون لم تخضع للتحقيق في شروط الأمن والسلامة فيها، ومن المعاملة السيئة التي يعاني منها السجناء، فلماذا التحقيقات متوقفة على حلول الكوارث؟!، فقد سجّلت حوادث أخرى في بعض أجهزة وزارة الداخلية ضد مجهول ولا نرى اعفاءات وإدانات وإحالة للمحكمة الشرعية وكف أيدي المسؤولين نتيجة الإهمال ومحاكمة المتسببين، وثالثاً أن العقاب قائم على تقديم كبش فداء، وتثبيت قاعدة أن هناك أشخاصاً يعلون فوق المسائلة ويقعون خارج دائرة المحاسبة والعقاب.. فبينما تدفع حوادث كهذه في بلدان اخرى وزراء لإعلان استقالتهم وقد تؤدي الى اسقاط حكومة بأكملها، فإن في بلادنا مخزونا بشرياً يتم استعمال أفراده كأكباش فداء يدفعون ثمن أخطاء الكبار، ونقصد الوزراء وخصوصاً من العائلة المالكة. وفيما يخضع الوزراء في الدول الديمقراطية التي تعتمد نظاماً واضحاً وقانونياً في المحاسبة والشفافية للمحاكمة أو لا أقل المسائلة باعتبارهم المسؤولين المباشرين عن كل ما يجري داخل وزاراتهم، وعن تقصير موظفيهم، وأجهزة وزاراتهم، فإن بلادنا يكون الأمير قانوناً وسلطة تشريعية ورقابية بل وعقابية أيضاً.

وبالرغم من أن حريق الحائر يعتبر بحسب المقاييس الدولية من أكثر حوادث السجون مأساوية، فإن ردود الفعل لم تكن بمستوى المأساة، تماماً كما أن العقاب والتعويضات التي قدّمت لأسر الضحايا لم تكن أكثر من محاولة لطمس معالم الكارثة. وبلغة القانون فإن حالات كهذه تقتضي تقديم المسؤولين الى القضاء بما فيهم وزير الداخلية وأن يمنح أسر الضحايا حق رفع الدعوى، والاستماع الى شهادات السجناء وان يمنحوا الحق في الحصول على محامين للدفاع عنهم، وأن يترك للقضاء (على فرضية استقلاليته) باعتباره الجهة الفاصلة في القضايا المتعلقة بين الحكومة والمواطنين وبالتالي تقرير الحكم المناسب. وفي حالات أخرى، يتم استجواب وزير الداخلية ونائبه في البرلمان أو مجلس الشورى، تماماً كما يفعل في مجلس الامة الكويتي حيث يخضع الوزراء للمسائلة والاستجواب من قبل النواب. لاشك أن تهماً من قبيل الاهمال والتقصير والتراخي تبدو في تطبيق خطط الاخلاء وقواعد السلامة مقبولة في مثل هذه الحوادث، وان اقالة المسؤولين المباشرين عن الحادث يعتبر اجراءً طبيعياً ومطلوباً.

نظرة قانونية في التحقيق

تكوّنت اللجنة المكلّفة بالتحقيق في حريق سجن الحائر من الدفاع المدني، وديوان وزارة الداخلية، وهيئة التحقيق والإدعاء العام، والمديرية العامة للمباحث العامة، والأمن العام، والمديرية العامة للسجون، وكما هو واضح فإن اللجنة ـ باستثناء هيئة التحقيق والادعاء العام مع التحفظ ـ تندرج ضمن مظلة وزارة الداخلية، الأمر الذي يخدش في إستقلاليتها.

تذكر اللجنة المختصّة بالتحقيق في حريق الحائر بأن السجين سعد السبيعي هو من قام بإشعال النار في بطانية بقصد العبث، وهذه الفقرة تثير سؤالاً كبيراً حول مصدر النار، حيث يفترض أن يتم تجريد السجناء من أي أداة تخريبية (مثل السكين، والقداحة ـ أو الكبريت، أو أي أداة حادة أخرى) بما يكفل سلامة السجناء. ويذكر التقرير بأن السجين السبيعي إعترف بما بدر منه، فهذا الاعتراف يظل محفوفاً بالشكوك وخصوصاً في بلد كثرت فيه الشكاوى حول طريقة الاعتراف والوسائل المستعملة في إنتزاع الاعترافات، وإن جاءت مشفوعة بشهادات اخرى من قبل سجناء آخرين، حيث يسري عليهم ما يسري على المقرّ بالفعل.

واذا كان هناك من يتطلع لأن تدشّن خطوة الداخلية نحو مرحلة الشفافية فإن ما ينتظر هو فتح التحقيق على أفق واسع في الكثير من الكوارث الإدارية والسرقات المالية والإهمال والتي ما زالت تحت الغطاء، ومصونة بحصانة عليا.. وقبل الحكم على هذه الخطوة نحن بإنتظار فتح ملفات مآسي أمنية ومالية واجتماعية عديدة تمثل وزارة الداخلية الطرف الأكبر فيها. ودون ذلك فإن اعتبار نشر نتائج تحقيق حريق الحائر وكأنه تجسيد لنهج اصلاحي تقوده وزارة الداخلية يعدّ ترويجاً إعلامياً مجانياً، ومحاولة لابتكار الانجاز أو فبركة التفسيرات لاجراءات ما بطريقة ساخرة.

الصفحة السابقة