هل تقوم الدولة السعودية الرابعة الدستورية العادلة؟

الملكية الدستورية: إقصاء أم إعادة تأسيس

متروك الفالح

قبل سنتين عندما كتبت عن المستقبل السياسي للسعودية في ضوء أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، طرحت فكرة إن المشهد المنقذ في وجه احتمالات مشاهد الانهيار او التقسيم للبلد، هو ولوج الإصلاح الشامل وعن طريق البدء في الإصلاح السياسي أولاً وتبني اعلان الملكية الدستورية وعندما تداعي دعاة الإصلاح والمجتمع الأهلي المدني فكرة الإصلاح الدستوري السلمي كانت مذكرة وخطاب (نداء للقيادة والشعب معاً: الإصلاح الدستوري أولاً) والتي وقعها أكثر 116 شخصاً من النخب المثقفة والأكاديمية بمن في ذلك أساتذة بارزون في العلم الشرعي في عدة جامعات سعودية، دعاة وقضاة وكذلك اعلاميون ورجال أعمال، وقدمت الى القيادة السعودية بعد منتصف شهر ديسمبر 2003 م. وقد طالبت تلك المذكرة باصلاحات سياسية شاملة تنطلق من المطالبة بالدستور ومن اعلان الملكية الدستورية، وكانت هناك آلية مقترحة لتشكيل هيئة وطنية مستقلة، من أهل الرأي والخبرة والعلم في الفقه الدستوري والعلوم الاجتماعية الاخرى وكذلك أهل العلم الشرعي، لكي يعدوا مسودة عناصر الدستور، لعرضها بشكلها النهائي على الشعب للتصويت عليها، ولكي تشكل عقداً اجتماعياً لعلاقة قانونية ملزمة بين المجتمع والسلطة، تتحدد بها الحقوق والواجبات وآليات الرقابة والمحاسبة على السلطات فيما بينها، ويبدأ بتطبيق الاصلاح الدستوري في غضون ثلاث سنوات.

وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعني تبني الدستور وبالذات الملكية الدستورية أنه يهدف الى إقصاء العائلة المالكة عن الحكم؟ بحيث إنها تملك ولا تحكم وتكون كالأسرة المالكة البريطانية، باعتبار إن بريطانيا ذات ملكية دستورية مجرد رمزية شرفية؟ هناك من المسؤولين من طرح هذه التساؤلات مباشرة على بعض من دعاة الإصلاح الدستوري السلمي والمجتمع الأهلي المدني. وقال: أنتم تريدون ملكية دستورية، يعني تريدوننا نملك ولا نحكم. كذلك طرح آخرون من بعض الكتاب أطروحات قريبة من هذا، وبعضهم هاجم مطلب الملكية الدستورية على أنها حرق للمراحل. هل هذه التساؤلات تنطلق من مخاوف مشروعة أم من محاولة لإحباط الاصلاح؟ سؤال مفتوح، ولكن لنتساءل جدلاً: هل هذه التساؤلات صحيحة أم لا؟ بداية نقول أن هذه التساؤلات والمخاوف ليست صحيحة البتة، وسبق إن قلنا ذلك، ولكن نعيد بعض النقاط للتأكيد عليها ولتوضيح فكرة الملكية الدستورية وإنها لا تعني البتة إقصاء آل سعود عن الحكم . في مذكرة الإصلاح الدستوري أولاً كانت العناصر الدستورية التي حددت:

1) اقرار الحقوق والحريات العامة والأساسية التي أقرتها الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية والتي التزمت بها الدولة السعودية بما في ذلك حق التعبير والرأي والاجتماع والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات (إدارة الشؤون العامة).

2) فصل السلطات وانتخاب سلطة نيابية (مجلس شورى ملزم) انتخاباً شعبياً مباشراً لأهل الرأي والخبرة والعلم والاختصاصات، فهم الذين تنطبق عليهم عبارة (أولي الأمر) وإنهم (أهل الحل والعقد). وهذه السلطة النيابية (مجلس شورى ملزم) المنتخبة شعبياً ودورياً تتمتع بسلطات رقابية ومحاسبة على السلطات الآخرى وخاصة السلطة التنفيذية، بمعنى رقابة أعمال وسياسات الحكومة (الوزارة)، على أن تكون لها امكانية القدرة على المسائلة بما في ذلك مسائلة الوزراء عن أعمالهم وكذلك مراقبة المال العام والميزانية.

