الانتخابات البلدية في الحجاز

ظاهرة القوائم الماسية تطيح بنزاهة الترشيح

شهدت الحملات الانتخابية المحمومة لترشيح نصف أعضاء المجالس البلدية في محافظات الحجاز منعرجاً حاداً عقب ظهور ما يسمى بالقوائم الماسية أو الذهبية أو المزكاة والمشفوعة بتأييد العلماء. فقبل أيام من بدء الانتخابات البلدية في مدينة جدة تقدّم 21 مرشحاً بشكوى الى السلطات الرسمية ضد قائمة تضم سبعة من المرشحين قيل بأنها حظيت بدعم وتوصيات العلماء لصالح القائمة تلك بما يعتبر مخالفة للوائح الانتخابات. وقال مساعد الخميس وهو أحد المرشحّين الذين قدّموا الشكوى أن هناك 540 مرشحاً، وأوصى العلماء على سبعة فقط منهم.. قائلين: أنهم الأفضل، وبذلك فإن العلماء يدمّرون سمعة المرشحين الآخرين بصورة غير مباشرة.

لا شك أن توظيف علماء الدين بالحظوة الاجتماعية التي لديهم والمكانة الروحية التي يتمتعون بها وسط الجمهور يجعل من العملية الانتخابية مسلوبة الارادة الحرة، حيث يقتفي الناخبون ما تمليه عليهم التوجيهات الصادرة عن العلماء أو من يمثّلهم.

لقد كشفت الحملات الانتخابية في منطقة الحجاز عن إستعدادات كثيفة ومنظمة لدى التيار الديني السلفي بأكثر مما كان عليه الحال في المرحلتين الاولى والثانية في منطقة الرياض والمنطقة الشرقية، بما يوحي وكأن استدراكاً متاخراً لأهمية مثل تلك الانتخابات وتعويضاً لما خسره التيار الديني السلفي في المناطق الاخرى. تشير بعض المصادر الى ان الدافع وراء تنظيم المشايخ لجلسات التنسيق للاتفاق على خطة عمل وقوائم موحدة في الانتخابات البلدية في الحجاز هو لتفادي ما حصل في المنطقة الشرقية وبخاصة في محافظة الاحساء حيث نجح مرشحو الشيعة في الوصول بأغلبية ساحقة الى المجلس البلدي، وحسب قول أحدهم بأن الهدف من الاستعدادات المبكرة في الحجاز (هو تفويت الفرصة على الرافضة الذين أبدواء إستعدادهم من قبل الإنتخابات بشهر ونصف حتى لا يتكرر ما حصل في الأحساء..).

ولا شك أن منطقة الحجاز تشجّع مثل تلك التجاذبات الايديولوجية والاجتماعية والسياسية بفعل الاستقطابات الحادة في المجتمع. فهناك نزوعات شديدة لدعم إتجاهات ايديولوجية واجتماعية معينة كيما تكسب الجولة الانتخابية وتفرض سماتها وأسمائها وتوجهاتها. إن الصبغة الايديولوجية للعملية الانتخابية وتالياً المجالس البلدية ستمثل ـ فيما لو تطوّرت وأخذت أشكالاً جديدة ـ إجهاضاً مبكراً لعملية التحول الديمقراطي.

انبرى عدد من أفراد التيار الديني السلفي الى الترويج لقوائم محددة مدعومة من العلماء، عبر شبكة الانترنت والمنشورات الشعبية وفي المساجد والمراكز الدينية، وعبر الرسائل القصيرة في الهاتف الجوال وكان تلك إجراءات مستهجنة أثارت حفيظة الاهالي وعدد كبير من المرشحين، كونها تفضي الى تمزيق المجتمع وتكريس الخلافات عوضاً عن تحويل الانتخابات الى فرصة للمنافسة الحرة والنزيهة وعملية فرز موضوعي للأصلح والأكثر تأهيلاً للاضطلاع بالمسؤوليات العامة.

لم يكن المناصرون للمرشحين من التيار السلفي بحاجة الى جهد كبير من أجل إحداث شرخ في صفوف المرشحين، فقائمة الاحكام ـ التصنيفات معدّة سلفاً، إذ يكفي وصف شخص بأنه علماني أو ليبرالي أو حتى صوفي ليجد نفسه محاصراً بل ومنبوذاً لدى قطاع من الناخبين، بل قد يخسر مكانته وسط جمهوره ومحيطه الطبيعي.

القائمة الماسية.. القائمة الذهبية .. القائمة المزكاة.. كلها مسميات لقوائم مدعومة من العلماء، حيث يتم توزيع أسماء القائمة بالبريد الالكتروني وعبر مواقع الحوار المملوكة لجماعات سلفية أو رسائل قصيرة عبر الهاتف الجوال، مشفوعة بسيرة ذاتية لكل مرشح ومدموغة بعبارات ذات دلالة ايديولوجية خاصة مثل (من ذوي الالتزام والأمانة والاستقامة) أو من (شهد له بالصلاح والتقوى).

