الشيخ سفر الحوالي منظّراً للمقاومة العراقية

الـعـدوان.. أيـديـولـوجـيـة

ثمة ما يغري في مقارنة الاستاذ جمال خاشقجي الكاتب الصحافي والمستشار الاعلامي للسفير السعودي في لندن الامير تركي الفيصل بين بول وولفوفيتز، مهندس الحرب الاميركية على العراق، والشيخ سفر الحوالي مهندس الجهاد المسلح في العراق. في هذه المقارنة، يقدّم خاشقجي نقاط اشتراك بين الشخصيتين المذكورتين من موقعين متقابلين، فالأول حشد ما يكفي من الذرائع الصحيحة والملفّقة من أجل إقناع لوردات الحرب في الادارة الاميركية بمشروعية الحرب على النظام العراقي السابق، فيما سعي الثاني، أي الشيخ الحوالي في بناء جدلية مؤصلة شرعياً تهدف الى شرعنة الجهاد في العراق، وصناعة مناخ ديني ترغيبي يحثّ مئات من الشباب على الانخراط في مشروع الهجرة والجهاد في العراق. وبالرغم من أن الشيخ الحوالي يحاول كعادته، وعادة المحشورين في زوايا ضيقة، التوسل بتأويلات ثانية وثالثة للنص الاولي الجلي، فإنه حافظ على تماسك الموقف الايديولوجي من قضية الجهاد في العراق، مع إبطاء لمفاعيل التوثيب. فهو وإن إمتثل للضرورة الاحترازية في التعبير عن موقف صريح من هجرة السعوديين الى العراق، الا أنه يمرر عكس الموقف الاحتياطي في فذلكة لغوية تؤدي الغرض الاصلي. إذ يضع الشيخ الحوالي على عاتق كل عضو ينتمي الى الحملة العالمية لمقاومة العدوان مهمة شحذ همة الشباب (لمقاومة أوجه العدوان المختلفة من غزو فكري وسلوكي ومن تبعية سياسية واقتصادية، ومن عوامل إفساد تحيط بالشباب المسلم من كل مكان، فالعدوان شامل، ومقاومته على كل الجبهات واجبة كلاً بحسب طاقته بحكمة وعقل تقطع مطامع العدو في جرّ شباب الأمة الى ممارسات غير محسوبة العواقب، وهذا مع التزامنا جميعاً بما يفرضه علينا ديننا من العدل، وحب الخير لكل الناس وترك العدوان).

منظّر الحروب الطائفية ومسعّر أتونها

هذا النص الوارد في مقالة الشيخ سفر الحوالي، الامين العام للحملة العالمية لمقاومة العدوان، المنشور في موقع (الساحة العربية) على شبكة الانترنت في 22 ربيع الآخر 1426، ونقلته مواقع أخرى، يكاد يعلّب منهجاً متبعاً لدى الشيخ الحوالي في صياغة موقف شديد الارتباك والتركيب، حيث يبدأ صارماً حاسماً واحدياً اقتلاعياً، ثم مايلبث ان يدس كلاماً تكسوه مسحة عقلانية مرتابة، ليصل في نهاية المطاف الى أنسنة الموقف وطلب النصفة والعدل وحب الخير. إن هذا الترفع والتخفّض في بنية الموقف قد يحلو لبعض المتحذلقين إرجاعها الى التربية الدينية التقليدية القائمة على أساس وجود مواصفات متقابلة في شخصية المؤمن: شدة في لين، أو بحسب التفسير الكلاسيكي الظاهري للآية المباركة (أشداء على الكفار رحماء بينهم). بيد أن هذه المواصفات لا تصمد طويلاً امام الفحص العملي، حيث لا تبدو أن تلك الشدّة تحمل معها مقاصد دينية بصورة دقيقة، بقدر ما هي تعبير عن ميول نفسية ومعرفية تعبّر فحسب عن شخصية صاحبها.

والحال، أن هذا الموقف يكاد يصبغ كثيراً من مقالات الشيخ الحوالي الذي يحاول إظهار تسامحاً ولكن بطبيعة متجهمة وفرضية، فهو في الوقت الذي يصيغ رؤية كونية ذات مضامين مطلقة وإجمالية عن كل ما يدخل ضمن دائرة إهتماماته وأولوياته في الخصومة والمواجهة، فإنه يحاول أن يُبقي على قدر ولو ضئيل من الصورة الملطّفة لعالم الدين أو الممثل عن عقيدة سماوية تتسم بالعدل والخير. فهذا البعد الدعائي للدين كما يحاول أن يقدّمه الشيخ الحوالي يتناقض بصورة مبدئية مع المقدمات المفزعة التي لا ترسم خط قطيعة مع الآخر فحسب، بل وترسم طريقة لاستئصاله أيضاً. فهو من جهة يؤسس، ابتداءً، موقفه الايديولوجي على توفير كل ذريعة ممكنة تستوجب مقارعة الآخر، ولكن ومن أجل إحتواء الانطباعات المحتملة يلجأ الى صبِّ الموقف المتصلب في لغة دينية ملطّفة تنسي أو تخفف حدة الطرح الصارم والمتعجرف.