3) وفي سياق فصل السلطات، مسألة تعزيز استقلال القضاء وذلك ليؤدي دوره في إقامة العدل عن طريق التقاضي والتخاصم دون أن تخضع لضغوط وتأثيرات من السلطات الأخرى وخاصة السلطة التنفيذية مما يدخل في العدالة القضائية. واستقلال القضاء الذي يراد الوصول إليه هو ليس استقلال القضاة أنفسهم وإن كان هذا مطلوباً، وإنما استقلال القضاء كاستقلال مؤسساتي وهذا يتطلب معايير دولية على الدولة أن تضمنها للسلطة القضائية في حدود الصلاحيات الدستورية لها.

4) وفي سياق الحقوق والحريات العامة، السماح بتكوينات المجتمع الاهلي المدني بالتشكيل والقيام من قبل الأفراد والجماعات في المجتمع على أسس مهنية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي مرحلة لاحقة قد تكون السياسية مستقلة، والهدف من هذه الجمعيات الاهلية والمدنية أن ترعى مصالحها وحقوقها وما يتعلق بالاحتساب المؤسسي على السلطة في سياق الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كل في مجاله وفي المجال العام. اضافة الى ذلك فإن هذه التكوينات الاجتماعية الأهلية المدنية تقوم بدور هام وهي إنها تساهم في انخراط الأفراد والمواطنين وخاصة الشباب في تلك الأطر الاجتماعية، مما يتيح لها أن تفصح عن رغباتها ومطالبها وإيجاد منافذ لها في التعبير وطرح الآراء والمشاركة الاجتماعية بطريقة سلمية، تبعدهم عن الانحرافات والإتجاهات ووسائل العنف، والتي قد تكون الوسيلة المتاحة في غياب تلك المؤسسات الأهلية المدنية.

هذا الدستور بهذه العناصر والآليات للرقابة والمحاسبة والاحتساب على السلطات وفيما بينها، يصوت عليه شعبياً بأن تتم صياغته من هيئة وطنية مستقلة من أهل العلم والرأي والاختصاصات في كافة المجالات بما في ذلك الفقه الدستوري والشريعة الإسلامية لكي يؤصل على الإســلام.

الدستورية تحلّ أزمة الخلاف العائلي وتمنع تفجره

إذا تم التصويت عليه، يكون لدينا عقد اجتماعي جديد، يقنن العلاقة الملزمة بين السلطة والمجتمع (الشعب، الأمة)، بحيث تحدد الحقوق والواجبات والحريات، وكذلك يصبح المواطن جزءاً أصيلاً داخل العملية السياسية وليس خارجاً عنها عن طريق ممارسة حق الترشيح أو التصويت لانتخاب ممثلي الشعب في السلطة النيابية (مجلس شورى منتخب ملزم)، وبالتالي يحقق حقه وحريته في المشاركة الشعبية وفي اتخاذ ورسم السياسات والرقابة عليها. وتكون المرجعية في هذه المشاركة وللرقابة وللسلطة النيابية مرجعية شعبية، ارادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، وتحقق دائماً بالانتخابات الدورية وهذه المرجعية الشعبية هي التي تعطي السلطة النيابية الحق في ممارسة اتخاذ القرارات والقوانين والأنظمة، ولكن مصادر أحكام تلك القرارات والأنظمة في بلد اسلامي مثل السعودية، مثلاً، تبني على أولوية النصوص القطعية في الكتاب والسنة الشريعة الإسلامية في حالة وجودها. ومع تحقيق قدر كبير من استقلال القضاء أيضاً وكذلك قيام وعمل تكوينات المجتمع المدني لاتمام عملية المحاسبة والرقابة والاحتساب على السلطات بما في ذلك على السلطة النيابية نفسها، نكون بالفعل وصلنا الى دولة وحكومة دستورية حيث تكون سلطتها مقيدة عن طريق الرقابة والاحتساب.

