الحياة.. قيمة معدومة في التعليم الديني السعودي

أيـديـولـوجـيـة إفـنـاء الـذات

إن المنهج التربوي الديني مسؤول بصورة مباشرة عن التفريط حد العبثية بقيمة الحياة، والذي يصل أحياناً الى ابتذال الروح والجسد في الخلاء الحالم. يتعلم الابناء على أن الانسان خلق ليواجه رعب الموت المتربِّص به في كل زاوية ولحظة، ولابد من الاقتحام عليه والعبور فيه من خلال تشظي الجسد الى قطع متناثرة تعبيراً عن التحرر الوهمي من أغلال الدنيا والانتقال الدموي الى الآخر.

إن انعدام قيمة الحياة هو وراء انجراف عدد كبير من الشباب الذين شاهدوا أهوال القبر وتغسيل الموتى في البرامج التربوية المدرسية فأرادوا عبر جرعة إيمانية مباغته إختزال المراحل عبر الاصطباغ بالدم، لأن الشهيد إنما يسقط في حضن الحور العين.. إنها الشهادة التي أُنتزع منها، شأن قيم دينية سامية أخرى، مضمونها الديني والاخلاقي والحضاري. فقد تحوّلت الشهادة الى صفقة فردية وخياراً هروبياً لكل الذين أرادوا القيام بعملية تصفية حساب فوري لكل جرائمهم بضربة اللوتو ـ الشهادة. ولذلك، يكثر الحديث عن اولئك الذين ترد أسماؤهم في قوائم الشهداء وقد تلطّخت سيرهم بجرائم أخلاقية أو بشهادات سيئة الصيت حول أوضاعهم الاجتماعية والنفسية وحتى مستوياتهم التعليمية.

لقد أغرى الاختلال العميق والفجوة الواسعة في العلاقة بين إعمار الدنيا والخلود في الآخرة كل أولئك الذين قرروا التموقع نهائياً خارج العالم الذي يجب ان يجعلوه جسراً للآخرة، والعبور منه اليها.

إنعدام قيمة (ولا تنسَ نصيبك من الدنيا) في مقابل قيمة (ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها) تجعل التفكير في بناء الطاقات والكفاءات والتسلّح بالعلم وصناعة الاجيال وتربية الابناء وتعميم المعرفة كلها أشياء منزوعة من سياقها الكوني الأخروي، لتتموضع دنيوياً وخارج الأفق الديني، ولذلك لا ينشغل هؤلاء المنغمسون في آخرتهم المتخيّلة، وليس الآخرة الحقيقية، بالبعد الاعماري للدنيا، فالاخيرة بحسب سيرة الراحلين عنها ببلاهة، تصبح مجرد مصدر شقاء لهم وجهازاً نفث سمومه في أجسادهم ولم يبق عليهم سوى مهمة الخلاص من السموم عبر تمزيق الجسد في عملية تبديدية تنهي العلاقة بصورة قطعية وتامة مع الدنيا، أملاً في الانتقال الاثيري الى عالم الآخرة بكل ممكنات الاستعادة الجسدية والسيرية أيضاً.

كتيبات ذات عناوين مثير للهلع أخذت في الانتشار الواسع منذ مطلع الثمانينات، إيذاناً مخادعاً ببدء حركة الاحياء الديني بطابعها الشعبي والشبابي، من بينها (مشاهد من يوم القيامة) و(أحوال القبر) و(عذاب القبر) وغيرها من التي جرى استعمالها كأدوات جذب للشباب للانضواء داخل التيار الاسلامي الحركي، أو الاقلاع عن عادات وجرائم اخلاقية رائجة مثل المخدرات والسطو المسلح والسرقة بأشكالها المختلفة.. فصارت تلك الكتيبات اشبه ما تكون بمكوّنات رئيسية للخطاب الديني التربوي الذي يدخل منه هؤلاء الى الدين، فيتعرضون الى صدمات روحية قوية، تشعل نزعة الانتقام من الذات ومن الآخر الذي يتم تحميله مسؤولية الغواية غير المباشرة لهؤلاء، وقد يكون الانتقام بطريقة الخروج العنفي على المجتمع، يبدأ اول مرة باعتزاله ثم الانقضاض عليه من خارجه.

