التيار الصحوي .. والتيار الوطني

العائلة المالكة والبحث عن حليف داخلي

أثار اعتقال رموز التيار الاصلاحي في السعودية قضية التحالفات الداخلية بين القوى السياسية الشعبية الدينية والليبرالية من جهة والتحالف المرشح بين الحكومة وأحد الخطوط الدينية المصنّفة باعتبارها معتدلة والمنفصلة عن التيار الديني المتشدد أو المنقلبة عليه، وهو الخط الذي لعب في الآونة الاخيرة دوراً محورياً في احتواء وتفكيك جماعات العنف، بعد أن فقدت الحكومة حليفاً مرشحاً بامتياز لأن يكون الداعم المستقبلي لبرنامج الاصلاح السياسي، أي التيار الوطني بشقيه الديني والليبرالي.

يجب القول ابتداء بأن قرار اعتقال دعاة الاصلاح كان مغامرة خطيرة أقدمت عليها العائلة المالكة في ظل مدّعيات اصلاحية طالما رسمت صورة الاصلاحي القادم من أعلى القمة.. فقد شكّل قرار الاعتقال منعطفاً تاريخياً في العمل السياسي الشعبي، فقد بدا كما لو أن إرهاصات جبهة سياسية وطنية باتت على وشك الظهور، ممثلة لقوى وتيارات سياسية متنوعة.. إنها جبهة تكاد تبعث الأمل ببروز نموذج للنشاط السياسي السلمي متقّعداً على مفاهيم حقوقية في العمل الاصلاحي.. هذه المفاهيم التي ظلت منبوذة من أهل الحكم باعتبار أن العمل السياسي المطلبي بصرف النظر عن أدواته ووسائله فهو يمثل عملاً محظوراً بقانون مكتوب عام 1962، وهو منبوذ من قبل أهل الدين، باعتبار أن الدين بحسب التفسير الرسمي التعاقدي يفوّض أهل الدين حقا نهائياً ووحيداً في إبلاغ النصيحة لولي الأمر.

دور التيار السلفي في المرحلة القادمة

ثمة مؤشرات عديدة على ان العائلة المالكة تميل بشدة الى إعادة تشكيل تحالفها مع التيار الديني السلفي، من خلال إستقطاب عدد من الرموز الشعبيين داخل التيار والقادر على لعب دور فاعل في المرحلة القادمة. فالتنسيق الخفي والمعلن بين الامراء الكبار مثل نايف وابنه محمد وسلطان وسلمان مع بعض مشايخ الصحوة يفيد بإمكانية بناء تحالف صلب بين الطرفين بفعل ما حققه مشايخ الصحوة من نتائج كبيرة في تطويق خطر جماعات العنف والحد من انتشارها وتأثيرها في الشارع السلفي عموماً.

ولاشك أن تجربة مشايخ الصحوة في قيادة التيار السلفي الناشط والذي شكّل المعارضة التقليدية منذ بداية التسعينيات قد ثبّت قناعة لدى العائلة المالكة بأن هذا التيار قادر على تحريك الشارع والتأثير في الرأي العام، ولعل التحرّك النشط لدى التيار السلفي الصحوي في موضوعات تغيير مناهج التعليم، والدمج بين حقلي التعليم الخاص بالذكور والاناث، الى جانب النشاط الدؤوب من أجل تعزيز دور المؤسسة الدينية في الحياة العامة وأخيراً الانجاز الملحوظ في إستيعاب جماعات العنف او التيار الجهادي أدلة إقناع على قوة النفوذ لدى هذا التيار.. لقد أثبت مشايخ الصحوة بأنهم مازالوا قادرين على لعب دور فاعل في الساحة المحلية، وهذا الدور قابل للاستثمار في مواجهة قوى التغيير والاصلاح في الداخل، فقد بدا وكأن مشايخ الصحوة يتخذون موقفاً متحفظاً إن لم يكن معارضاً من الإصلاح الدستوري الذي من أجله إعتقل الاصلاحيون، وهذا يعزز الاعتقاد على أن ثمة توافقاً شفهياً بين مشايخ الصحوة والجناح القوي في العائلة المالكة من قضية الاصلاح السياسي باعتبارها القضية المفصلية التي يجري التحاكم عليها والتصنيف بين من هم أقرب الى الحكومة ومن هم على الطرف الآخر المواجه لخط سيرها.. كشفت معركة الاصلاح السياسي الى حد كبير خواء التيار الصحوي، فيما كان المؤمّل منه الانخراط الواعي والواسع في قضية باتت مورد إجماع القوى السياسية والوطنية والدينية المعتدلة. وقد كان الاعتقاد بأن التيار السلفي الصحوي صاحب مشروع سياسي، وقد دفع ثمناً باهضاً في التسعينيات من أجل إجبار العائلة المالكة على القبول بأجندته الاصلاحية ولكن من زاوية دينية، الا أنه ومنذ إنطلاقة النشاط الاصلاحي الوطني بدا وكأن التيار الصحوي قد تحول الى إحدى التحصينات الخلفية للعائلة المالكة، من خلال الانتقادات المتكررة التي يطلقها الصحويون ضد بيانات وعرائض التيار الاصلاحي.

