الإنتخابات البلدية السعودية:

بداية الإصلاح أم نهايته؟

عدد من الاعلانات التقريرية المدفوعة الثمن صدر في الايام القليلة الماضية في بعض الصحف العالمية لعرض صورة اخرى للمملكة العربية السعودية التي تعرضت لحملات مضادة بعد 11 سبتمبر. من هذه الاعلانات ما نشرته صحيفة التايمز البريطانية يوم امس بعنوان: المملكة العربية السعودية: الطرق للاصلاح. هذه الاعلانات تؤكد تعمق الشعور لدى الساسة السعوديين بضرورة اعادة رسم صورة حكمهم بشكل عصري أقرب الى الذوق الغربي، وذلك باستعمال المصطلحات التي يستسيغها، في مقالات مكتوبة بعناية فائقة وبعناوين مدروسة مثل: ''الانتخابات الاولى تهييء الطريق لممارسة ديمقراطية'' و ''المرأة السعودية تترك انعكاسات على التجارة''. جاءت تلك التقارير بعد انتهاء اول انتخابات بلدية في المملكة، التي دأب زعماؤها على رفض ''الديمقراطية'' باعتبارها منافية للقيم الاسلامية والعادات القبلية. فلماذا وافقت العائلة السعودية على ''شرب كأس السم''؟ أهو تطور طبيعي من مجتمع البداوة والقبلية الى الممارسة السياسية العصرية؟ أم انه استجابة للضغوط الخارجية خصوصا من الولايات المتحدة التي دعمت نظام الحكم السعودي منذ تأسيسه حتى اصبحت ممارساته محرجة لاصدقائه؟ أم ان ذلك محاولة لمنع تفاقم المعارضة الداخلية التي اتهمت النظام بالاستبداد وانتهاك حقوق الانسان، وأصبحت تطالب برأسه؟ أم ان هذه الانتخابات مفصل من مفاصل ''الحرب ضد الارهاب'' الذي يترعرع عادة في ظل الاستبداد والقمع؟ أم انها محاولة لكبج جماح التيارات السلفية التي يعتبرها الغرب مصدر تفريخ للتطرف والعنف في السنوات الاخيرة؟ وثمة تساؤلات اخرى ترتبط بالانتخابات نفسها: فهل هي عنوان لتحول نحو ممارسة دستورية متواصلة؟ ام انها خطوة تهدف لاسكات المعارضين واضعاف حججهم امام الرأي المحلي والخارجي، كما فعلت البحرين  مثلا؟ وهل هذه الانتخابات اعتراف حقيقي من قبل النظام السعودي بضرورة احترام الارادة الشعبية والتخلي عن عقلية الماضي؟ ام انها هدية للادارة الامريكية التي تبحث عن مصاديق لادعاءاتها بنشر الحرية والديمقراطية في العالم؟

انتخابات بلدية: متى البرلمانية؟

مهما كانت الاجابات، فثمة أمور مؤكدة لا بد من تثبيتها. اولها ان الحكم السعودي وافق على القبول بمبدأ الانتخابات مضطرا وليس عن رضى وقناعة. ولكن ما المشكلة في ذلك؟ وهل هناك حاكم يقبل طواعية بمشاركة الآخرين له في الحكم او رفع اصواتهم ضده؟ وثانيها: ان الانتخابات البلدية لا تؤكد وجود قرار سياسي بالتحول من نظام شمولي الى نظام ديمقراطي يمارس وفق دستور تعاقدي مع الشعب. واية ممارسة لا تستند الى دستور فانها محكومة بارادة الحاكم القادر على منعها متى أراد. فالانتخابات لم تجر تنفيذا لاتفاق بين طرفين: الحكم والشعب، يجبر كليهما على احترام مواده، ويعتبر مقصرا اذا لم يفعل ذلك. وكان الأولى ان لا تتم الانتخابات البلدية حتى يتم وضع دستور دائم بمشاركة المواطنين بطريق انتخابي سليم، كما حدث في الكويت قبل اكثر من اربعين عاما وفي البحرين قبل اكثر من ثلاثين عاما، وكما حدث في العراق مؤخرا. وتجدر الاشارة الى ان الامريكيين كانوا يسعون لفرض دستور للعراق يكتب باشرافهم، ولكن اعتراض المرجعية الدينية على الدستور المفروض اضطر الامريكيين للموافقة على دستور يكتبه ابناء العراق بانتخاب حر. وقد دأبت الحكومة السعودية  على القول بعدم ضرورة كتابة دستور، وان المملكة محكومة بالقرآن الذي يغني عن الدستور، كما تشبتث بمقولة ان الديمقراطية تنافي الاسلام وأعراف البلاد وتقاليدها. وتحت ضغط المعارضات المتكررة في العقود الاخيرة، اضطرت العائلة السعودية في 1992 لطرح ''انظمة الحكم'' بمثابة دستور مختصر، وتم على ضوئه تشكيل مجلس الشورى الذي تواصل عمله حتى الآن.

