تحليل الظاهرة (الجهادية) في السعودية

لكل ظاهرة راديكالية بيئة اجتماعية خاصة وظروف نشأة مختلفة وأيضاً مغذّيات ثقافية وتربوية متباينة، وإن اتفاقها في التعبير عن نفسها بطريقة متقاربة قد يلهي احياناً عن التفكير في محرّكاتها الاولى. في السعودية كما في بلدان أخرى عديدة، نبتت الظاهرة الراديكالية على أرضية دينية التي أمدّتها بمقومات الحياة ومكونات الرؤية، للكون وللحياة، والعالم وقبل ذلك للذات. ولكن تبقى هذه الأرضية خاضعة تحت تأثير عوامل عديدة، تمثّل مخصبات الفعل الراديكالي الذي تتبناه فئات اجتماعية ذات مواصفات خاصة.

ظاهرة شبابية وهابيّة

لاشك أن الرؤية الايديولوجية لها شكلها الخاص الذي تضفيه على سلوك الفرد وموقفه، ولكن ثمة عوامل أخرى تسهم بدرجة فاعلة في تنشيط وتعزيز تلك الرؤية، فالتنشئة الاجتماعية والتربوية تلعب دوراً رئيسياً في صياغة شخصية الفرد وتأهيله لتبني منهج ما، وفي شق طريق في الحياة والتعامل مع الحقائق الكونية والاجتماعية، إذ أن النظام الاجتماعي الابوي والمنهج التربوي الاحادي التوجيه يخلق أفراداً يفكرون بطريقة صارمة وأحادية.

كما أن للعامل الاقتصادي تأثيراً شديداً على سلوك الفرد، إذ لا غرابة أن تجذب الظاهرة الراديكالية من مجتمع الفقراء عناصرها المستعدين لخوض أشرس عمليات المواجهة دموية وكارثية. فالحرمان الاقتصادي يولّد بالضرورة نقمة جارفة تستهدف كل المتسببين الافتراضيين فيها، حيث لا يعود المحرومون يأبهون كثيراً للتنضيدات المنطقية التي تنزع الى تقديم تفسيرات للحرمان أو تهدئة المحرومين عبر تقديم مبررات مسهبة كإحدى التعبيرات التسويغية لمشكلة الحرمان.. فالغريق لا ينتظر شرحاً لحالة الغرق وكيفية الانقاذ والوسائل المستعملة، فهذه مهمة من يتنفسون الهواء الطلق فوق سطح الماء، وأن ما يشغل ذهن الغريق هو كيف يحشد كل قواه للاندفاع الى الاعلى، الى السطح وبلوغ الهواء.

كلمة لابد منها

لقد أسرفت وسائل الاعلام المحلية والعالمية في صبّ اللعنات على العناصر المتورطة في الحركات الراديكالية، وساهمت الحكومات المتضررة في توجيه الرأي العام الى الاصطفاف جماعياً ضد ظاهرة العنف، واكتفت الغاليبة بإدانة حوادث العنف، وهو موقف مطلوب على أية حال، فالعنف مهما كانت أشكاله وتمظهراته يظل منبوذاً كوسيلة للتعبير عن المظالم، وهي بلا شك مظالم فادحة اجتماعية كانت ام اقتصادية ام سياسية. ولكن ما يلفت الانتباه أن الانشغال الكامل في إدانة العنف لا يفي بأكثر من رؤية المشهد الدموي في نهايته، والقضية أكبر من مجرد إدانة، فالمجابهة تتم مع شبكة لها مصادرها الثقافية والاجتماعية.