لقد أوحى أداء التيار الصحوي الى كثير من المراقبين، دع عنك التيار الاصلاحي في السعودية، وكأنه يمتثل لاملاءات اتفاق سري مع العائلة المالكة، على أن يجني ثمن موقفه معها في مرحلة تكون البلاد على اعتاب تحوّل داخلي مستقبلي.. ولكن مهما كانت مبررات الاتفاق وموحياته، فإن ما يظهر حتى الآن ان التيار الصحوي ينكفىء على نفسه دون مبررات مذكورة أو ظاهرة، ولربما بالغ بعض المتشائمين بأن هذا الغياب ليس مخططاً له بل هو تعبير عن الإفلاس السياسي الذي يعاني منه التيار الصحوي. في المقابل يذهب البعض للاعتقاد بأن التيار الصحوي يرى بأن أوان معركته لم يحن، ويشعر بأن دخوله معركة الاصلاح جنباً الى جنب التيار الوطني بمكوّناته الوطنية والليبرالية والشيعية والقبلية يفقده تميّزه وقد يتكبد من وراء ذلك خسارة مواقعه المأمولة، خصوصاً وأن الاصلاح السياسي يتطلب تكسيراً ضرورياً للسلطة بالمعنى الشامل.

ويبقى السؤال: التيار الصحوي، خيار لمن في العائلة المالكة؟

لقد دأب كثيرون على تصنيف العائلة المالكة وكأنها وحدة متراصة تجمعها مصالح مشتركة، وميول فكرية موحّدة، وتوجهات سياسية متطابقة. ولكن حقيقة الأمر، أن هناك مبالغة في تصوير العائلة المالكة على هذا النحو مع التشديد على أن ثمة قاسما كليا مشتركا بين افرادها وهو حفظ الارث السياسي والاستماتة في الدفاع عن السلطة باعتبارها إمتيازاً خاصاً بها. يبقى القول بأن الاكتفاء بهذا القاسم المشترك في تشكيل تصوّر عام عن العائلة المالكة يبدو مجانباً للحقيقة، فشأن افراد هذه العائلة شأن غيرهم من ابناء العوائل المالكة والحاكمة من منافسات شديدة على السلطة، وصراعات داخلية، ومصالح متضاربة، ونزوعات خاصة، فمنهم من لديه ميول دينية واخرى ليبرالية.. والى جانب ذلك هناك أصحاب النزعة البراغماتية الذين يتحركون وفق منطق المصالح، ولا يكترثون بالايديولوجيات الدينية والليبرالية، ويتمسّكون بالسلطة باعتبارها قضية محوّرية وهدفاً نهائياً، وهؤلاء يمثلون القوة المهيمنة داخل جهاز السلطة.

وفيما يبدو، فإن الخط الماسك بزمام السلطة داخل العائلة المالكة ينزع الى المراهنة على التيار الديني الصحوي باعتباره الأقرب اليه من الناحية التاريخية، والأقرب اليه في نظرته للاصلاح، فالتيار الصحوي لا يكلّفه أكثر من إعادة ما فقده في الحقل الديني، أما في الحقل السياسي فهو يقرّ بصورة كاملة للعائلة المالكة بكافة الامتيازات السياسية، وهذه نقطة خلاف جوهرية بين التيار الصحوي والتيار الاصلاحي الوطني، وهذا ما يشجّع الخط المتشدد داخل العائلة المالكة الى قمع التيار الاصلاحي واحتضان التيار الديني.. الى جانب ذلك، فإن التيار الديني السلفي – باستثناء الجماعات الجهادية – يرى شرعية الدولة القائمة، ويعارض الديموقراطية ومبدأ الانتخابات، والاصلاح الدستوري، وهي شعارات رئيسية حملها التيار الاصلاحي الوطني، وليس خافياً بأن هذه الشعارات ستؤول في نهاية المطاف الى تقليص سلطات العائلة المالكة، وتخفيض حجم امتيازاتها السياسية والاقتصادية.