 ويمكن ملاحظة تأثير الازمات المحلية والاقليمية على طريقة تفكير الحكم في المملكة العربية السعودية، من خلال عدد من الحوادث: فبعد حادثة الحرم التي قام بها جهيمان العتيبي في 1979، كثر الحديث عن اصلاحات سياسية وشيكة لم تصل مرحلة التنفيذ. وبعد الاجتياح العراقي للكويت في 1990 والحرب التي اعقبتها، طرح الملك فهد ''نظام الحكم'' وتم تأسيس مجلس الشورى. وبعد حوادث 11 سبتمبر وتداعياتها والتغيير في العراق، طرحت الرياض العام الماضي  مشروع الانتخابات البلدية. وكان طرحها في البداية بشكل خجول جدا، فقد اقترحت الحكومة اجراءها بعد اربع سنوات، لاختيار نصف اعضاء المجالس البلدية بالطريقة الانتخابية وتعيين النصف الآخر. ولكن نظرا لكون مشروع الانتخابات البلدية برمته يعتبر خطوة محدودة جدا لا  ترقى لتطلعات المواطنين، ولا ما يتوقعه العالم، اضطر الحكم السعودي لاجراء الانتخابات في فترة زمنية اقصر لنصف أعضاء المجالس البلدية، وروعي، حسب ما يبدو، اعطاء الاقليات الدينية دورا يناسب حجمها السكاني، وفق قاعدة ''التمثيل النسبي'' وهو امر ايجابي بدون شك. فالاقليات الدينية في السعودية تشكو باستمرار من الاضطهاد الديني والتهميش السياسي وانتهاك الحقوق المدنية. واندفعت تلك الاقليات للعمل السياسي العلني ضد النظام مرارا. فبعد حركة جهيمان، انطلقت المعارضة للحكم من المواطنين الشيعة في المنطقة الشرقية، وكانت معارضة قوية سلطت الاضواء على الاوضاع السياسية في المملكة، ولم تتوقف تلك المعارضة الا بعد ان استدرجها الحكم في 1993 لاتفاق اوقفت بموجبه كافة انشطتها في مقابل وعود باصلاح اوضاع المنطقة الشرقية. ولكن تلك الوعود لم تتحقق، فاضطر بعض افراد تلك المعارضة للعودة للعمل العلني ضد النظام في الخارج، بينما شارك بعض افرادها في الانتخابات البلدية التي اجريت الاسبوع الماضي. وبعد حوادث 11 سبتمبر، تحركت الاوضاع مجددا، بعد ان تم الربط بين تصاعد ظاهرة التطرف وظاهرة الاستبداد السياسي في المملكة، واصبحت لدى الامريكيين الذين كانوا الهدف المباشر لتنظيم ''القاعدة'' الذي يتزعمه أسامة بن لادن، السعودي الاصل والمنشأ والتعليم، قناعة بان القضاء على الارهاب يتطلب، بالاضافة للأساليب العسكرية، اصلاح الاوضاع السياسية في المملكة، وان التطرف انما يترعرع في ظل القمع السياسي والاستبداد. وفي العامين اللاحقين لحوادث 11 سبتمبر، كان الحكم السعودي هدفا للانتقادات الرسمية وغير الرسمية خصوصا في وسائل الاعلام الامريكية، بعناوين شتى: غياب الممارسة الديمقراطية، الفساد المالي والاداري، انتهاك حقوق الانسان، اضطهاد المرأة وحقوقها، اضطهاد الأقليات الدينية، تفريخ التطرف والارهاب في المؤسسة الوهابية، الى غير ذلك من التهم الكبيرة التي زعزعت الوضع السياسي للعائلة المالكة. وبالرغم من تظاهر رموزها بعدم اكتراثهم بتلك الدعاوى والتهديدات، فقد ادركوا، خصوصا بعد سقوط نظام صدام حسين، بان الامريكيين يعتبرون اجراء بعض التعديلات على الحكم ضرورة يقتضيها الامن القومي الامريكي، وان ادارة بوش  جادة في ذلك. وفي الوقت نفسه تصاعدت المعارضة الداخلية للحكم، ووفعت العرائض من قبل تحالفات سياسية جديدة، اعتقل على اثرها العديد من العناصر المطالبة بالاصلاح، وحدثت اضطرابات بمنطق نجران من قبل الطائفة الاسماعيلية التي تشكو من سوء اوضاعها، وتطالب ببعض الاصلاحات.