تلك الكتيبات لا تكتفي بمجرد تقديم وصفة روحية خاصة لأولئك الذين حظوا بصدفة مظّفرة غيّرت مسار حياتهم نحو عالم متخيّل، يحاول مصنّفو تلك الكتيبات تركيب عناصره بإتقان تصويري فريد، مع نوبات هلع تضفي على تلك العملية التصويرية شيئاً من التأثير الروحي الخفي، الذي يتولى مهمة إعادة صياغة مشاعر وأفكار الواقعين تحت نفوذ تلك الكتيبات.

أعراس القتل: تفجيرات انتحارية في الرياض

هذه العادة التي أتقنت بعض الجماعات الدينية المتشددة في مصر والمنشقة من جماعة الاخوان المسلمين، وهي بالمناسبة جماعات تبنّت الخيار الجهادي وسيلة في التغيير، تسرّبت الى دول الجوار، وقد أخذت شكلاً متطوّراً من الناحية التقنية وأشد تطرفاً من حيث المضمون الثقافي وحجم الجرعة الروحية المضافة اليه. بل إن ما جعل تلك العادة تكتسب زخماً شعبياً في السعودية على سبيل المثال، أن التيار الديني الشعبي والمؤسسة الدينية ومن ورائهما جهاز التعليم الديني الرسمي قد ساهم بصورة مباشرة في ترسيخ نوع من الثقافة الدينية المتصلة بجانب الموت والحياة، والدنيا والاخرة، وكلها مرتبطة بظواهر اجتماعية واخلاقية كان يراد معالجتها وقد بلغت حداً خطيراً على المجتمع والدولة، أو مرتبطة بظواهر سياسية وأمنية هدّدت كيان الدولة، وكان يراد معالجتها عن طريق إشاعة ثقافة أخروية تستهدف تدجين العاطفة الدينية، وتحقيق قدر من الضبط للنظام العام، والاستقرار السياسي.

في البعد الاجتماعي، قد تكون الثقافة الدينية ذات الطابع الافنائي الانتقالي قد حقّقت درجة من الضبط العام، بحيث تم استيعاب جزء من المجتمع، كان في وقت ما متورطاً في أعمال منافية للقانون والنظام العام، وقد تم ترويض تلك النزعات الشريرة وسط هؤلاء. في المقابل، وفي البعد السياسي تحديداً، فإن هذا النوع من الثقافة الدينية كان له آثار تدميرية، فقد تم إستثمار هذه الثقافة في تجنيد الشباب المتدين في مشاريع سياسية مقطوعة الأجل، وفي الغالب في مشاريع انتحارية.. لقد منحت الثقافة الدينية رخصة إفناء الجسد بطريقة مشروعة زعماً، وهي الشهادة في سبيل الله التي باتت عملاً مطلوباً لذاته من أجل الخلاص المطلق، والبلوغ النهائي للأهداف الكبرى التي لم يكن بالامكان تحقيقها الا بالشهادة.

تجدر الاشارة هنا الى أن (أيديولوجية إفناء الذات) ليست منتجاً حديثاً ولا ابتكاراً متأخراً، فكثير من الديانات السماوية والمعتقدات البشرية تنطوي على جوانب تضحوية وفدائية من هذا القبيل وتمثل جزءاً من الامتثال الجسدي للمعتنقين، الذين يقدّمون بالدّم شهادات إخلاص ووفاء لمعتقداتهم، ولاشك أن الذين أفنوا أعمارهم وأرواحهم في خدمة معتقداتهم هم أوفياء، بصرف النظر عن صحة أو فساد تلك المعتقدات، ولسنا من يقرر ذلك بطبيعة الحال.