عند الوصول الى ذلك، نستطيع أن نحقق ونضمن العدل القسط بكافة أشكاله ومجالاته في الاقتصاد والاجتماع والحقوق والتخاصم والتقاضي والادارة... الخ، والذي أمر الله به وأنزل البينات على رسله ليقوم الناس به. عندها نستطيع أن نقضي على الفساد ونحارب الظلم والجور والرشوة والفساد المال والإداري وهدر المال العام والإختلالات الاقتصادية في التنمية وسوء توزيع الثروة والموارد على المواطن والمناطق، وكذلك الاختلالات الاجتماعية والثقافية والفكرية والتعليمية والطغيان والاستبداد. عندها يمكن اصلاح التعليم، وإصلاح الثقافة والاقتصاد. أما قبلها وبدون الإصلاح السياسي القائم على الدستور فإننا ليس فقط لا نستطيع، بل إننا نخادع أنفسنا وسوف نصل الى انهيار عاجلاً أم آجلاً.

نختصر القول عن لماذا الدستور، فنقول: أن لا عدل بكافة المجالات بدون شورى ولا شورى ملزمة دون أن تكون منتخبة شعبياً ودورياً وبسلطات رقابية ومحاسبة على المال وعلى سياسات الحكومة (السلطة التنفيذية ـ الوزارة) ولا سلطات رقابية ومحاسبية بدون دستور مصوت عليه شعبياً ومتضمناً لتلك العناصر وتلتزم الدولة به باعتباره عقداً اجتماعياً لا يجوز ابداً الإخلال به.

في المقابل ترى في النظام الأساسي للحكم 1412هـ ـ 1992م في المملكة، فإن الملك (الذي تنتقل إليه السلطة، بالوراثة، ومن أبناء أحفاد الملك عبد العزيز آل سعود، وهو ما يعني ان ليس بوسع الغالبية من آل سعود أن تتبوأ هذا المنصب ويحرمها الحق في هذا رغم إنها من الأسرة) هو مرجع كل السلطات، السلطة التنفيذية وما يسمي بالسلطة التنظيمية (السلطة التشريعية في الدول الاخرى) والسلطة القضائية، وهو الذي يعين ولي العهد. إذن نحن امام سلطة مطلقة كاملة مهيمنة على كل شئ بما في ذلك السلطة القضائية حيث إن الملك من خلال نظرية ولي الأمر هو القاضي الأول والأساس، وما القضاة المعينون سوى وكلاء او نواب عنه. ولذلك تجد في قضايا التعزير ومنها القضايا السياسية والأمنية والتي ليس فيها نصوص قطعية، تجد أن الملك (ولي الامر) له الحق في عدم قبول الحكم ورده ورفضه وطلب تغييره، أما بالتشديد أو التخفيف. وإذا أضفنا الى ذلك مشكلة تأثير وضغوط السلطة (ولي الأمر) على السلطة القضائية، رغم القول إنها مستقلة طبقاً للنظام الأساسي للحكم، وإن لا سلطات عليها سوي الشريعة الإسلامية، وكذلك عدم وجود معايير محددة واضحة لاستقلال القضاء كمؤسسة وليس كأفراد، فإن هناك خللاً كبيراً في إقامة العدل على مستوى التقاضي والتخاصم، وخاصة عندما تكون الدولة هي الخصم والمدعي تجاه المتهمين في قضايا سياسية، مثلاً، فما بالك على مستوى عمل السلطة التنفيذية والتي تجمع في عملها، أعمال السلطة التشريعية أو التنظيمية. في الوقت نفسه الملك هو رئيس مجلس الوزراء وهو المرجع لها، وهو الذي يصدر معظم القرارات إما بمراسيم أو بقرارات من مجلس الوزراء، ورئيس الأخير هو الملك أو من ينوب عنه.

السلطة القضائية بوضعها الحالي وضمن صلاحياتها لا سلطات لها على السلطة التنفيذية والتشريعية (مجلس الوزراء)، وأما مجلس الشورى المعين فهو بالنظام الاساسي للحكم أصلاً لا يتمتع بسلطات أو صلاحيات رقابية ولا بصلاحية اصدار قرارات ملزمة تجاه الحكومة باعتبارها سلطة تشريعية وتنفيذية، لها أن تأخذ بتوصيات مجلس الشورى او ترفضها، وللملك وحده الحق في أن يفصل في المسألة، علماً بأنه رئيس مجلس الوزراء (وفي موازاة ذلك لا وجود لجمعيات اهلية مدنية تقوم بالاحتساب على السلطة لمصالحها وحقوقها وللمصلحة العامة). إذا نحن أمام سلطة مطلقة في النظام الاساسي للحكم الحالي، يتمتع بها الملك، ولا توجد آليات للمحاسبة والرقابة، وحتى ديوان المظالم، وإن كان يسمح نظامه بشكوى الموظفين الحكوميين لأجهزتهم الحكومية، إلا أنه جهاز غير مستقل أصلاً وبالتالي لا توجد آلية للرقابة والمحاسبة المطلوبة.

