الإصلاح السياسي في السعودية

الـنسـاء صـوتـاً!

حتى وقت قريب، كان هناك حديث واسع حول الديمقراطية في العالم العربي، يضطرم على إذكاء التصريحات القادمة من الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش، الذي دعا حكومات الشرق الاوسطية الواحدة تلو الاخرى لاعطاء المزيد من السلطة لشعوبهم، في سياق الحرب على الارهاب وتأسيس أنظمة ديمقراطية قادرة على حفظ المصالح الاستراتيجية للغرب في هذه المنطقة الحيوية.

وقد كانت تلك الدعوة بطبيعة الحال تواجه صعوبة بالغة بالنسبة للحليف المقرّب للولايات المتحدة، أي السعودية، الحصن المدافع عن الاسلام السلفي المحافظ، وموطن واحدة من الملكيات المطلقة الاخيرة في العالم، وفي الوقت نفسه واحدة معروفة بقبضتها الشديدة على السلطة السياسية.

ولذلك بات من المنطقي الاعتقاد بالجزم أن تراخي القبضة على السلطة يعني المزيد من الحرية للنساء في السعودية، اللاتي يعانين من التمييز الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بصورة واسعة. إن حقوق النساء باتت الآن في قلب الدعوات الاصلاحية في السعودية ـ وهي دعوات أصبحت أخيراً تهدد الوضع السياسي القائم في المملكة، والسبب في ذلك واضح فحقوق النساء مثّلت عنوان التحوّل الاجتماعي والثقافي الداخلي وايضاً الانتقال العملي نحو الديمقراطية.

فما جرى في نهاية المطاف السعودي يعكس الدور المعقّد للاسلام في حياة هذه البلاد، وفيما كان الآذان للصلاة يتردد في أرجاء الرياض، كان ثمة شيء جديد في المدينة ليلاً: الاضواء تشير الى موقع الاجتماعات السياسية، لا بمعنى الفصل بين ما هو محافظ وديني وبين ماهو ليبرالي ووطني، وإنما بما هي تيارات اشتقت طريقاً في التعبير عن الوجود الاجتماعي والفكري الذي يتطلع لأن يترجم نفسه سياسياً في مرحلة ما.

ولأول مرة منذ أربعين عاماً، يحضر السعوديون تجمهرات سياسية والاستماع للخطابات، خلال التحضيرات الاولية للمجالس البلدية نصف المنتخبة، ولكنها التعبير الابتدائي عن الارادة الشعبية المتنامية نحو المشاركة في صناعة القرار، إنها جزء من أول انتخابات وطنية في تاريخ البلاد، وتأتي بعد تصاعد الضغط على العائلة المالكة من أجل التغيير.

إن التغيير الأكثر أهمية الذي جرى في هذه البلاد هو السماح بقدر ما لحرية التعبير، وللاختلاف في هذا المجتمع كيما يعبّر عن نفسه بحرية، على حد قول خالد الدخيل، الاستاذ في جامعة الملك سعود، والاصلاحي البارز، والذي كانت الحكومة منعته من الكتابه في الصحافة. فماذا قال الدخيل حتى يتم منعه؟ إنه نوع الكتابات التي ينشرها في الصحافة، على حد قوله. فهناك دعوة مكثفة ومتصلة للاصلاح وهناك أيضاً مساءلة متزايدة لأصحاب المناصب الرسمية. فهذه الحكومة ـ حسب الدخيل ـ لا تحب من يجرؤ على مساءلة السياسة، التي يقررها في الوقت الراهن، زعماً، ولي العهد الأمير عبد الله. فبإمكان السعوديين الاصطفاف مرتين في الاسبوع لابلاغ شكاويهم اليه، وطلب المساعدة، والنصيحة والمباركة، لأن السلطات ومصادر القوة محتكرة ومتركزة في يده وأيدي أخوانه غير الاشقاء.