في الاسلام أيضاً، ظهرت حركات فدائية جعلت من الموت وسيلة تغيير جذرية في أوضاع لم يعد بالامكان تغييرها باللجوء الى خيارات التغيير السلمي، ولعل تلك الجماعات الفدائية صغيرة الحجم التي قادت ثورات دموية في زمان الخلافتين الأموية والعباسية تعبّر عن إمكانية استعمال الموت بطريقة إفتجاعية سلاحاً من أجل تغيير الاوضاع القائمة.

لقد كرّرت الجماعات الجهادية في مصر تجربة المقاومة الفدائية عن طريق استراتيجية العزلة والخروج/الجهاد وكان مقدّراً لتلك الجماعات الصغيرة أن تفني وجودها الكلي مع إفناء أعضائها في عملية فدائية واحدة، ولاشك أن نوع الثقافة التي تلقاها أفراد الجماعات كانت ذات طابع توجيهي توسّمي، تقوم على فصل الفرد عن المحيط الاجتماعي وعزله بصورة تامة ونهائية عن عالمي الدنيا والآخرة. ولكن هذه الثقافة كانت تلقّن لهؤلاء الافراد الذين قرروا بمحض إرادتهم الانضواء في حركات جهادية ذات صلاحية لمرة واحدة، أي أنها تقوم على خوض تجربة التغيير لمرة واحدة ثم الفناء او الافناء.

في السعودية، يتم تعميم تلك الثقافة الدينية الاخروية في المدارس الرسمية بنيناً وبناتاً دون ضوابط، وقد أسبغ عليها طاقم التدريس الديني معانٍ أخرى ذات طابع ترويعي، بما فيه من انعكاسات نفسية خطيرة. إنها كما وصفها الدكتور حمزة المزيني في عدة مقالات بـ (ثقافة الموت) المبثوثة في مدارس تعليم البنين عبر الانشطة الخاصة، غير المتوافقة مع خطط إدارات التربية والتعليم في كل منطقة فضلاً عن كونها متناقضة مع الغاية الاصيلة من التعليم الذي يهدف الى إحداث نقلة وعي معرفي في أذهان الطلاب لرؤية الكون والعالم بعين مختلفة وبروح مفعمة بإرادة التغيير والتقدم، ولكن تلك البرامج الاهلية التي يصيغها المؤدلجون في المدارس الرسمية تستهدف في نهاية المطاف تضييق أفق الرؤية الكونية لدى الطلاب وحبسهم في إطار التفكير الديني المدرسي المتزمت.

وفيما غفل بعض المختصين في وزارة التعليم عن إجراء تحقيق في طبيعة البرامج التربوية المروّج لها في المدارس الحكومية، فإن ثقافة الموت كانت تضخ بكثافة عالية وسط الطلاب من كلا الجنسين الذكور والاناث، فقد نشرت صحيفة الحياة بطبعتها السعودية خبراً في الثامن عشر من مايو الماضي عن قيام مدرسة في مدينة الخُبر شرق السعودية بعرض فيلم عن غسيل الأموات على طالبات إحدى المدارس الثانويّة. وقد أبدت بعض طالبات المدرسة الثانوية استغرابهن وخوفهن ممّا عُرض في الفيلم من مناظر مرعبة، إذ عُرضت عملية غسيل الميت وتكفينه بشكل يكشف جسد الميّت أمامهنّ. والاغرب من ذلك، وحسب ما جاء في الخبر، أن أقامتْ إدارة المدرسة مُجسّماً مُصغّراً لمقبرة داخل أسوار المدرسة وهي عبارة عن غرفة مُظلمة ـ كانت فيما مضي مستودعاً للكتب ـ ففُرشت أرضها برمل ووُضع فيها هيكل عظمي بلاستيكي ووضع في الغرفة صندوق يُمثل قبراً ووُضع داخله مجسّم لجثة وقد عُلّقت لافتات إرشادية ودعائية للمقبرة كُتب على إحداها (البداية) وعلى أخرى (النهاية) وكذلك (دعوة إلى أمل الأمة) وكُتب على لافتة أخرى (إذا كنتِ تخافين من المستقبل فتعالي لنرسم معك خطة الوصول). وليس ثمة حاجة لبذل جهد كبير في قراءة التعليمات المنصوبة على الجادة والتي توصل صاحبها الى حيث يريد واضعها، فهناك ثمة مؤثرات نفسية كثيفة يخلقها مناخ الموت والمرتقب من ألوان العذاب في القبر بهدف إشاعة رعب في قلوب الطلبة والطالبات.