وبالمناسبة، فإنها ذات اللغة المستعملة من قبل الادارة الاميركية التي تسبغ على حربها في العراق وحربها على الارهاب نعوتاً في غاية الجاذبية، إذ لم تُغتَصب الديمقراطية بطريقة بشعة الا من لدن رعاتها الكبار. فقد تم استغلال الديمقراطية سلاحاً تخوّف به الولايات المتحدة الدول الديكتاتورية من أجل التعاون معها والقبول بقوانين اللعبة الاميركية.

وقد نجحت الادارة الاميركية كما نجح الشيخ الحوالي في إستعمال الشعارات الكبرى بهدف تمرير القضايا الصغرى، فأميركا استعملت الديمقراطية شعاراً طموحاً يراد تعميمه في الشرق الاوسط، فتحوّل الشعار الى مجرد ورقة تلعب بها الادارة الاميركية للضغط على دول المنطقة وللحصول على مكاسب سياسية واقتصادية محددة، ونجح الشيخ الحوالي في إستعمال اللغة الدينية المتخمة بتعبيرات متصالحة ومتسامحة، فأصبحت تلك اللغة ذاتها حاضنة لكتلة رمزية قابلة للتفجّر في فتن طائفية متوالية.

كنا نأمل أن يعبّر العدل الذي نادى به الشيخ الحوالي عن نفسه في موقف تاريخي يحبط مفعول خطابه التحريضي والتقسيمي، بالرغم من أن دماء غزيرة سالت في شوارع العراق ومدنه بتحريض من فتاوى وكتيبات كان الشيخ الحوالي والمتماثلون معه ذهنياً ومدرسياً قد صنّفوها على فترات طويلة ومازالت قابلة للاستعمال العنفي في العراق وفي كل مكان يكون فيه للطائفية ناعق.

الخير الذي بشّر به الشيخ الحوالي لم تؤتَ ثماره حتى الآن، ولم يأتنا من يبلغنا بنضوج ثمرة واحدة منه، فقد عوّدنا على خير يقدم محفوفاً بنذير خطر، وبآيات في الوعد والوعيد.. إنه الخير الذي لا خير فيه. ولا خير الا بإشاعة السلام والاطمئنان في قلوب من جبل على خصومتهم، وشهر حراب العداوة في وجوههم، ولم يرع فيهم حق العبودية لله وحده، فوصمهم بالكفار، وأذاقهم وبال فكر لم ينشأ الا على إعلان القطيعة مع القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو.

الخاشقجي: مقارنة الحوالي مع وولفوفيتز

إن خطاب وولفوفيتز كخطاب الشيخ الحوالي بسيط جداً، لكنه يمثل أشد نماذج الواحدية والاقصائية ضراوة، فهو خطاب يدّعي تفرّده بالحقيقة الكاملة، ويراهن على تسفيه وسفاهة المخالفين والاتباع. هو خطاب أيضاً يتسم بالتنصل من كل دور ويصادر الحقيقة عبر تحميل الآخر كامل المسؤولية، فحتى الاقترافات العينية والمقرونة بشواهد دامغة تصبح منكرة من فاعلها، بل يتم قذفها في وجه الضحايا، خصوصاً حين تأتي الاقترافات غير متطابقة مع نوايا الذين صنعوها، أو جاءت محمّلة بإلتباسات خاصة لم تكتمل، أي لم تحصل بعد على معناها الكامل ولم تحقق منجزها النهائي بطريقة مبهرة وحاسمة.

لابد من مدّ أفق الفكرة الناقدة لدى الخاشقجي حول صمت الشيخ الحوالي حول الفتنة في العراق، تلك الفتنة التي يتورط فيها الآن شباب تشرّبوا طائفة من التعليمات والتوجيهات الدينية من محاضرات الحوالي وكتبه ونشرياته. فقد كان العدل والخير يقتضي أن يعلن الشيخ الحوالي موقفاً صريحاً وشجاعاً من فتنة طائفية وشيكة توقد من بعض أفكاره، وتتوسل بطائفة من توجيهاته المستورة تحت شعار مقاومة العدوان والاحتلال. فهذا العدوان والاحتلال لم يكن ظاهرة مستحدثة نجمت فحسب عن غزو أميركي للعراق، بل إن عدوان طائفة من المسلمين على أخرى كان أفدح وأشد، ومع ذلك لم نسمع عن حملة لمقاومة عدوان من هذا النوع، ما لم يكن العدوان المقصود به ما يقع على خاصة من الناس دون غيرهم.

في الواقع، إن العدوان الأكبر أن يصمت الشيخ الحوالي على عدوان تنتجه الفتنة فيقابل بالصمت المخزي، وأن يكون هذا العدوان مبرراً لاستمرار أشكال اخرى من العدوان، وفي مقدمتها العدوان الاميركي.. إن مقاومة وإزالة العدوان لا تتم بتقسيم الشعب العراقي بل بتوحيده، ولا بإثارة النعرات الطائفية وسط فئاته بل ببعث روح الوحدة والتسامح والمصالحة الوطنية بين أبنائه.. فإذا ما تم ذلك، يصبح عمر العدوان الاجنبي قصيراً، وصولاً الى انحسار ظله بصورة كاملة.