ليس هناك دستور ولا سطة تشريعية وأن من يجرؤ على التظاهر ضد الحكومة قد يواجه حكم الجلد أمام الملأ.. إنه نظام القبيلة في شكلها المتطور حيث يفرض زعيمها سلطته المطلقة ويكون هو صاحب القرار النهائي الذي يقرر مسار ومصير القبيلة.. لقد كانت حقاً مفاجئة أن تعلن الحكومة انتخابات المجالس البلدية في العام الماضي، وهذا يجري في دولة تمقت فيها الطبقة الحاكمة فكرة المشاركة السياسية، لاعتقادها بأن حكمها قائم على الحق التاريخي.. ولكنه الضغط الاصلاحي الذي ساهم في إجبار الحكومة على الرضوخ لارادة الاغلبية السكانية، وأيضاً الضغوطات الخارجية، من أجل السيطرة على الاوضاع الداخلية التي كانت عرضة للانفلات، بفعل تفجّر ظاهرة العنف وتنامي ظاهرة السخط الشعبي بأشكال غير مسبوقة.

لقد بدأت مراحل التصويت في الرياض والمنطقة الشرقية بانتظار استكمال المرحلة الاخيرة في الحجاز والجنوب، وكان عنصر النساء غائباً. فالرجال وحدهم من يحق لهم التصويت لانتخاب نصف اعضاء المجالس البلدية، وكما يقول الاصلاحيون فإن هناك مشواراً طويلاً للوصول الى ديمقراطية تمثيلية حقيقية.

لقد نادى الاصلاحيون بفصل السلطات، وطالبوا بحقوق المرأة، ومنحها دور حقيقي ومؤثر في الحياة السياسية الداخلية، كما طالبوا بتقييد سلطات العائلة المالكة التي باتت تهيمن على مجمل عملية القرار السياسي والاقتصادي، وطالبوا بالتعددية الفكرية واحترام حقوق الانسان. وهناك أشياء عديدة بحاجة الى تغيير في هذا الوقت، ولكن وتيرة التغيير بالطريقة الرسمية تسير ببطء شديد للغاية ولا تلبي أدنى المطالب الاصلاحية.

سيأتي دور السعوديات رغماً عن السلطة!

وبعد فترة من المناظرة الفكرية الراقية وقائمة المطالب الاصلاحية الناضجة حول حق المرأة في الشأن العام، أصدرت الحكومة وعلى لسان وزير الداخلية نايف بأنه لن يحق للمرأة المشاركة في عملية التصويت، فيما كان وزير الخارجية الامير سعود الفيصل وأخوه الامير تركي الفيصل وابن عمه الامير بندر بن سلطان يغرقون الصحافة الغربية بتصريحات حول احترام حقوق المرأة ودورها في العملية السياسية. إنها فجوة الاجيال التي تعلن عن نفسها في قضايا خلافية كهذه. لقد اضطر الذرائعيون في الطبقة الحاكمة لفلسفة تأخير حق المرأة في المشاركة في العملية التصويتية، في مجالس بلدية نصف منتخبة وتافهة (على حد الامير نايف)، فقال بأن المرأة السعودية ستشارك في الدورة القادمة في الانتخابات بناء على فرضية أن البلاد ستكون جاهزة لهذا النوع من التطوّر!! وبالتالي فإن هذا القول يرد القصور الى البلاد وليس الى المرأة، وكلا المبررين ينطويان على إدانة للدولة وللجهاز الحاكم الذي أخفق في تأهيل النظام بدرجة تجعله قادراً على استيعاب المرأة ضمن الجهاز البيروقراطي، وهذا المبرر لا يقل سوءا عن مبرر الاعراف الاجتماعية التي تحول دون السماح للمرأة الآن بالمشاركة في التصويت.

إن المواطنة التي هي في الاصل غائبة في التفكير السياسي الرسمي، بما هي أساس للمساواة والعدل وحق المشاركة، تجعل من النساء خارج مجال النقاش في مفهوم المواطنة، فمواطنة المرأة غير واردة حتى على المستوى النظري. وقد تظافرت القيود السياسية والاخرى الاجتماعية والثقافية لتجعل من المرأة عنصراً مهملاً في العملية السياسية. فكما أن مباريات كرة القدم مقتصرة على الرجال، فإن المرأة لا يتخيل أن تدخل حلبة السياسية التي هي في التفكير الرسمي حكراً على الرجل. إنها تعيش في بلد حيث تجعلها الثقافة والدين تعيش في الغالب في حياة مقيّدة ومنفصلة.