إن تحليل الظاهرة العنفية لا يستهدف بحال تبريرها، ولكن في الوقت نفسه لا يرجو تقديم شهادة براءة للأطراف الضالعة فيها، سواء كانت حكومة، أو مؤسسة ثقافية، أو نظام تربوي واجتماعي، أو حتى أوضاع اقتصادية.. فبعض من عالج ظاهرة العنف يصد عن موقف ممالىء الى حد ما للحكومة، في انكبابهم على رؤية المشهد العنفي من نهايته، أي من تأثيرات التدميرية التي تحدثها التفجيرات الانتحارية أو الموقوتة، فيما يتخلّى في لحظة ما عن أمانة التحليل الموضوعي، ومقاربة الظاهرة العنفية بدرجة كبيرة من التجرّد والنزاهة والحياد العلمي. إن الطريقة التي تتم بها قراءة الظاهرة الراديكالية تسدي خدمة جليلة للطبقة السياسية التي تميل الى تصوير نفسها كمتضرر أكبر من حوادث العنف، وفي ذلك جناية كبرى، لأننا بهذه القراءة المضللة والمبتسرة نؤكد مجدداً على فصل الظاهرة عن مسبباتها وعوامل وقوعها، والاكتفاء بالتعاطي مع مؤدياتها ومحصلتها.

تكوين الظاهرة (الجهادية) واستهدافاتها

يلزم القول وبدرجة كبيرة من الصراحة والشفافية بأن العنف في السعودية ليس ظاهرة وقتية استثنائية أي مقطوعة الجذور، فهي تستمد مقوماتها من عناصر عدة اجتماعية وفكرية واقتصادية وسياسية، وأن التقاءها بعناصر أخرى إقليمية ودولية يؤدي وقد أدى الى اشتعالها وتفجّرها. للتمثيل فحسب، إن ملء الاعتقاد بعقيدة الولاء والبراء من المشركين حين يقابل المشروع الاستعماري الغربي وبخاصة الاميركي سيما في افغانستان والعراق تصبح عناصر الاحتراق نشطة، وتصبح معادلة العنف مكتملة. فالتنشئة الدينية تبقى كامنة وغير فاعلة بدرجة كافية مالم تجد في طريقها ما يؤجج نشاطها، تماماً كما ان الفقر قد يكون محتملاً ما لم يلمح المحرومون نعمة دالّة على حق مضيّع، فبيوت الصفيح تتفجر غضباً حين تشيّد بالقرب منها القصورة الفارهة، فالاضداد تلعب دور المحرضات غير المباشرة لنشوء ردود افعال قد تتبلور في هيئة ظاهرة راديكالية منظمة. فالثنائية الضدية (الغنى مقابل الفقر، والجهل مقابل العلم، والاعتدال مقابل التشدد، والامن مقابل الفوضى وهكذا)، هي العنصر الاول والصعب في معادلة العنف.

في السعودية أيضاً، كما في بلدان اخرى مشابهة، تتكل جماعات العنف على عناصر قوة محددة، ولكن من أبرز عنصري القوة في هذه الجماعات هما:

أولاً: العنصر الشبابي، حيث تتوسل هذه الجماعات بالقطاع الشبابي الذي تستمد منه رأسمالها البشري.. تنتظم عناصر شبابية في قافلة الفداء المحمّلة بكل أدوات التضحية والاثارة والاستبسال.. فالاندفاعة المنفلتة لدى الشباب المحثوث بالرغبة في تحقيق لذة المغامرة ونشوة الانجاز الخارق تشكل مادة الاحتراق الرئيسية التي يتم توظيفها في دورة العنف. فالنزعة التضحوية هي أول ما تغرسه الثقافة الجهادية، من أجل تحويل الاعتقاد الى عمل فعلي لدى الافراد المنخرطين في مشروع الجهاد.

ثانياً: المستوى الثقافي المنخفض، وليس التأهيل التعليمي وحده المطلوب في الفرد من أجل الانزجاج في معركة الفداء بالدم.. إن انخفاض منسوب الوعي الثقافي لدى أفراد الجماعة يساعد على ملء أذهانهم بأفكار ذات مضامين خاصة ومحددة.