الانتخابات البلدية السعودية اذن لم تأت من فراغ، ولا تعبر عن ''كرم سياسي'' لدى رموز الحكم، بل كانت استجابة محدودة جدا لضغوط كبيرة صادرة عن المعارضة الداخلية والضغوط الخارجية. وهنا يبدو الوضع اكثر تعقيدا. ففي الوقت الذي يطالب الامريكيون فيه باصلاح نظام الحكم السعودي، فانهم لا يريدون ان تهتز السفينة بشكل يؤدي بها الى الغرق، فتصعد التيارات المعادية للولايات المتحدة الى مواقع صنع القرار. ولديهم تجربة مهمة جدا في العراق. فالانتخابات التي اجريت مؤخرا ادت الى صعود تيارات وعناصر ليست صديقة للولايات المتحدة، وهناك الآن حملة اعلامية واسعة ضد تعيين الدكتور ابراهيم الجعفري رئيسا للوزراء، لانه، في نظرهم، ينطلق من ارضية سياسية معادية للولايات المتحدة.  ولكن في الوقت نفسه لا يستطيع الساسة في البيت الابيض التدخل السافر بوجه خيار الشعب العراقي. هذا السيناريو أدى الى تراجع حماس الامريكيين ازاء المسألة الديمقراطية في الشرق الاوسط، وبالتالي اصبحوا يشيرون على اصدقائهم بالقيام باصلاحات تتظاهر بالديمقراطية، لغة وشكلا، وتستبطن تكريس الحكومات الصديقة للولايات المتحدة. ولذلك أكثر المسؤولون الامريكيون في الشهور الاخيرة من الاشادة بالتجربة الاردنية والبحرينية، وهما تجربتان متواضعتنا جدا، لا تتضمنان تحولا ديمقراطيا حقيقيا خصوصا الثانية منهما التي فتحت زنزاناتها في الفترة الاخيرة لسجناء الرأي الذين ينتقدون العائلة الحاكمة والوضع السياسي عموما. الخطاب الامريكي ما يزال بحاجة لمضمون ذي مصداقية، واهداف أكثر ارتباطا بالمبدئية وأقل اتصالا بالمصالح المحدودة. مطلوب من السياسة الامريكية ان تبدأ بتفكيك خطابها المنطلق على اساس علاقات غير متوازنة مع انظمة استبدادية من جهة وتتشبث بالاحتلال من جهة اخرى. عندما ينطلق ذلك الخطاب منفصلا عن الواقع السياسي المنحرف في الكثير من دول العالم، وعندما تطرح الديمقراطية بعنوانها العريض بدون ان تستثني احدا من الوصول الى الحكم، ولا تميز على اساس الانتماء الايديولوجي ان الديني، عندها يكون للخطاب أثره وصدقيته.

