النيران الطائفية تقترب من الخباء السعودي

فقه الفتنة: العلماء والموقف من الطائفية

لماذا لا تستثير الفتنة الطائفية فزعاً ولا تدق ناقوساً ولا تحدث رنيناً في أسماع علماء المؤسسة الدينية الرسمية في بلادنا، لماذا يغدو سفك الدماء أمراً عابراً، ولماذا لم نسمع أو نقرأ فتوى صادر عن هيئة كبار العلماء تحرِّم دم المسلم، أو تستنكر المساس بكرامة المسلم وغير المسلم، أو التحريض عليه بقول او فعل.

لماذا الطائفية وحدها التي تتغذى على مصادر دعم من ديارنا، وتكتسب مشروعية من علمائنا تحت مسميات مختلفة، كمناصرة الحق وكشف زيف أهل الباطل، ومقاومة العدوان وعبارات أخرى مماثلة تهدف شرعنة الفتنة الطائفية. إن أولئك الذين أركسوا بهذه الامة، لا يعنيهم كثيراً لجم صوت الفتنة التي تتفجر بؤرها في أماكن مختلفة حتى باتت على مقربة من ثيابنا، وبيوتنا.

في الثقافة الدينية الرائجة ما يصلح للتثمير المباشر في مشروع الفتنة الطائفية، وهناك من يتقن وببراعة فائقة كيفية استعمال تلك الثقافة في تأجيج المعارك الطائفية وبطريقة إستفزازية. فجمار الموقد الطائفي التي أخمدت يعاد تجفيفها واشعالها مرة تلو الأخرى، وهناك من يحتطب بكل ما أوتي من قوة كي يبقي الطائفية مؤججاً أوارها، ممتدة ذيولها، متشعبة أخطارها.

لا تتوقف أقلام الغيورين من أبناء هذا البلد ومن غيره للتحذير من الفتنة الطائفية في الداخل والخارج، والتي يتكفل المعتوهون مهمة تفجيرها بأي ثمن. فقد أصبح الخطاب الديني والاسلام مصادراً من قبل أناس فقدوا حتى مجرد القيم الانسانية فضلاً عن الاخلاق الاسلامية النبيلة والسامية من أجل الورع عما حرم الله وانكرته الفطرة الانسانية السليمة، حتى بات القتل، وإيغار الصدور بين أبناء القرية الواحدة، والقبيلة الواحدة، والبلد الواحد لغرض إقحامهم في فتنة دامية من مهمات أولئك المتطيفين.

من المؤسف حقاً أن يعاد تديين الفتن السياسية كلما خسر المتصارعون على شؤون الدنيا مبرر المواجهة والصراع، وها هو الدين الذي جاء ليعلو فوق العصبيات الفرعية بما فيها تلك المشتقة من داخله وبإسمه، يجري استعماله في محرقة الطائفية. إن الطاقة التفسيرية والتأويلية التي تميزت بها المدارس الفكرية على طول التاريخ الاسلامي، من أجل إنتاج رؤية شرعية متعددة فقدت وظيفتها الاصلية وصار الاستعمال الوحيد لها منصباً على توليد مشرعنات للعنف الطائفي، وحتى الجهاد نفسه أصبح مقتصراً على تصفية الحسابات السياسية والمذهبية، فقتل المبتدعين والمرتدين بات السمة الغالبة للجهاد بالمعنى الشائع وسط الجماعات الدينية المسلّحة.

يثير الانتباه انصراف العلماء وبإهمال ملحوظ عن إبداء موقف حاسم من قضية الفتنة سيما وأن من تورّط فيه يتحدث بإسم الله وإسم الدين، وكان أولى بالعلماء إستعادة سلطتهم الدينية المنهوبة من المتدينين الجدد الذين سرقوا ليس الضوء الاعلامي وقاعدتها الشعبية بل وأيضاً مصدر قوتهم، أي العلم الشرعي، فصار بن لادن شيخاً، والزرقاوي شيخاً، والعوفي شيخاً.. فكل المنخرطين في العمل الجهادي يكتسبون بصورة تلقائية إمتيازاً دينياً فريداً يتجاوز في تأثيره المعنوي والشعبي إمتياز أي عضو في هيئة كبار العلماء، بل وقد يكسر في أحيان عديدة سلطة المفتي العام.