يجدر القول أيضاً، أن اعتقال رموز التيار الاصلاحي يلمح الى حقيقة أن العائلة المالكة تعارض الاجندة الاصلاحية كما عبّرت عنها العراض منذ يناير 2003 وحتى آخر عريضة رفعت بعنوان (معاً في طريق الاصلاح) قبل أكثر من شهر، يضاف الى ذلك معارضة السعودية بدرجة أساسية للمبادرة الاميركية للاصلاح السياسي والمجهود الكبير الذي بذلته مع مصر وسوريا من أجل احباط المبادرة الأميركية واحلال مبادرة عربية مكانها.. كل ذلك يشير الى أن العائلة المالكة تسعى الى حليف داخلي يتوافق مع توجّهاتها الخاصة في الاصلاح، ولاشك أن التيار الديني الصحوي يمثل خياراً راجحاً، لأن التيار الوطني الليبرالي سيكون بحسب وجهة نظرها قوة ضغط إضافية وداخلية عليها الى جانب الضغوط الخارجية من أجل تبني المبادرة الاميركية.

بحسب تحليل كثير من المقرّبين للعائلة المالكة وهكذا التيار الديني الصحوي، فإن ما يقال عن تيارات سياسية وفكرية في البلاد لا تعدو سوى تصنيفاً متساهلاً، إذ أن التيار الديني الصحوي يمثل الغالبية الفاعلة في الشعب، وأنه الاقدر على توجيه الشارع والانتصار للحكومة إن أحسنت التعامل معه، فيما يسيطر التيار الوطني والليبرالي على مساحة صغيرة للغاية، وأن المتعاطفين معه لايعدو أن يكونوا قلة متناثرة على مساحة شاسعة من البلاد، إضافة الى مجاميع صغيرة لم يطمئن بعد الى قدرتها على لعب دور مؤثر في المستقبل السياسي للبلاد.

قد يقال بأن العائلة المالكة تلجأ أحياناً الى لعب دور مزدوج يكفل لها التعايش مع تناقضات المعادلة الداخلية والاستفادة منها، وبالتالي إبقاء كافة اللاعبين داخل الحلبة، خشية أن يباغت أحد الاطراف الحكومة بعمل غير محسوب. وليكن الدور المزدوج على هذا النحو: تقمّص الامير عبد الله شخصية الليبرالي الذي يتناغم في توجهاته الاصلاحية مع التيار الوطني الليبرالي، وتقمّص الامير نايف شخصية السلفي الذي يفرط في إستعمال الخطاب الديني السلفي، بما يضمن وجود تنوع سياسي مفتعل داخل الجهاز الاداري للسلطة، على أن يتم تقريب أو إبعاد أي منهما بحسب الحاجة والمصلحة.

الا أن هذا الرأي رغم ملامسته لواقع معاش في البلاد الا أن ما يؤخذ عليه انكساره عند لحظة الاختبار الحاسمة، فاعتقال رموز التيار الاصلاحي قد أسقط خياراً استراتيجياً لدى العائلة المالكة في مرحلة ستكون بأشد الحاجة اليه، وخصوصاً حين يكون الاصلاح السياسي فرضاً خارجياً وداخلياً على السواء، وحينئذ لن يكون هناك ما يسمح للمساومات السياسية، أو ترميم العلاقات المتصدعة، فحين تفشل العائلة المالكة في تطوير حليف داخلي ظل الى وقت قريب يحافظ على مستوى مطلوب من العلاقة الاحترازية بحيث يضمن لها الاعتراف بها كمصدر رئيسي لوحدة ومشروعية الدولة، يصبح الحديث عن التزامات مستقبلية صعباً في ظل شعور بالاحباط وخيبة الأمل الكبيرة من توفير ضمانات من أي نوع للعائلة المالكة.