بناء على ما تقدم، هل النظام الاساسي للحكم يعتبر دستورياً؟ الجواب، بالتأكيد لا، ذلك لأن النظام الأساسي للحكم أولاً، لا يتضمن الآليات والهياكل والعناصر الدستورية التي تضمن اقامة العدل من خلال وجود آليات المحاسبة والرقابة على السلطة التنفيذية (الحكومة) من قبل سلطة ذات مرجعية شعبية (الشورى المنتخبة الملزمة)؛ وثانياً، اضافة الى عدم اكتمال العناصر الاخرى من حيث الحقوق والحريات العامة والاساسية للناس وعدم وجود آلية ملزمة بها، وكذلك وجود خلل في استقلال القضاء. لذلك فإن النقطة الأهم هي أن أي نظام للحكم لكي يصبح دستورياً لا بد أن يحظى بموافقة شعبية عن طريق التصويت ليصبح الشعب وإرادته هي مناط سلطة الحكم، وليس أي مرجعية اخرى، على أن تكون ممارسة الحكومة تدل بوضوح على التزامها بالحقوق والحريات، والاحتساب عليها سواء من قبل السلطات الاخرى او من قبل المجتمع، عبر هياكل ومؤسسات المجتمع الاهلي المدني (الجمعيات والاتحادات... الخ).

نحن أمام نظام للحكم ليس دستورياً على الإطلاق، بل ومن خلال الجمع بين السلطات الثلاث، فإنه يؤسس لنظام الحكم الفردي بالسلطات الشمولية (سلطات مطلقة)، دون رقابة أو محاسبة لا من السلطات ولا من المجتمع ولا حتى من الأسرة المالكة نفسها. نحن أمام حكم ملكي ذي سلطة مطلقة، وهذه بدورها تولد أنظمة أبوية سلطوية في الأجهزة والمؤسسات الحكومية، ولذلك يستشري الفساد والمحسوبية وعدم المبالاة وهدر المصلحة العامة، لغياب أيضاً آليات المحاسبة، والرقابة، ويصبح الخلل في كافة المجالات متغلغلاً الى درجة يصعب السيطرة عليه، بل أيضاً تصبح ـ في ظل غياب آليات المحاسبة والرقابة ـ عملية السيطرة أمراً مستحيلاً، ولذلك ليس غريباً أن تؤدي تلك الاختلالات الى تنامي روح عدم الانتماء للوطن وغياب الشعور بالوحدة الوطنية وكذلك تنامي بذور العنف، واحتمالات مفتوحة من الصراع الاجتماعي ليست بعـيدة.

بقاؤه مقعداً دليل على خلل في النظام السياسي

وهذه الاشكالية وتداعياتها، ليست عيباً لصيقاً بالملكية المطلقة فقط، وإنما هي أيضاً عيباً ومشكلة حتى في الأنظمة العربية المسماة جمهورية، طالما هي ايضاً أنظمة سلطوية استبدادية، حتى وأن كانت تزعم بوجود دساتير، ولكنها دساتير لا تقيد سلطات الحكومات ولا تعبر عـن إرادة شـعبية.

نحن في السعودية أمام نظام حكم ملكي وملكية ذات السلطات المطلقة، بمعنى آخر نحن أمام سلطات غير دستورية. في المقابل فإن الأخذ بالدستور من حيث إننا نصل بالفعل الى سلطة غير مطلقة سنصل الى الملكية الدستورية، فما الذي يحدث بالنسبة للسعودية؟ هل ذلك يلغي العائلة من الحكم أم ماذا؟ على الأقل بعضاً منها، لأنه ليس لكلها الحق في ذلك من خلال النظام الأساسي للحكم حيث يقتصر ذلك على أوأبناء وأحفاد الملك عبد العزيز فقط.