لقد مارس التيار الديني السلفي عملاً حزبياً محضاً في العملية الانتخابية، وفوق ذلك فكونه دينياً فإن ذلك أدى الى فرز المرشحين بين من هو ديني ولاديني بناء على شهادات التزكية الصادرة من العلماء، وهو فرز لا يصلح اعتماده مطلقاً في تحديد من هو الديني وغير الديني، ولكن البصمة الايديولوجية تفعل فعلها في المنافسة الانتخابية ذات الطابع المدني المتصل أولاً وتالياً بخصائص أخرى مهنية خالصة، ولا علاقة له ابتداءً بالجوانب الدينية رغم ضرورتها الثانوية.

لقد باتت العملية الانتخابية ممارسة دينية بفعل انغماس العلماء فيها، وهذا ما يجعل الكفاءة المهنية غير مطلوبة لذاتها بالقياس الى الانتماء الايديولوجي للمرشح، وبالتالي فإن غرض العملية الانتخابية كممارسة لاصطفاء الأكفاء وذوي الخبرة. أضف الى ذلك، إن اعتماد المعيارية الدينية في العملية الانتخابية سيؤسس لمنهجية خاطئة في المستقبل، حيث يكون الأقوى استعداداً والأقدر على حشد الشارع وتعبئته هو الأكثر ترشيحاً للفوز بالقسم الأكبر من الاصوات، فيما لا مجال فيه لذوي الكفاءة للحصول على فرص نجاح كافية. من جهة ثالثة، إن هذه الطريقة من التنافس الانتخابي قد تتجاوز حد استعلان التباينات الاجتماعية والايديولوجية والسياسية الى حد إحداث القطيعة التامة بين الفئات الاجتماعية وتعميم الانقسامات الداخلية، في وقت أشد ما تكون الحاجة فيه الى بناء أواصر ذات طابع وطني، ونشر ثقافة الوحدة الوطنية الحقيقية المؤسسة على التسامح والاقرار بحق الآخر في التعبير عن آرائه والتعايش السلمي بين الجماعات المختلفة.

إن مثل تلك القوائم بما تنطوي عليه من تعبيرات اقصائية تمثل التأسيس الفكري لظاهرة العنف في شكلها الراديكالي التفجيري، فظاهرة العنف التي تفجّرت بطريقة غير مسبوقة تستقي أفكارها التحريضية من هذا النزوع الاقصائي الذي ينبذ الآخر وينزّه الذات.

ان الاستعدادات التي سبقت الانتخابات البلدية في مدن الحجاز تكشف عن أن هناك إتجاهاً دينياً يحاول الدخول الى حلبة السياسة من بوابة الدين متوسلاً بذات المعتقدات الاقصائية التي إذا ما جرى توظيفها في العمل السياسي تمارس دوراً تخريبياً للعملية الديمقراطية برمتها.

ظاهرة القوائم الانتخابية المدعومة من العلماء أخذت بعداً خطيراً، حيث بات العلماء يقررون من له حق الوصول الى المجلس. في بعض القوائم يتم تحديد مؤهلات المرشح غير المهنية مثل كونه خطيباً وإماماً أو متخرجاً من جامعة اسلامية، فيما تحمل دعوات الترشيح رسالة ضمنية ذات طابع اقصائي، حيث يتم توجيه الناخبين بطريقة غير مباشرة من أجل الامتثال لمرئيات (أهل العلم والبصيرة). بل تحمل بعض الدعوات إيحاءات شديدة التطرف ذات طابع تكفيري كما جاء في دعوة أحدهم بتركيز الجهود من أجل إخراج قائمة نهائية (يزكيها المشايخ حتى لا تضيع أسماء أهل السنة والجماعة) بل كشفت إحدى الدعوات عن أن ثمة عملاً منظماً ومدروساً يقوم به المشايخ وطلب العلم منذ فترة بعيدة من أجل دعم قائمة من المرشحين.

لقد أثار تدخّل المشايخ في الانتخابات البلدية طيفاً من التساؤلات. وفي مداخلة على موقع حواري استطرد أحدهم متساءلاً: هل هذه الانتخابات تسجيل في كلية شرعية، أم أنها ترشيحات مجالس بلدية، حتى نطلب من مشائخنا الفضلاء التفكير والبحث بدلاً عنا؟.. وهل النظر إلى المرشحين يتم من خلال الشيوخ الأفاضل، أم عن طريق عقل يدرك نوعية البرنامج الانتخابي لدى المرشح وأهليته لتحقيق هذا البرنامج؟.. وهل هؤلاء المشايخ الفضلاء المزكون هم من أبناء (تلك المدينة) الذين ولدوا تحت سمائها، وعاشوا فوق أرضها، وتطبّعوا بعاداتها، واندمجوا مع أهلها وعايشوهم، أم هم ممن جاؤوا إلى المدينة بعد عمر قضوه خارجها؟