التجربة الانتخابية  السعودية  الاولى منذ اكثر من خمسين عاما تحتاج الى ترسيخ لا يتحقق الا عبر مبادرات اصلاحية حقيقية تتمثل بعدد من الامور منها: اولا الشروع في اعداد دستور دائم للبلاد من خلال عملية انتخابية حرة، والتخلي عن استعمال مقولة ان القرآن هو دستور الدولة لقطع الطريق على من يطالب بدستور عقدي مكتوب، لان القرآن نصوص الهية توجيهية يحتاج تفعيلها الى صياغات قانونية بلغة الممارسة السياسية المعاصرة. ثانيا: التخلي عن عقلية الوصاية السياسية على المواطنين، والسماح بانتخاب جميع اعضاء المجالس البلدية البالغ عددها 179 مجلسا، وليس نصفهم كما هو الحال في الانتخابات الحالية. ثالثا: السماح بمشاركة المرأة ترشيحا وتصويتا، لان استثناءها يتنافى مع التعليمات الاسلامية وروح العصر والممارسة الانسانية عموما. رابعا: توسيع دائرة صلاحيات المجالس البلدية المنتخبة وعدم تحويلها الى مؤسسات شكلية لاهداف دعائية، كما حدث مع المجالس البلدية في البحرين التي لا تتمع باية صلاحيات حقيقية، ولا تستطيع التشريع لادارة المناطق ولا حق لها في مسا ءلة المتنفذين من ابناء العائلة الحاكمة الذين يستولون على الاراضي العامة والممتلكات بدون حق. التجربة السعودية تكتسب اهميتها من انها اول خروج على المنطق الرسمي الذي كان يصر على عدم ملاءمة الممارسة الانتخابية المنطلقة  على اساس ديمقراطي مع الدين والاعراف، وهو منطق ثبت فشله وعدم قدرته على الصمود امام دعوات الاصلاح. كما اثبتت الانتخابات ضرورة التخلي عن مقولة ''المجالس المفتوحة'' بديلا عن التشكيلات المنتخبة التي يشارك فيها المواطنون لادارة شؤونهم. ومن الضروري التأكيد على ان الانتخابات البلدية ستكون بدون معنى اذا لم تصاحبها انتخابات برلمانية حرة تمارس التشريع والرقابة بحرية، وتستمد سلطتها من التفويض الشعبي بعيدا عن الوصاية الحكومية. وهذا يتطلب تغيرا في العقلية الحكومية التي تصر على الامساك بالحكم بكل تلابيبه، وبدون رحمة او شفقة، وبعقلية شمولية لا تتسع للرآي الآخر ولا تعترف بوجود طرف آخر يحق له المشاركة في التشريع والتنفيذ والمحاسبة. وسواء شاءت الحكومة ام أبت، فان المشروع الانتخابي بعد ان بدأ سيتحول الى حركة متواصلة لتوسيع دائرة الحريات والمشاركة السياسية، وسيتواصل في المطالب الاصلاحية ابتداء بكتابة دستور دائم للبلاد، مرورا بانتخابات برلمانية، وصولا الى تحول العائلة الحاكمة الى عائلة مالكة كما هو الحال مع الممالك الدستورية.

ربما كان الاقبال ضعيفا في الانتخابات البلدية السعودية هذه المرة لاسباب من اهمها عدم الثقة بجدواها، وربما كانت دائرة  عمل المجالس المنتخبة محدودة  ومحصورة بالارادة والقوانين الحكومية، وربما انطلق ذلك الشعور من حقيقة ان العائلة الحاكمة سوف تضمن هيمنتها على تلك المجالس من خلال النصف المعين من اعضائها. كل ذلك ممكن، ولكن الحقيقة التي لا يمكن الجدال فيها هي ان نقطة البداية هذه تعتبر كسرا لجمود سياسي  تواصل عقودا، وهزيمة لعقلية استبدادية رفضت الاعتراف بحق المواطنين في المشاركة السياسية وأصرت على اعتبار التدخل في السياسة من المحرمات التي يعاقب عليها القانون. كما يمكن اعتبارها مدخلا لعهد جديد تشعر فيه الاصوات الاصلاحية بالقدرة على طرح المواقف القوية والمطالب المشروعة بدون الخشية من اجهزة الامن القمعية. هذا لا يعني ان الانتخابات قضت على عقلية الحكم الشمولي او حيدت اجهزة الامن والاستخبارات، فتلك مهمات صعبة تحتاج وقتا وجهدا وتصميما من المناضلين العقلاء، الذين يجب ان يشعروا بضرورة مواصلة العمل السلمي بمنطق سليم، واصرار وجدية، وان لا يخدعوا بالوعود الخاوية او الخطوات الجوفاء التي تهدف لاستدراجهم لدعم الاستبداد السلطوي بعيدا عن روح الاصلاح، وا ستخدامهم لدعم مشاريع الحكم وخططه السرية لضرب المعارضة. ولا شك ان مدخولات النفط الهائلة في العامين الماضيين قد وفرت للعائلة الحاكمة وسيلة ضغط كبيرة وعنصر قوة لا يستهان به يوفر لها امكانات التضليل ان شاءت، وشراء الاقلام والمواقف، كما فعلت في السابق.  انها عملية متواصلة تحتاج التحلي بالوعي والصبر والمثابرة، وتستفيد من هذا الانفتاح المحدود لفرض الاصلاحات الاوسع، حتى الوصول الى دستور تعاقدي عصري، ينص على تحول العائلة الحاكمة الى عائلة تملك ولا تحكم، عندها ترسو سفينة الشعب على ساحل مملكة دستورية يعيش فيها المواطنون في مأمن من القمع والاضطهاد والحرمان من الحقوق السياسية والمدنية، ويبدأون مشوارهم للعيش في ظل نظام دستوري عصري يديرون فيه شؤونهم بدون وصاية من احد.

د. سعيد الشهابي

(المصدر: القدس العربي، 8/3/2004)

الصفحة السابقة