وقد يقال أيضاً، بأن العائلة المالكة أقدر على استثمار التيار الصحوي في معركتها ضد التيار الوطني الليبرالي (على فرضية صغر حجمه وتأثيره)، تماماً كما استعملته في مواجهة جماعات العنف، وكما استعملته أيضاً في كبح جماح التوجهات الاصلاحية الظاهرية لدى الأمير عبد الله، فقد أملى تقاسم الأدوار أن يحرّك الامير نايف التيار الصحوي كيما يعارض تغيير المناهج في رسالة غير مباشرة للخارج يراد منها احضار التيار الديني الصحوي كأحد القوى الضاغطة والمعارضة للتغيير، وفي الشق الآخر من الرسالة هناك تحذير من الدعوة الى اصلاحات شاملة وفورية كونها ستؤدي الى تأليب التيار الديني الصحوي وقد يخرّب نظام المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة.

التيار الوطني.. المنجز الاصلاحي

يلزم التعريف بالتيار الوطني لوقوع الخلط بينه وبين التيار الليبرالي، فالتيار الوطني المقصود هو طيف القوى السياسية والاجتماعية التي تضافرت جهودها على مستوى وطني من أجل إيصال رسالة جماعية في الاصلاح السياسي للدولة. وبهذا المعنى فهو يقابل التيار السلفي الصحوي الذي يمثل خطاً ايديولوجياً وقوة اجتماعية وسياسية محددة.

وتعود نشأة التيار الوطني الاصلاحي الى أوضاع ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، وبروز الحاجة الى قوة دفع اصلاحية من أجل احداث توازن في عملية صناعة القرار الداخلي. فمن المعروف أن صناعة القرار في السعودية كانت تتم دائماً عبر إجماع بين العائلة المالكة والقيادات الدينية للبلاد. وقد حقق هذا النوع من الاجماع الاستقرار النسبي منذ انشاء المملكة. ولكن في السنوات القليلة الماضية، فإن هناك تحديات واجهت السعودية وتتطلب عملاً مستقلاً من قبل الحكومة. فالعلماء الذين تمتعوا بسلطة الحظر على قرارات هامة لا يرغبون وغير قادرين على دعم الاصلاحات الضرورية التي تجدد دماء الدولة وتكفل لها السير الثابت في القرن الحادي والعشرين.

لقد أدرك الامير عبد الله وعدد من الامراء الاصلاحيين الحاجة لبناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية وحماية حقوق المرأة والحرية الدينية والفكرية. وبالرغم من إصرار هذا الجناح على توفير غطاء شرعي من داخل المؤسسة الدينية من خلال تشجيع بعض العلماء المعتدلين على تقديم المساعدة في هذا المسعى، فإن تعاونهم كان ضئيلاً وغير ملحوظ، ولايبدو أن هذا التعاون محتملٌ في الوقت القريب، حيث أن غالبية المؤسسة الدينية عملت على تعويق عدد كبير من المقترحات الخاصة باصلاح الجهاز الاداري للدولة.

فاللجنة الاستشارية التنفيذية، على سبيل المثال، والتي كانت أسست من قبل ولي العهد لدراسة التحديات الرئيسية التي تواجه المملكة، قد أعدّت العديد من الاقتراحات الهامة التي لم يتم تفعليها حتى الآن. ولعل التطوّر الهام المنتظر في هذا الصدد هو الاعلان عن انتخابات بلدية، مع حقوق كاملة بالتصويت يمنح للنساء، وهو ما أصبح عرضة للالغاء التام أو التأجيل بأسلوب مائع. مع الفات الانتباه الى أن الافكار الاصلاحية حظيت بدعم واسع في العائلة المالكة وبين السكان عموماً. وبحسب استطلاع شبه حكومي على 15 ألف سعودياً، فإن الذين دعموا انتخابات بلدية في كافة المناطق يمثلون 78.5 بالمئة في الحد الادنى، وبخصوص القضية الاكثر حساسية والمتعلقة بحق المرأة في التصويت، فهناك ثلاث مناطق فقط من بين 13 منطقة عارضت هذا الحق.