من المفارقات البارزة في الانتخابات البلدية في الحجاز أن خطاب التيار السلفي في العملية الانتخابية يتعارض مع أهم الشروط اللازم توافرها في المرشح وهي المحافظة على الوحدة الوطنية، فالخطاب الديني المشاع في الحملات الانتخابية يتعارض جوهرياً مع مبدأ الوحدة الوطنية بل يقف على النقيض معها، فضلاً عن كونه يتعارض مع فكرة تطوير الخدمات المدنية. وفوق هذا وذاك، فإن تحويل الانتخابات الى مناسبة لتصفية الحسابات والتنافس الفئوي لا يفضي الى تطوير العمل المؤسسي فضلاً عن أنها قد لا تؤدي الى تجديد الدماء في الجهاز البيروقراطي، لأن المحرّك ليس محايداً وعلمياً.

لقد شكّل اتفاق المشايخ على قائمة موحدة مزكاة تحريضاً غير مباشر على المرشحين الاخرين، وفي الوقت نفسه افتئاتاً عليهم، حيث جرى تغييب العمل الاهلي المحلي الذي كان يقوم به عدد من الشخصيات الحجازية من أجل تشجيع المشاركة في الانتخابات بعد أن لحظوا فتوراً عاماً وسط أهالي الحجاز، بيد أن إنثيال المشايخ وتدخلاتهم في العمليات الانتخابية قد أحدثت ردود فعل عكسية. يضاف الى ذلك ما تسرّب من معلومات حول استدعاء الامراء الكبار وبخاصة الامير نايف لعدد من الشخصيات الحجازية، حيث عبّر لهم عن استيائه حول تشكيل لجنة لتشجيع المشاركة في الانتخابات. وبحسب ما نقلته الزميلة (شؤون سعودية) في عددها الاخير فإن الامير نايف استدعى د. محمد عبده يماني، وأخذ يسخر قائلاً: ما شاء الله! عاملين حزب وهيئة! وأشار الى تجمع الحجازيين من مختلف الإتجاهات وبينهم محمد سعيد طيب، وهو شخص غير مرضي عنه من نايف وأجهزته.

هنا اقترح يماني على الأمير بأنه إذا كانت المشكلة هي في شخص محمد سعيد طيب، فإن حذف إسمه أمرٌ ممكن، وأن الهيئة ما هي إلا محاولة لتشجيع المواطنين على القيام بدورهم في الإنتخاب استجابة لدعوة ولاة الأمر!

قال الأمير نايف بأنه ضدّ إنشاء الهيئة من أساسها! لأن في ذلك دعماً لـ (آل منصور) الذين نفخوا في الإنتخابات البلدية التافهة، والتي أخذها البعض بجدية أكثر مما ينبغي؛ وقال إن هذه الطريقة من التفاعل مع الإنتخابات التافهة من قبل الهيئة إنما تأتي دعماً لآل منصور ـ أعداء نايف وإخوته السديريين! والمقصود بآل منصور، هم أبناء الأمير منصور بن عبد العزيز أول وزير دفاع للمملكة والمرشح لخلافة أبيه عبد العزيز، إضافة الى إخوة منصور الأشقاء كمتعب وزير البلديات وأبناء متعب الذين يتولون اليوم أمر الإنتخابات البلدية!

إننا هنا أمام حالة مربكة في الظاهر، فبينما تشجّع جهات تابعة لوزارة الداخلية بعض المشايخ لدعم قوائم محددة من المرشحين، فإنها في الوقت ذاته تحرم أهالي الحجاز من فعل ما يرونه مناسباً للمشاركة في الانتخابات بل وتقلل من شأنها كي لا تأتي النتائج على غير ما تريده العائلة المالكة، خصوصاً وأن وصول مرشحين حجازيين الى المجالس البلدية يبعث المخاوف التاريخية لدى العائلة المالكة من بزوغ الهوية الحجازية بما تنطوي عليه من إيحاءات ثقافية وسياسية واجتماعية.

لاشك أن تفويض تزكية المرشحين الى العلماء يعتبر طعناً في كفاءة الناخبين وازدراءً برشدهم الذهني، وأخيراً تقليلاً من شأنهم في انتقاء المرشحين واختيارهم عن طريق الاقتراع الحر والمباشر.. إن تدخّل العلماء يطيح في واقع الأمر بأي عملية اقتراعية حرة، حيث يأتي الناخبون الى صناديق الاقتراع ممثلين عن العلماء والمشايخ وليس عن أنفسهم، وبالتالي فإن صنادق الاقتراع لن تكون محكاً وإنما حاصدة لأصوات قد جمعت من قبل.

الصفحة السابقة