الذي يحدث من تبني الملكية الدستورية وإعادة تأسيس وتجديد للدولة ومشروعيتها على أسس جديدة تقوم على عقد اجتماعي بحيث نكون أمام صياغة جديدة تسير العملية السياسية واتخاذ القرارات، يكون المواطن فيها جزءاً أصيلاً، عن طريق المشاركة الشعبية في السلطة النيابية والمجالس المحلية والبلدية على مستوى المناطق، وتكون المرجعية لهذه المشاركة والشراكة هي مرجعية المجتمع (ارادة المجتمع هي مناط السلطة في الحكم) بحيث يكون لهذه السلطة النيابية سلطات رقابية ومحاسبة حقيقية على أعمال وسياسات الحكومة. الذي يحدث في حال تطبيق الملكية الدستورية هو إعلان ميلاد وقيام الدولة السعودية الرابعة إذ صح التعبير، باعتبارها دولة ذات حكومة دستورية، مما يجعلها شورية عادلة ذات شرعية جديدة، تقوم على التعاقد أو العقد الإجتماعي الملزم للطرفين بين المجتمع والأسرة (آل سعود)، بحيث يصبح المجتمع عن طريق من يمثلونه سلطة نيابية ـ مجلس شورى ـ منتخب ملزم شريكاً ومشاركاً في الحكم وليس بديلاً عن الأسرة أو مقصياً لها. هذه الصيغة الجديدة للدولة السعودية الدستورية الشوروية العادلة وعن طريق ذلك العقد الإجتماعي (الدستور) يتمكن آل سعود من الاستمرار والتواصل لعقود بل لقرون مفتوحة، ضمن تلك الصيغة التشاركية مع المجتمع.

إذن الذي يحدث في تبني ملكية دستورية في السعودية هو إنه بدلاً من نظام حكم مدني بسلطات مطلقة فإننا نصبح أمام نظام حكم ملكي بحكومة أو سلطة مقيدة . هل يفقد الملك أو الأسرة حكمها؟ أو أن تحكم؟ طبعاً هذا ليس صحيحاً، الذي يحدث هو أن الملك لا يزال يتمتع بالسلطات، قد تكون واسعة ولكنها ليست شاملة أو شمولية أو مطلقة، كما كانت في السابق، وذلك لإدخال البعد الشعبي في المشاركة في صناعة القرار والسياسات والرقابة والمحاسبة. إن الملك يبقي ضمن عناصر اخرى من الأسرة له القيادة العليا في الدولة، وهو المسؤول الأول عن الدولة ويعين الوزارات ويقيمها ويجري عليها التعديلات لمقتضيات الضرورة والمصلحة العامة، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو المسؤول عن السياسة العامة للدولة. ولكن هذه السياسة العامة للدولة باعتبار إن التي تعدها الحكومة الوزارة تخضع للرقابة والمحاسبة من قبل سلطة نيابية. إذن بالقدر الذي تم التنازل عنه، هو القدر الذي أتاح للشعب والمواطن الحق بالمشاركة وصنع السياسات وأعمال الرقابة والمحاسبة. إذ هو تنازل في سياق تعاقد اجتماعي عن جزء من السلطة وبقيت أجزاء واســعة منها.