ولكن بالرغم من هذا الدعم، فإن معارضة علماء الدين المتشددين نجحت في افشال المبادرة. فقد احتجوا بأن الانتخابات البلدية، اذا قدّر لها فيجب أن تتم ببطء شديد، بحيث لا يجوز إنتخاب كافة الاعضاء كما لا يجوز أن تلعب المرأة أي دور في هذه الانتخابات. وفي محاولة لتهدئة هذه القيادات الدينية، فإن عدد الاعضاء المنتخبين قد جرى تخفيضه للنصف كما أن قضية البت في مشاركة المرأة في الانتخابات قد جرى تأجيلها. وبالرغم من تحضير القوانين والتنظيمات الضرورية لاجراء الانتخابات، الا أنه لم يتم الاعلان عن جدول زمني لتطبيقها.

يعتقد البعض بأن هذا الاسلوب المتردد والمتراجع يبدو غير مقبول وخطير، سيما وأن القيادة السياسية المتمثلة في الامير عبد الله ظلت تتمتع بدعم شعبي واسع بسبب الايحاءات المتكررة التي كانت تختفي وراء مواقفه الاصلاحية العلنية والتي تعززت بدرجة كبيرة بعد الهجمات الانتحارية التي وقعت في الرياض العام الماضي. ولذلك، فإن الرياض يجب أن تكون القاعدة التي تدفع باتجاه الانتخابات. إن محاولة ايجاد منطقة وسطى من أجل ارضاء علماء الدين المحافظين تفرض تهديداً للبرنامج الاصلاحي برمته.

إن المتشددين داخل المؤسسة الدينية قوّضوا محاولات القيادة من أجل تعزيز حماية الاقليات في المملكة وتطوير الاعتدال الديني. وهذه المشكلة قد جرى تسليط الضوء عليها في مؤتمر الحوار الوطني الاخير. فقيل سنتين لم يكن مفكّراً فيه أن تحضر هذا المؤتمر قيادات المذاهب الدينية الرئيسية في المملكة أو أن يتم مشاهدتهم في بث تلفزيوني مباشر. فقد جلس الشيخ سلمان العودة، أحد أبرز علماء التيار الصحوي المعروف بالتشدد الى جانب السيد محمد علوي المالكي الرمز الديني الحجازي وعالم دين شيعي. وفي هذا اللقاء، تعهّد العودة الى جانب الآخرين للعمل من أجل الاعتدال والتفاهم بين المذاهب.

ولكن استئناف العودة في اليوم التالي لهجماته العنيفة ضد الشيعة، يجعل من الواضح بأن تصريحاته خلال المؤتمر كانت فارغة. إن هذه الافعال تشي بأن العودة كان يحظى بدعم المجموعة النشطة من الاتباع الراديكاليين. ومن الواضح، فإن رجالاً مثل العودة لا يمكن أن يكونوا رسلاً حقيقيين في التسامح والاعتدال.

يعتقد بعض المراقبين المحليين بأن العائلة المالكة ليست بحاجة الى مثل هؤلاء العلماء، ويستندون في ذلك على استطلاعات للرأي تكشف بأن الغالبية العظمة من السعوديين لا تدعم المتطرفين، وأن القيادة السياسية في البلاد (وبخاصة ولي العهد) يجب أن تأخذ هذه الحقيقة في الاعتبار. وهناك من يدعو الى خطوة ايجابية اخرى لا بد من أخذها وتتمثل في زيادة عضوية هيئة كبار العلماء لتضم ممثلين من كافة المذاهب الدينية في المملكة وليس فقط من المدرسة السلفية.

وأخيراً، فإن علماء الدين المحافظين يعيقون الجهود الخاصة بإنماء حقوق المرأة في المملكة. وعلى مدار السنوات الماضية، فإن عدداً من الافتتاحيات الصحافية، واللجان والعرائض دعت الحكومة لمنح فرص أكثر وحماية لحقوق المرأة السعودية. إن الهدف من وراء ذلك هو اقناع القيادة السياسية بأن تقوية دور المرأة ليس لكونها متصلة بالعدل من الناحية الاخلاقية ولكن تمثل ضرورية اقتصادية. وكان الامير عبد الله قد تساءل قبل شهرين: كيف يمكن لبلد أن يتقدم إذا كان يعمل بنصف طاقته الكامنة؟ وفي رد على السؤال، فإن الحكومة أعدّت عدداً من التدابير من أجل فتح مجالات رئيسية أمام المرأة، بما يشمل القانون، والدبلوماسية، والقطاع العام، والمواقع الرئيسية في مجالي التجارة والمال، وهو ما توافق عليه أغلبية السعوديين.

