الدولـة الباهتة

ثمة حوادث وشخصيات وظروف تاريخية تلعب دوراً مركزياً في إضفاء أهمية خاصة على دولة ما، بحيث تجعلتها تفرض احترامها وهيبتها على الدول الاخرى. ولم تكن هذه الاهمية تقتصر على القدرات المادية للدولة وحدها كما قد يقال غالباً، فقد تضطلع دولة فقيرة ما بدور محوري في السياسة الدولية بفعل النشاطية الدبلوماسية التي تتمتع بها حكومتها أو الشخصية الكاريزمية التي تقود هذه الدولة، كما حصل بالنسبة لمصر في زمن عبد الناصر وحتى بعد ذلك ومازالت حتى الآن وخصوصا في التسوية السلمية والصراع العربي الاسرائيلي.

إن أهمية الدول لا تنبع من قرارات صادرة عن هيئة الامم المتحدة ولا من بلاغات رسمية تصدرها الدول، بل هي نتاج أوضاع وحوادث ومواقف ومهارات دبلوماسية فريدة تفضي في نهاية المطاف الى نحل دولة ما سمة خاصة بين الدول، بما يضفي عليها لوناً مميزاً، وتكون لها حظوة بين قادة العالم، وتصبح ملجأ الامم حين تنشب الخلافات وتندلع الحروب، تعويلاً على حكمتها في ادارة الخلافات وقوة اقناعها في اطفاء ثائرة الصراعات..

يلزم الاستدراك هنا بأن بعض الدول حظيت بأهمية مفتعلة في فترات محددة لأن ارادة عليا ما تدخلت لتحقيق هذه الاهمية ولكن ما لبثت ان تلاشت حين تبدّلت الارادة تلك.. فبلادنا ـ على سبيل المثال ـ رغم أهمية دورها الاقتصادي الدولي بفعل عامل النفط، الا أن أهميتها تقررت بفعل أوضاع الحرب الباردة، بدليل أن هناك دولاً نفطية أخرى لم تنل ذات الاهمية بفعل العامل النفطي مثل ليبيا لأنها لم تلج المعسكر الرأسمالي حينذاك.

في الواقع، إن هناك مجموعة تفاعلات اقتصادية وسياسية وايديولوجية ساهمت في بلورة الدور السعودي وبالتالي أسبغ عليه لوناً خاصاً على المسرح الدولي خلال الحرب الباردة.. فهناك كان العالم منشطراً على نفسه الى معسكرين: الشرق الشيوعي، والغرب الرأسمالي بمفعولاته الايديولوجية وحروبه الدموية ومؤامراته السرية والعلنية.. ولا ريب أن السعودية كانت رأس حربة في معسكر الغرب حتى نهاية الفصل الأخير من الحرب الباردة. ولا جرم أن ما قامت به السعودية من مهام وتمويلات لحروب في اميركا الجنوبية واسيا الوسطى واخيرا افغانستان كانت تندرج في سياق التجاذب الشديد بين المعسكرين، في مسعى كل منهما للإطاحة بالآخر، ولاشك أن السعودية كانت من أدوات الاطاحة بالمعسكر الشرقي لحساب المعسكر الغربي. وهذا بالتحديد التلخيص الكثيف لأهمية السعودية طيلة فترة الصراع الدولي خلال الحرب الباردة، وأن الألوان التي شاركت في رسم صورتها على المستوى الدولي مستمدة من أتون الحرب تلك.

لقد أفرزت الحرب الباردة رموزاً أيضاً، فالملك فيصل لم يكن ذا خصائص كاريزمية فريدة ما لم تكن لمعركته الايديولوجية مع عبد الناصر واعلانه الحرب على الشيوعية ضمن قوانين الحرب الباردة دخالة شبه مباشرة في تشكيل الهيئة التي خرج بها امام الملأ في الداخل والخارج. صحيح أن موقف الملك فيصل في حرب اكتوبر 73 كان العنصر الأشد ظهوراً لأن الوقوف ضد أميركا يمنح صاحبه وسام شرف من الدرجة الاولى، ولكن هذا الوسام ظل محفوفا بالشبهات إذ لا يمكن اجتماع التحالف والخصومة في جوف واحد، وفي ظرف تاريخي واحد أيضاً.

على أية حال، فإن نهاية الحرب الباردة أسدلت ستاراً على مرحلة مكتظة بالألوان والرموز والسياسات، وكانت ستؤدي بالضرورة الى اختبار امكانيات الاطراف المشاركة في تلك الحرب على العيش في ظروف جديدة والاحتفاظ بأهمية كانت اكتسبتها من تلك الحرب. وقد لحظنا بأن انهيار المعسكر الشرقي قد جرف معه دولاً وقادة وشبكات تحالف ولم يكن حال بعض الاطراف في المعسكر الغربي أحسن من ذلك، وخصوصاً تلك الدول التي اضطلعت بدور لوجستي في الحرب الباردة. فقد جاء الانهيار بتربّع الولايات المتحدة على عرش العالم، واطلاق يدها في كل زوايا الارض، ولم تعد بحاجة الى وكلاء يتولون بالنيابة عنها مهام غير قادرة على القيام بها بصورة مباشرة بحسب قوانين الصراع القديمة، فقد أصبح العالم كله مباحاً لجيوشها وشركاتها، وأن الدول اللوجستية ذاتها غير مستثناة من هذه (الاباحة) أو الاستباحة.

وعودة الى السياق الاصلي للفكرة، فإن هناك دولاً أصبحت باهتة لغياب الاحداث والقادة والظروف التاريخية التي تسمح لهذه الدول بأن تتبوأ مكانة خاصة بين الدول أو تكتسب لوناً مميزاً يثير انتباه العالم. والسعودية من بين الدول التي فقدت بعد الحرب الباردة مكانتها ولونها على المستوى الدولي، واستطراداً يمكن الإدعاء أيضاً بأن هذه المكانة واللون تضاءلا الى حد كبير حتى في الداخل بفعل الانتكاسات المتواصلة في سياسات الدولة الاقتصادية والسياسية والامنية.. فالفشل الذريع الذي منيت به العائلة المالكة من أجل تسوية أزمات مستفحلة مثل البطالة والانهيار الحاد في الخدمات الصحية والاجتماعية وسقوط هيبة الامن، ونكوص القيادة السياسية في مجال الاصلاح الشامل والجوهري سلب الدولة مكانة كانت تراهن عليها لحفظ أمنها واستقرارها واستمرارها.. إن سلسلة الارتكاسات هذه مجتمعة ساهمت في (تبهيت) الدولة السعودية وجعلها بلا لون جاذب يحفظ لها مكانة متميزة أو يجعلها قادرة على لعب دور جوهري في الداخل، فالدولة لم تعد اللاعب الوحيد في حسم المشكلات الداخلية، فقد تدخلت قوى جديدة تضطلع بوسائل متنوعة سلمية وعنفية من أجل فرض حلول لمشكلات غير قابلة للتأجيل، وهذا دليل آخر على أن الدولة السعودية باتت باهته اذ لم يعد هناك من ينتظر من قيادتها أن تقدّم حلاً، لأن حلولها باتت هي الاخرى باهتة.

الصفحة السابقة