بصراحة شديدة، صمت علمائنا عن المجازر التي تقع في العراق بمحركات طائفية غير مبرر بل ومشين، وكان يفترض أن تلقى دعوة الاستاذ جمال الخاشقجي للعلماء بإتخاذ موقف حاسم مما يجري، وعدم السماح لشرذمة الطائفيين إستدراج الامة الى مستنقع الطائفية، دون أن يحرّك العلماء ساكناً. وللأسف أن تمر دعوة الخاشقجي مروراً عاجلاً كما مرّ كثير من الدعوات الخيّرة التي تناشد العلماء تحمّل مسؤوليتهم الشرعية ولعب دور مركزي في القضايا المتعلقة بمصالح الأمة والمفاسد المترتبة على إنعدام ذلك الدور وضعفه.

كان علماؤنا أولى بلجم الاصوات النكرة التي تصدر من هنا وهناك، وتحرّك دون وازع من دين ولا رادع من ضمير ما أخمدته الايام، وأوصدت أمامه العقول الراشدة الباب.. كانوا أولى بشق قناة للتسامح الديني، وإرساء قاعدة يلتقي عليه المختلفون، والتفتيش عن كل ما من شأنه تقريب البعيد وتهذيب القريب، وإشاعة أجواء الود والمحبة والاخاء بين أبناء الوطن الواحد، والدين الواحد، بدلاً من توفير العلماء أنفسهم مواد خصامية يتلقَّفها كل جاهل فيضعها في غير موضعها الذي أراده العالم، أو أن يسمح لفتاوى التكفير والتبديع بالانتشار الواسع في كل موقع تواجد فيه من يعيشون على خلخلة الاوضاع المستقرة، وزعزعة النفوس المطمئنة، وبلبلة الاجواء الودية.

لماذا يكون علماؤنا الذين بهم تنعقد رابطة الوحدة المجتمعية، أدوات تقسيم فاعلة، حتى صار الناس تخشى فتنة العالِم أكثر مما تخشى من تكالب العالَم. هل صارت مهمة العلماء مقتصرة على إضفاء البركة على سياسات الحكام وقراراتهم، بما يرضي أو يسخط ـ لا فرق ـ الخالق عزّ وجل.

كان العلماء السابقون وعلى رأسهم أئمة المذاهب يشرعنون الاختلاف، ويعدّون ما هم عليه مجرد إجتهادات قابلة للخطأ والصواب، وإنهم على أتمّ الاستعداد للإقلاع عما هم عليه إذا تبين لهم صحة خلافه، فأسسوا بذلك قاعدة في التسامح الديني، وفي التعددية الفكرية والمذهبية، وفي القبول المتبادل بالآخر، وبالتالي فإن هذه المواقف الحضارية لدى أئمة المذاهب كانت سبباً جوهرياً في منع أتباعهم من الغلو في معتقداتهم، أو المبالغة في الاختلاف مع غيرهم، أو تحويل الاختلاف الى قطيعة وخلاف ومصادمة..

الحرب الطائفية ستحرق مضرميها

كانوا يفتشون حد الافتعال عن كل ما يحول بينهم وبين الفرقة والشقاق والنزاع، حتى بالغ بعضهم في نفي الاختلافات الاجتهادية حتى لا يأتي من يستعمل تلك الاختلافات فيما بعد بطريقة سلبية ومن أجل شق الصف. كانوا يؤكدون على حق الاختلاف ويتشددون حد التزمت في النيل من الآخر المختلف.