وليس من الغرابة، أن يحاول علماء الدين المحافظين مقاومة هذه التغييرات، فالحكومة يجب أن تتبع مثال وزارة الخارجية التي أعلنت في العام الماضي وكرد فعل على معارضة علماء الدين المتطرفين، بأنها ستبدأ في توظيف عدد من النساء الدبلوماسيات. لقد غضب علماء الدين، ولكنهم كانوا عاجزين عن وقف هذه الخطوة. وفي حقيقة الأمر، فإن عداء التيار الصحوي للاصلاح لا يستند على قاعدة ثيولوجية، وإنما هو للحفاظ على السلطة، وليس التخلي عن المبادىء، وهو الدافع الرئيسي وراء معارضة التغيير.

في الجزء الأعظم من تاريخها الحديث، تمتّعت السلطة بخاصية التحوّل التدريجي، ولكن مشاكل اليوم من قبيل الانفجار السكّاني، وتزايد حجم البطالة وتهديد التطرف، تتطلب قيادة قوية وعملاً فوريّاً، إن التحرّك البطىء من أجل تهديم الاجماع مع المؤسسة الدينية لم يعد مقبولاً وليس ضرورياً أيضاً.

إن إلحاح العائلة المالكة على الامساك بالعصا من المنتصف من أجل موازنة النفوذ بين التيارين الوطني والصحوي السلفي لم يعد ممكناً في ظل أوضاع استثنائية.. فهناك قرارات حاسمة تتطلبها مثل هذه الاوضاع، فتعمد خلط التيارات ودمجها أو ضربها ببعض أو حتى الخروج عليها بتيار ثالث من أجل سحب البساط من الجميع، قد يؤجّل تفجر المشكلة ولكن لن يلغي حقيقة أن الاصلاح السياسي لا يحتمل مقامرة اخرى.

قد ينجح أحد اطراف اللعبة الداخلية في تعزيز قناعة معينة، كأن يزعم التيار الصحوي المنشق عن التيار السلفي المتشدد بأنه قادر على تقديم وصفة علاجية تنقذ الدولة من أزمتها الراهنة، باعتباره الأكثر تأهيلاً للقيام بهذا الدور، في مقابل التيار الليبرالي الذي ينظر اليه التيار الصحوي بكونه تياراً متطفلاً وفاقداً للشرعية الدينية والشعبية التي تؤهله للاضطلاع بدور معاضد للدولة.. فيما هم وحدهم الماسكون بجرعة الحياة للدولة، والضامنون الوحيدون لمشروعية البقاء والديمومة، فهم منحوها الشرعية في مستهل نشأتها، وهم وحدهم الذين سيمنحونها الشرعية من أجل الاستمرار اذا ما قبلت مبدأ المقاسمة التاريخي: تفويض ديني مقابل تفويض سياسي، أو في غير ذلك يبقى الطلاق التاريخي: تقويض ديني مقابل تقويض سياسي.

وليس في ذلك جديد، فقد عبّرت صراحة عريضة التيار الصحوي بشأن تغيير المناهج عن هذا المنزع العميق، والذي تأكّدت فيه مشاعر التيار بأن هذه الدولة نشأت على ركنين السيف والدعوة، وان افتراقهما يعني تحطّم الدولة، فهي دولة التوحيد وأن العائلة المالكة مجرد سلطة لتطبيق الشريعة السلفية، وهذا مبرر بقاء أفرادها كولاة أمر، وبهذا المعنى فإن العلماء السلفيين الوهابيين هم الذين منحوا هذه الدولة شرعيتها، ومتى ما تخلت عن النهج السلفي فإن شرعيتها تصبح لاغية.

هذه العقيدة المتأججة في صدور رموز التيار الديني السلفي عموماً تضغط بشدة على العائلة المالكة في أن تحافظ على المحيط الطبيعي الذي نشأت فيه والذي استمدت منه مشروعيتها وقوتها.. خصوصاً وأنها تدرك تماماً المفعول السحري للعامل الديني في تأليب الشارع ضد الحكومة، فلماذا لا تجعل من هذا العامل أداة توحيد سياسي كما فعلت طيلة العقود الماضية؟

بيد أن هذه الرؤية الكلاسيكية باتت تفقد كثيراً من مفعولاتها، إذ لم يعد العامل الديني يحتفظ بقوة التأثير السابقة، لا لكون المجتمع أصبح أقل تديناً، وإنما لتصدع مصداقية الدولة والمؤسسة الدينية في السنوات الأخيرة، حيث بات ينظر الى مستعملي الخطاب الديني في الميدان السياسي وكأنهم يبتذلون الدين لأغراض الدنيا، وخصوصاً حين يتم استعمال هذا الخطاب للدفاع او تبرير سياسات الدولة، التي يعلم كثيرون بنتائجها العكسية.