وإذا كان هذا لا يوضح الصورة، بمعنى أن تبني الملكية الدستورية في السعودية لا يعني اقصاء الأسرة الحاكمة من الحكم، فإن لدينا تجربة كل من الأردن والبحرين، فالدولتان تبنتا الملكية الدستورية وخاصة في تطبيقاتها الجديدة، في الأردن منذ 1989م وفي البحرين منذ 2002 م. فهل تطبيق الملكية الدستورية في كل من البلدين أدى الى ازاحة الأسرتين المالكتين عن الحكم؟ الجواب طبعاً معروف، ملك الأردن وملك البحرين لا زالا يتمتعان بسلطات دستورية واسعة، وكل ما حدث إنهما قبلا مشاركة الشعب والدخول في آلية الاحتساب والرقابة المجتمعية على أعمال الحكومة، وأما مكانتهما والأسرة فقد زادت شعبياً وتأييداً والتفافاً أكبر عن ذي قبل. فلماذا اذن لا نقيس على هذه التجربة العربية في الملكية الدستورية؟ ولماذا نقيس على نموذج الملكية الدستورية البريطانية أو الأوروبية؟ هذه النماذج الأوروبية وبالذات البريطانية لها أكثر من قرنين من الزمن حتى وصلت الى ملكية دستورية رمزية بالنسبة للاسرة المالكة. الذين يقيسون على الملكية الدستورية الأوروبية وبالذات البريطانية، والذين يقولون إن تبني الملكية الدستورية يعني حرقا للمراحل، هؤلاء إما يريدون ايجاد مخاوف لدى الأسرة السعودية، أو أن تتخذ ذريعة لضرب مطالب الإصلاح الدستوري، أو انهم يقدمون المبررات والمسوغات لتلك التوجهات وذلك لتداخل مصالحهم ونفوذهم ومحاولة استدامة الأوضاع، بكل ما يعني ذلك وما تحمله من مخاطر تواصل مشاهد الإنهيار وتزايد حالات الاحتقان واتجاهات العنف. لذلك فإنهم يتحملون كل مسؤولية تترتب على الاخلال بمستقبل هــذا البلد والمجتمع.

النقطة قبل الأخيرة، بالنسبة للحديث عن الملكية الدستورية وماذا يترتب عليها في حالة تبنيها انطلاقاً من الموافقة على دستور مكتوب مصوت عليه شعبياً، بما يعني إنه يمثل تعاقدنا اجتماعياً ملزماً بين الأسرة المالكة والمجتمع، أي لتأسيس دولة دستورية شوروية عادلة يمكن أن يطلق عليها الدولة السعودية الرابعة.. تلك النقطة تتعلق بأن ذلك التبني للملكية الدستورية لا يعني فقط ايجاد حل لمسألة العدل والحقوق العامة للمجتمع، وإنهاء الاحتقانات والاختلالات وإيجاد حياة مدنية اسلامية شوروية عادلة متقدمة، وإنما أيضاً يساهم في حل دستوري داخل الأسرة المالكة نفسها، بحيث تتحدد الحقوق والفرص لأي فرد من أبناء الأسرة في مسألة القيادة العليا للدولة. وهذا الامر رغم انه يترك لأبناء وبيوت وأسر آل سعود للتفاهم عليها سواء اتفق على حصر المسألة في أبناء أو أحفاد الملك عبد العزيز أم لا، فإن الأمر يجب أن يضمن ذلك في الدستور والذي يصوت عليه شعبياً بحيث تكون هناك شرعية دستورية شعبية مسبقة ومحددة تقضي على احتمالات الصراع والتنافس وتجعل هناك آلية دستورية مسبقة تطمئن الأسرة المالكة نفسها وكذلك المجتمع نفسه بأن لا تتفجر الأوضاع يوماً ما.

ختاماً نقول: إذن من هو المستهدف من تبني الملكية الدستورية في السعودية؟ هل هو القضاء على الجور والظلم والفساد وضياع الحقوق والثروات وكرامة الإنسان؟ أم هو اقصاء آل سعود عن الحكم؟ إن تبني الملكية الدستورية في سياق الإصلاح الدستوري يستهدف انقاذ البلد مجتمعاً وسلطة من أجل حياة مدنية اسلامية شوروية عادلة تقيم وتصون العدل والحقوق والكرامة الإنسانية. ولكن ما نخشاه ويخشاه دعاة الإصلاح الدستوري والمجتمع الاهلي المدني، هو أن أي تأخير وعرقلة لقيام ملكية دستورية في السعودية في الوقت الراهن، قد يجعل منها مطلباً غير معروض أصلاً في المستقبل، بل قد يكون مرفوضاً من قبل قوى الاعتراض خارج السلطة حتى لو أن السلطة عرضت أو قبلت به في وقت لاحق، حينئذٍ تكون الفرصة قد ذهبت ولربما بدون رجعة. فهل هناك من عاقل رشيد يبصر ويسمع ويبادر باتخاذ الخطوة التاريخية برؤية واضحة للمستقبل، ويطلق قيام الدولة السعودية الرابعة الدستورية الشوروية العادلة قبل فوات الآوان؟

الصفحة السابقة