حادثة مماثلة جرت في مدرسة في خميس مشيط لموت فتاة كانت تشاهد القنوات الفضائية وتقرأة المطبوعات الاعلامية وكان جزاؤها الموت من دون توبه. الحادثة التي نشرتها صحيفة الحياة بطبعتها السعودية أيضاً في الثالث والعشرين من مايو الماضي، لم تكن سوى جزءاً من مشهد في مسرحية أقامتها إحدى المدارس الابتدائية في خميس مشيط، لبيان كيف أن الموت الفجائي قد يضع حداً لامكانية حدوث التوبة في الدنيا. هذه المشاهد التي تم أداؤها بطريقة غير علمية وتستهدف بدرجة أساسية إحداث صدمات روحية عنيفة وسط الطلاب الحاضرين، أثارت الرعب وسط عدد من الطالبات في المرحلة الابتدائية اللاتي كنا في حالة خوف وهلع. ومن شأن مشاهد كهذه أن تصيب الطالبات بفوبيا حادة، فقد أغرق معد البرنامج في البعد التربوي والروحي ونسي عن جهل او عمد لا فرق البعد النفسي. إن الذين يشيعون وعياً دينياً بتأسيسه على تمثّلات صور الآخرة إنما يسلبون حراكية الدين في الدنيا ويهبونه صفة الاسطورة واليوتيبا المتجاوزة للواقع الدنيوي.

إن ثقافة الموت التي يراد منها أن تبدّل معتقدات الافراد، فتعيد الخارج عن الجادة، وتجعل المؤمن أشد ايماناً، أي إقامة صرح جديد للدين يتجلى فيه الموت بأبشع صوره، والآخره في أسوأ مشاهدها، إنما تحيل الدين الى مجرد آلة رجعية تجعل من غير الممكن الافلات منه لأنه يتسلح بوسائل مفزعة ومهلعة، كالموت وعذاب القبر، والنار المسجّرة لمن أخفق في الجواز على الصراط المستقيم.

في الواقع، تنجم عن تلك الثقافة ـ ثقافة الموت، نتيجة أخرى قد تبدو أسوأ من الانحراف بالمعنى الاخلاقي والديني، وهي خلق جماعات شاذة عقلياً ونفسياً، تجعل من الدين ذريعة لاقتراف أبشع الجرائم، وارتكاب أبشع الانحرافات، مع الاستتار خلف الدين، أو حتى الالتزام الديني القشري.

ومن المؤسف أن تشيع المدارس الحكومية نمطاً من الثقافة الدينية التي تستهدف، من جهة أولى، تكبيل المتلقي وليس تحريره، إنها ثقافة تتواطىء فيها الاغراض السياسية بالاغراض الاجتماعية ـ الدينية لدى طبقة العلماء، فهذه الثقافة القدرية كانت المسؤولة عن الخنوع والانصياع للحاكم وعالم الدين من قبل قطاع واسع من الخاضعين تحت مس التدين القشري. ومن جهة ثانية، فإن هذه الثقافة تفجّر ميول التمرد لأفراد خضعوا تحت تأثيرات موجات روحية متواصلة فأرادوا في لحظة ما الخلاص من إسار تلك الموجات وتسنم مواقع متقدّمة في المجال الصحوي الديني، ليقتفوا سيرة من كان قبلهم، والمسؤولين عن تجنيدهم وإستعبادهم برهة من الزمن.

الصفحة السابقة