وبالرغم من أن العائلة المالكة قد تجنح الى تطوير خيار التحالف مع التيار السلفي الصحوي باعتباره الأقرب الى ميولها الخاصة، والأقل كلفة من منظور التنازلات السياسية، الا أن مستقبل التحالف يبدو شديد الغموض، فهذا التيار لم يكشف عن كامل أوراقه وطموحاته، بالنظر الى مطالبه السابقة المنصوصة في (مذكرة النصيحة) والتي تمثل مانيفستو اصلاحي شامل، يضع الدولة بكاملها في خط الامتيازات السلفية التقليدية. وقد تجد من التيار الوطني من يشجّع الحكومة على السير نحو خيار التحالف مع التيار الصحوي من أجل رؤية حتف الطرفين معاً، كونهما يسيران على الضد من الظروف الموضوعية وفي مواجهة رياح التغيير، وبالتالي فإن النتيجة الحتمية معروفة سلفاً. إن أولى النتائج المتوقعة من هذا التحالف هو انشقاق المجتمع على نفسه وتوفير فرص الاصطفافات الداخلية على خلفية مواجهة تحالف تأسس في الأصل على مقاومة مصالح الاغلبية وضد الارادة الشعبية. فالمواطن العادي يبحث عمن يصلح حاله، ويساعده في تحسين ظروف معيشته، ويوقف ظاهرة الفساد الاداري وهدر المال العام، ويمنحه الحرية في التعبير، والاجتماع، والاعتقاد، والعيش الكريم، وهي أمور مصنّفة في الاجندة الصحوية باعتبارها منجزات متأخرة للاصلاح الشامل بالمعنى الديني حصراً. ولعل هذا مصدر الاطمئنان للعائلة المالكة، فهي تتعامل مع تيار لا يملك برنامجاً إصلاحياً بالمعنى السياسي، وأن مطالبه الدينية قابلة للتحقيق جزئياً على الأقل، لكونها تأتي في سياق تعزيز السلطة.

على العكس من ذلك التيار الوطني الاصلاحي، الذي يطالب بتغييرات جوهرية في بنية الدولة، تستهدف بدرجة أساسية إضعاف قبضة العائلة المالكة على المفاصل الرئيسية للدولة كالدفاع، والخارجية والداخلية والاقتصاد والقضاء والتشريعات القانونية وغيرها.

قد يكون من صالح العائلة المالكة ـ ظاهراً على الاقل ـ إضعاف التيار الوطني، لأنه ينادي بمطالب عكس ما ترغب بها العائلة المالكة. ولكن في حقيقة الأمر أن الاستسلام لمقولة أن أن التيار السلفي لا يشكل تهديداً للعائلة المالكة بالقدر الذي يشكّله التيار الوطني الاصلاحي يبدو خطأً قاتلاً أحياناً، بالنظر الى خبايا مستقبلية وأجندة مستورة أو مؤجلة للتيار الصحوي، إذ ينظر كثيرون الى أن المعاضدة العلنية أو الخفية التي يبديها مشايخ التيار الصحوي للعائلة المالكة قد تمثّل تكتيكاً سياسياً وانحناءً لعاصفة يرجى مرورها بسلام ليعود التيار لاستعلان مطالبه الحقيقية.

ولهذه الاسباب والهواجس، فإن الطريق الأسلم للعائلة المالكة استجابتها للنداءات الوطنية المطالبة بالاصلاح قبل أن يكون الاصلاح جزءا من ممليات خارجية حتى لا تفقد ماء الوجه على المستويين المحلي والدولي، تماماً كما حصل بالنسبة لتغيير المناهج والرقابة الصارمة على الحسابات البنكية. ورغم أن ضرب التيار الاصلاحي بطريقة ساخرة وعابثة الى حد كبير قد سلب من العائلة المالكة إمكانية تمرير البرنامج الاصلاحي على سكة محلية، الا أن الفرصة الاخيرة تبقى ممكنة إذا ما كان هناك رغبة صادقة وحقيقية في الحل.

الصفحة السابقة