وكما في كل مجتمع بشري، فإن تلك التوصيات، بكل التدابير الاحتياطية التي وضعت من أجل الامتثال الحرفي بمضمونها، فقد وقعت في تاريخ المسلمين فتن كبرى وذهب ضحيتها في بعض الحوادث علماء كبار، وصارت السيوف تلتقي على مصالح الدنيا، وصار المسلم يطعن المسلم طلباً لأغراض السياسة وحدها، وغابت عن تلك الفتن قيم الدين وأخلاقياته، بل وفقد المتورطون في تلك الفتن الحدود الدنيا من مستلزمات الأدب والالتزام الاخلاقي.

لاشك أن التاريخ الذي نقرأه دائماً يزوّدنا بقصص الفتن الطائفية والتي قد يتم اقتفاء بعض تفاصيلها في فتن راهنة او مبيّته، فهذا التاريخ ومما يؤسف له حقاً، لم يكن ناصعاً تماماً، ففيه جوانب مخزية لم يكن بالامكان التخلص منها ما لم يتخلص ورثة المشروع الطائفي من تلك الجوانب.. وفي واقع الأمر، إن هؤلاء يرسمون لنا نحن النابذون للطائفية طريقاً صارماً ومحدداً في قراءة التاريخ ووعيه بل واستخدامه أيضاً.

يتعلم الطائفيون من التاريخ، وليس من الدين، صوراً شتى في إظهار العداوة، وفي التعبير عنها، وأخيراً في الامتثال لمملياتها. فلا الضمير الانساني الحر ولا قيم الدين في العدل والانصاف والتسامح واشاعة الرحمة تدخل ضمن مكوّنات الوعي الطائفي لدى أولئك الذين يدركون خط سير وسيرة واحدة وهي كيفية الخلاص من عدوّك بطريقة فورية وانتقامية، تروي غليلاً قديماً، وتشبع نزعة قارّة منذ أمد طويل.

علماؤنا، في المقابل، يقعون تحت تأثير الاجواء التي تخلقها شرذمة الطائفيين فيشاركون بوعي أو بإنفعال عاطفي غير رشيد في ترسيخ تلك الاجواء وتأجيج المزيد من النار الطائفية. فهم لا يكتفون بمجرد عزل أنفسهم وأتباعهم عن الظاهرة الطائفية بل إن المحيط العام الذي ينتمون اليه يمارس ضغطاً متعدد الابعاد والاتجاهات ليسوقهم نحو مصادر التحريض على الطائفية، فإن إنتبهوا نجوا، وإلا أصبحوا جزءاً من معركة الغير، ولكن هذه المرة يكونوا فيها من التابعين وليس المتبوعين.

من الضروري في الحديث عن الطائفية أن نحصر حدود المسؤولية، فهناك كما يبدو عادة باتت رائجة في الاوساط الدينية والرسمية على السواء في بلادنا، حيث يميل الجميع الى البحث عن ضحية في الخارج تتحمل نيابة عنهم مسؤولية ما حلّ من كوارث هي من صنع أيدينا. فقد حمّلت وزارة الداخلية ومن لحق بها من علماء الدين جماعة الاخوان المسلمين في مصر مسؤولية انتشار الافكار المتشددة المرتبطة بالعنف والارهاب، في محاولة لصرف الانظار عن تراث ضخم للسلفية تراكم على مدار أكثر من قرنين وقد حمل من الافكار الراديكالية ما يفوق في ضخامة التوجيه الايديولوجي المتطرف بأضعاف عدة عما كتبه الاخوان المسلمين. فليس تحميل أدبيات الاخوان المسلمين في تنشئة ثقافة التطرف والعنف الا محاولة هروبية بالجميع في الداخل والخارج للابتعاد عن مصادر التوجيه الديني المحلي، وحتى لا يصار الى تفتيش تلك المصادر وإخضاعها للفحص النقدي كما خضعت الايديولوجيات الثورية في العالم بما فيها الماركسية التي خضعت لتصحيح نقدي واسع وعميق على يد آخر رئيس للاتحاد السوفييتي ميخائيل جورباتشوف.