إن الدورة التعبوية التي ينتظم فيها الافراد المؤهلون للقيام بأعمال تضحوية ذات طبيعة مغلقة، وهي تفيد من كل أدوات العولمة لتعزيز إنغلاقها، فكافة مصادر التعبئة المتقدمة لا تقبل الانفتاح على الآخر، فأفرادها متوافقون ذهنياً.. إن المحطة الفضائية، وموقع الانترنت، والكتاب، والخطبة الوعظية، والمنشور الديني والتوجيهات السرية، تتفق على لغة ثقافية واحدة.. فالواحدية سمة الظاهرة الجهادية، والتي تقوم على إشاعة تصوّر موحد بين أفرادها، إزاء الكون والحياة والآخرة، وحتى وسيلة التغيير واحدة، وإن اختلفت وسائل التعبير عن ذلك التصوّر.

يخضع أفراد الحركات (الجهادية) المغلقة الى عمليات توجية تقترب الى حد كبير من فكرة غسل المخ، بحيث يصبح المشاركون في دورات التوجيه والتعبئة المكثّفة على أهبة الاستعداد للقيام بعمليات انتحارية في أقرب مركز شرطة من أجل إرضاء النفس والضمير المشتعل بقضية تطهير الارض من براثن اليهود والنصارى وإزالة آثار الشرك والضلال، وفوق ذلك تلبية لاملاءات القيادة الروحية التي منحت نفسها تخويلاً دينياً مفتوحاً لممارسة التوجيه والحديث بلغة السماء نيابة عن الخالق.. وهذا ما يجعل النظرة اليه من قبل المنضوين تحت قيادته قائمة على التقديس والانصياع المطلق والطوعي، فهم ينظرون اليه بصفته الموكول بعقد الصلة بين السماء والأرض، أو بمثابة الشاهد العائد من الجنة ومن معدن الصدق، والذي يقوم بإلقاء الحجة على العباد والبيان الحق.. وهو في الوقت نفسه وحده الذي يمسك بقائمة الاسماء الواردة الى الفردوس شريطة امتثالهم لرسالة التضحية.

أفراد هذه الظاهرة مسلحون بخطاب يتوهم ملكية المعرفة بكل شيء وتفسير كل شيء، ولذا فإن سحرية الخطاب الجهادي نابعة من، الى جانب انغلاقه، قدرته الفائقة على إثارة الحماسة والتضحية في أفئدة المفتونين بحب الاثارة في لونها الدموي اللافت للانتباه. وهو في الوقت نفسه خطاب يغمر المتبنين له بالاعتقاد التام بأن ما يضطلعون به من مهام ثورية وتضحوية تمثل ذروة الايمان، تماماً كما أن تنفيذهم لتلك المهام يمثل قمة العطاء المطلوب لدحر الوثنية وتكسير أصنامها، تنفيذاً للارادة الالهية.

إن الاشعاع الكثيف الذي ينتجه الخطاب الجهادي يعتمد أيضاً على قدرته على بناء العالم المتخيّل الذي يعيشه الافراد كبديل عن العالم الحقيقي المشهود، فثمة رمزية ساطية في الخطاب الجهادي، في العودة الارتدادية والسادرة في الماضي، الى التاريخ حيث يعاد بعث عهد الفاتحين الاوائل في تاريخ الاسلام، وتعاد معه حزمة أسماء الشخصيات والمعارك والمواقع والجماعات.. حتى أسماء الصحابة الاوائل الذين قادوا المعارك الكبرى في تاريخ الاسلام، وشاركوا في عمليات الفتح باتت صالحة للاستعارة والاستعمال المفتوح من قبل المجاهدين. إن التاريخ يشكل مصدراً ثرياً لدى الجهاديين لتفسير الاحداث وتقسيم العالم على غرار التقسيم العقدي في التاريخ الاسلامي (معتزلة، أشاعرة، جهمية، صوفية، رافضة..الخ)، وفي الكلمات المستعملة في بيانات الجهاد والخطابات التعبوية، والنشيد، والشعارات الثورية، وحتى الوسائل (ركوب الخيل، والفارس، والكتيبة..)، وهكذا الصور المبثوثة لقيادات الجهاد.. هي تعبيرات رمزية ذات دلالة دينية وتاريخية عميقة الارتباطة بتاريخ الاسلام وسيرة المسلمين.