يكفي للتدليل على التخفيض الرسمي لمقام المرأة وجود قوانين تلزمها بالحصول على إذن من زوجها للحصول على أي شيء أو عمل أي شيء: للحصول على التعليم، والحصول على وظيفة، أو حتى شراء تذكرة طائرة.

ومن المثير للسخرية أن نصف خريجي الجامعات في البلاد هم من النساء، ولكنهن يشكّلن ما نسبته 5 بالمئة فقط من قوة العمل. وبالرغم من أنه ليس هناك استطلاعات للرأي التي يمكن الكشف من خلالها عن مشاعرهم إزاء وضعهم، فإن المقابلات التي تجريها وسائل الاعلام الاجنبية مع عينات عشوائية من النساء السعوديات يكشفن عن درجة كبير من السخط والانتقاد ضد سياسات الدولة والمؤسسة الدينية تجاه المرأة. فعلماء الدين السلفيون يرددون بأن (حقوق المرأة) هي فكرة غربية تحاول الولايات المتحدة فرضها. وإنهم يرسّخون نظاماً اجتماعياً صارماً يقرر كل شيء بدءا من نوع اللباس الذي يجب على المرأة ارتداؤه وانتهاءً بما إذا كان بإمكان المرأة ان تقود سيارة.

وكما يقول الدخيل (يجب منح المرأة حق سياقة السيارة، فليس هناك في الاسلام وليس هناك أي شي ضد سياقة المرأة). ولكن السؤال هو ماذا سيكون رد فعل المحافظين إذا ما سمح للمرأة بسياقة السيارة؟ يجيب الدخيل: إنهم يمقتون ذلك. ولكن هناك كثير من الاصلاحيين، ومن بينهم الدخيل، من ينادون بإعطاء حقوق مساوية للمرأة، إيماناً منهم بأن ليس هناك في الاسلام ضد أن يكون الرجل والمرأة متساويين في الحقوق والواجبات.

يقول الدكتور صالح آل الشيخ، وزير الشؤون الاسلامية، بأن هناك مجموعة عوامل تحدد واجبات المرأة السعودية، ومن أكثرها أهمية هي تربية العائلة. ويقول (إن ظروف المرأة هنا في السعودية هي خليط من ظروف قبلية واجتماعية وتاريخية، وهناك الدين أيضاً). ولكنه هل يؤمن بحقوق متساوية بالنسبة للمرأة؟ يقول آل الشيخ (إنني أؤمن بحق متساوٍ لكل الناس بموجب ظروفهم، وأن للنساء حقوقاً، ولكنها قائمة على نظرتنا إزاء واجباتهن في الحياة). إنه تصريح يندرج في قائمة الجمل المواربة التي لا تترك مستمسكاً عليه، ولذلك اختار آل الشيخ مدخل الواجبات وليس الحقوق للحيلولة دون الوقوع في شراك الاشكالية العويصة: الموقف من حقوق المرأة السياسية.

إن واجبات المرأة كانت واحدة من الموضوعات التي تعتبر حادثة غير مسبوقة في السعودية، فهناك سلسلة من النقاشات حول مستقبل البلاد جرت من خلال (الحوار الوطني) الذي نظّمته الحكومة، وقد شاركت فيه النساء بعد جدالات حامية وواجهت المرأة في أول لقاء صعوبة بالغة في المشاركة والتعبير عن رأيها، وقد أثارت دعوة بعض المشاركين لاحترام حقوق المرأة وضرورة مشاركتها في فعاليات الحوار الوطني حفيظة بعض المتشددين الذين اعتبروا ذلك خروجاً على الاعراف الاجتماعية والاملاءات الدينية بحسب الفهم السلفي الضيق.