هناك اليوم من يحاول أن يقرأ الطائفية في العراق من خلال دراسة تاريخ وأحوال المجتمع العراقي، في مسعى آخر لاخلاء مسؤولية القادمين من الخارج اليه والذين نفثوا في الجسد العراقي كل قباحات الطائفية المصاحبة لجماعات تبنّت الجهاد خياراً نضالياً.. دعونا نقترب من مشاكلنا، وأزماتنا، وأيضاً مسؤولياتنا، من أجل وضع الاصبع على مكان الجرح، وحتى لا تضللنا البوصلة الى وجهة غير صحيحة.

فالعراقيون يدركون قبل غيرهم، وربما سبقونا في ذلك بأن الطائفية منتج سلفي وخارجي بإمتياز، وأن من يقود تلك الفتنة هم ليسوا من أبناء العراق ولا يدركون منه وعنه سوى تلك القشرة الخارجية التي لا تكشف عن حقيقة التعايش الداخلي بين فئات المجتمع العراقي والتداخل الشديد بين طوائفه.

شيء من الاحساس بالمسؤولية ضروري الآن لاعادة الاعتبار لما فرّط فيه علماؤنا فضلاً عن المتنافسين معهم من الطبقة الثانية والتي تجشم أفرادها عناء إصدار البيانات والفتاوى المحرّضة على القتال والجهاد ولم تفرِّق بين المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الاجنبي وبين الالتزام بوحدة المجتمع العراقي والتعايش السلمي بين طوائفه والامتثال لقيم الدين وأخلاقياته بين أبناء العراق. لم يعد هناك ما يمنع علماؤنا من إصدار فتوى صريحة وواضحة تعيد الاعتبار لمكانتهم الدينية والاجتماعية.. تلك المكانة التي إفتأت عليها وصادرها من أبرزوا أنفسهم متحدثين بإسم الله والدين. إن ظواهر الطائفية الدموية في العراق تدعو علماءنا وبإلحاح شديد الى التدخل الفوري قبل أن تصل الامور، لا قدر الله، الى مستويات غير قابلة للسيطرة، وحينئذ يكون العلماء أول الملعونين على لسان الضحايا المباشرين.

في الباكستان، كما في العراق، حوادث عنف طائفي إمتدّت الى دور العبادة والى المراكز الدينية والثقافية فضلاً عن المصالح العامة المرتبطة بحياة الناس اليومية.. سنوات طويلة مرَّت ودورة العنف الطائفي في الباكستان تأخذ أشكالاً خطيرة ومخيفة، فيما كان العلماء سادرين في صمتهم، ثم انتقلت دورة العنف الى العراق وبوتيرة متسارعة وبأشكال أشدّ شراسة، ومع ذلك بقي صمت العلماء سيد الموقف.. فإذا لم يكن علماؤنا قادرين على تحكيم الشرع في الفتن الكبرى، فإن الحاجة لبقائهم تنتفي مطلقاً وتماماً، فهل ننتظر من علماء المؤسسة الدينية الرسمية انتاج فقه الفتنة بدلاً من الانشغال الدائم والعميق في اعداد أنواع من الفقه ذات صلاحية منتهية منذ قرون. فهناك الآن فقه خاص بالجماعات الطائفية التي تقود المقاومة في العراق، وقد أعدّت تشريعاتها الخاصة بالقتل والقتال، والتي لا تفرّق بين المقاتل والمسالم، والمذنب والبريء، فهناك إنجراف خطير نحو إعادة سياسة الأرض المحروقة الخالية من كل قيمة دينية وإنسانية واخلاقية.

الصفحة السابقة