ما سبق يدفع للاعتقاد بأن الظاهرة (الجهادية) تحمل في طياتها أداة تفسير لما يجب عليه أن يكون التعامل مع الواقع، وصناعة منظومة رؤى كيما تعطي هذا الواقع شكلاً محدداً تموضع نفسها فيه وتحدد قياساته، وتعيّن موقعها فيه ودورها في تغييره، فهذه المنظومة تتيح للمجاهدين رؤية العالم برمته بطريقة خاصة، من أجل الانتباذ منه مكاناً قصياً تمهيداً للانقضاض عليه في مرحلة لاحقة وتغييره وصولاً الى تشييد عالم متخيل مكانه.

لقد قيل بأن النظرية التي تنغلق على الواقع تصبح مذهباً وهذا الأمر قد يلحظ في الجماعات (الجهادية) في السعودية التي تحوّلت الى مذهب داخل المذهب، فالاخير ينمي الاعتقاد الصارم والحاسم بثبات وصدقية ما فيه وزوال ودحض مافي الواقع. ولا شك أن ما يحمله الغارقون في الظاهرة (الجهادية) يصل الى حد التمذهب النابذ لكل ما سواه والعصان ضد أي فكرة للتعامل مع الواقع بل المناهض له، وهذا بكلام آخر أول عامل لفشل المشروع الجهادي وأصحابه، بل هي علامة من علامات نهاياته الحتمية والسريعة، لا أقل بفعل قوة وشروط الواقع التي يستحيل القضاء عليها بمجرد الاصطدام بهذا الواقع. هي قادرة بامتياز وبكفاءة عالية على الاصطدام بالواقع ولكنها بالتاكيد عاجزة عن تغييره لأنها تفتقر الى وسائل التغيير المناسبة.

فسلسلة العمليات العنفية لا تتجاوز أكثر من حد الارتطام بالواقع كتعبير عن رفضه، ولكن ما تسفر عنه تلك العمليات لا تغدو مؤثرة تأثيراً جوهرياً او انقلابياً.. وهكذا حال الفرق الفدائية والانتحارية التي ظهرت في العديد من الدول التي قد أدت الى زعزعة الامن والاستقرار في بلدانها، ولكن انطفاءاتها كانت سريعة، ليس فقط كونها غير مستندة على قوة شعبية بل لانعدام المشروع السياسي، لأن نشاطاتها مصممة لتخريب المعادلة وليس لاستبدالها، وإن عبّرت بصورة او بأخرى عن رغبتها في صناعة البديل، فما تعكسه لا يعدو اكثر من شذرات متناثرة لا تشكل مجتمعة مشروعاً سياسياً متكاملاً. فالحركات الفدائية التي تتألف من مجموعة صغيرة من الافراد الانتحاريين، لديها قدرة تخريبية هائلة وأن أفرادها يحملون أرواحهم على الأكف لتنفيذ أقصى الاعمال الانتحارية، فقد تربوا على طريقة في التعبير عن استعدادهم لتلبية النداء وللفداء والتضحية. وقد يصل المراقب لنشاط هذه المجموعات للاعتقاد بأن أعضاء هذه الحركات شديدو الاخلاص لمبدئهم بصرف النظر عن صحته أو سقمه، وإن جاءت النتائج غير متطابقة مع حجم التضحيات، ولكن ليس بالاخلاص والتفاني وحدهما يتم تغيير الواقع.

إن ظاهرة الجماعات (الجهادية) وحتى ظاهرة ابن لادن والى حد ما ظاهرة سعد الفقيه، هي مشاريع انتحارية مؤقته، وأنها تفتقر الى مقوّمات العيش الطويل والاستمرار، لأن مكوّناتها تفتقر الى عنصر الحياة لفترة طويلة.. وهذا التحليل ليس من أجل طمأنة الساسة بقدر ما هو تحذير استباقي لما يمكن ان تتخذه الظواهر الراديكالية من منحى خطير اذا ما وجدت حواضن عديدة لها من داخل المجتمع، سيما في ظل تفاقم السخط.

الصفحة السابقة