فقد بقيت النساء خلال جلسات الحوار!! الوطني في عزلة تامة، حيث وضعن في غرف منفصلة، لا تربطهم بقاعة اللقاء الفكري سوى شاشة تلفزيون وضعت في هذه الغرف لمتابعة وقائع اللقاء والاستماع لأوراق الرجال، حيث يتحدث بعضهم عن حقوق وواجبات المرأة التي بقيت مجرد مستمعة لما يصمم لها الرجال من أدوار ومهام، ومن الغريب أن هؤلاء الرجال ليس بمقدروهم حتى التعرف على هوية من أوكلوا أنفسهم بالحديث عنهن، ما عدا ما يصلهم من أصواتهن عبر ميكرفونات معدّة لايصال الاسئلة والتماس الاجابات من الرجال. فلم يكن هناك تواصل فكري وذهني بين النساء والرجال، الذين باتوا أشبه بخصوم في محكمة بانتظار حكم القاضي، أو أعداء قد تم التفريق بينهم خشية الاشتباك بالأيدي والألسن. لاشك إنه منظر لم يعد مقبولاً في مجتمع يفترض أنه بلغ مرحلة نضج تؤهله للخروج من عقدة الجسد وبلوغ رتبة متقدمة في التعاطي والمفاكرة مع الآخر.

يجب الالتفات هنا الى التمايز داخل مجتمع النساء أيضاً، حيث تصرّ بعضهن الى ابقاء الاوضاع على ما هي عليه، حيث تكون المرأة تابعة بصورة تامة ونهائية للرجل، فيما يطالب بعضهن بدرجة من الاستقلال النسبي في القرار الخاص بالمرأة، أما البعض الثالث فيطالب بحقوق متساوية بين المرأة والرجل، على أساس التساوي الخلقي والقانوني. وعليه فإن هناك من بين النساء من يطالب مثلاً بالفصل بين النساء والرجال، وهناك من يطالب بالاختلاط غير المحرّم المتماثل مع قيود الشريعة، وهناك فئة قليلة جداً ممن ينادي باختلاط مفتوح على الطريقة الغربية.

وعلى أية حال، فإن السعودية بلد في حالة تحوّل، وهي بحاجة لتلمس مواضع أقدامها في مسيرة المستقبل. إن الخوف التقليدي الذي ينتاب العائلة المالكة يكمن في سرعة وتيرة التغيير في البلاد والذي تخشى أن تفضي الى انفلات زمام سيطرتها عليه او قد يكون محرّضاَ على الثورة الاجتماعية. يردّ الأمراء على سؤال حول مخاوف العائلة المالكة من سرعة ايقاع التغيير، بأن ثمة اجماعاً داخلياً على إبقاء عملية التغيير تحت السيطرة، من أجل الحفاظ على الاستقرار السياسي، فحسب قولهم بأنه ليس مهماً أن تشهد البلاد انتخابات ولكن من المهم جداً أن يكون هناك استقرار داخلي، والمقصود به استقرار السلطة بطبيعة الحال. ولكن يبقى السؤال قائماً حتى في ظل الاستقرار كهدف استراتيجي ومصيري بالنسبة للعائلة المالكة، فالى متى ستكون العائلة المالكة قادرة على التمسك بالاستقرار بدون مشاركة في المناظرة حول التغيير، وهل أن الحكومة تستمع لنداء التغيير في الاصل؟

إن السؤال رغم أهميته القصوى الا أن الجواب عليه مخيب للآمال، فالحكومة ليست على استعداد للنقاش في الحوار الذي يستهدف الاصلاح السياسي، فما بالك بحقوق المرأة التي باتت موضوعاً محورياً في الاجندة الاصلاحية الوطنية كما يعبّر عنه الطيف السياسي والاجتماعي في المملكة.

ومن المفارقات المثيرة للسخرية، أن ما قيل عن توسعة قاعدة إعضاء مجلس الشورى المعينيين من قبل الملك بحيث تمثل ألوان الطيف الاجتماعي، اي تضمين المجلس ممثلين من القبائل والجماعات والمناطق، وبذل ازداد عدد الاعضاء من 120 الى 150 عضواً الا أن ما غفلت عنه العائلة المالكة أن هذه الزيادة الشكلية واجهت اخفاقاً ذريعاً، فبدل أن تبدأ الحكومة برفع الحظر عن المرأة ومشاركتها في الحياة الإجتماعية والسياسية، واذا بأحد الاعضاء في مجلس الشورى يخرج علينا بتصريح مثير للسخرية والشفقة ليقول بأن بإمكان المرأة السعودية المساهمة في مجلس الشورى ولكن (كمستمعة) فقط!.. ولكن نقول سيبقى للمرأة صوت!

الصفحة السابقة