من غريب أحوال الشيخ الحوالي تحذيره ممن أسماهم من (مجموعات طائفية وشعوبية)، ومن البلاهة أن يضمر الحوالي إسم هذه المجموعات وهويتها، فقد عبر بقدر فاضح من الافصاح عن سمات تلك المجموعات بما لا يجعل غبياً او بليد الذهن جاهلاً بمن يعنيهم الشيخ الحوالي. تلك المجموعات هم الشيعة العراقييين الذين، حسب الحوالي، استدعتهم أميركا.. ولكن من أين استدعتهم، وهل يقصد بهم جماعة محددة وهي جيش بدر الذي تشكّل في ايران خلال الحرب العراقية الايرانية على غرار حركة مجاهدي خلق التي كان أفرادها ـ ومازالوا ـ يقيمون في العراق وقد حظوا برعاية نظام صدام حسين. ولاشك أن حديث الشيخ الحوالي عن جيش بدر مرتبط بسلسلة حوادث طائفية انتصر فيها الحوالي لطرف على آخر، وكان من الانصاف والعدل الذي صمّ به آذان البريّة أن يقدّم موقفاً متوازناً، فتلك القنابل والآحزمة الناسفة التي وزّعت أجساد بعض العراقيين أشلاء كانوا من الشيعة، وإن الاختلاف العقدي معهم هل يمنع من الخير والحب للانسان بصرف النظر عن صفته وانتمائه.

ومن الغريب أيضاً أن يلوم الحوالي بعض الشيعة على ما فعلوا من تحريض الاميركيين

ومن الغريب أيضاً أن يلوم الحوالي بعض الشيعة على ما فعلوا من تحريض الاميركيين على المدرسة السلفية ورموزها من أجل الضغط على الحكومة لتغيير المناهج وتضييق الخناق عليهم، وقد فعل الحوالي ذات الجريرة حين ذكّر الاميركيين بأن تلك الجماعات الطائفية الشعبية كما يسمّيها تأتي من دولة مصنّفة في محور الشر وأنها من الدولة الساعية الى حيازة القوة النووية.. أليس في ذلك تحريضاً مبطّناً؟!

ثم أليس من المذهل الانزلاق نحو مستوى المناكفة الرخيصة، حين يعدّ الشيخ الحوالي إدماج الشيعة وهم يمثلون النسبة السكانية الاكبر في الجيش العراقي إشعالاً لحرب طائفية وقومية، وإن إخماد تلك الحرب يتم بإبعاد الشيعة عن تلك المؤسسة.. فهناك إذن بعد غير محكي عنه في رؤية الشيخ الحوالي، فهو لا يعالج مشكلة مجتمعية بقدر ما يحاول ترسيخ معادلة التفوق السابقة التي أنتجت أزمات يعتبر الحوالي اليوم هو ذاته جزءا من تداعياتها، ولو فكَر مليّاً في أزمة الدولة العراقية منذ نشأتها وحتى اليوم لوجد أن إنعدام برامج فاعلة في الادماج الوطني لكافة الطيف القومي والمذهبي في العراق يمثل السبب الجوهري والحقيقي وراء هذه الازمة التي تتطلب عملية جراحية تفكيكية لبنية الدولة القديمة، وإرساء أسس دولة جديدة تقوم على مبدأ الادماج لكافة مكوّنات المجتمع العراقي.

إننا لا يمكن أن نتعامل مع أفكار الشيخ الحوالي بحيادية تامة، فهي تصدر عن رؤية شديدة الخصوصية تسلب المتلقي حق التأمل والمراجعة والنقد لكل محتوياتها. فهو يطالب بإعادة انتاج البنى القديمة في الدولة العراقية، رغم كونها مسؤولة بصورة مباشرة عن كل إخفاق في مسيرة المجتمع والدولة. ومن الخطأ الفادح إعتبار تجربة التأسيس لدولة عراقية حديثة فاشلة كونها أعادت ترتيب التوازنات الداخلية، وتوزيع القوة بين مكونات الشعب العراقي. إن إضمار العداوة لا يخفي الموقف الاصلي لدى الشيخ الحوالي، فهو يغفل الدماء التي سفكت من أفراد الجيش والحرس الوطني العراقي لأنهم من الشيعة ويعلنها حرباً لا هوادة فيها على من سقطوا من السنة، وهم بلا شك ضحايا فتنة طائفية تستمد مشروعيتها وضراوتها من أفكار علماء السلف المتشددين امثال الشيخ الحوالي.

ولعل أهم ما نختم به هنا ما بدأ به الحوالي مقالته حين ذكّر مستمعيه وقارئيه قائلاً (فأول ما أذكر به نفسي وإخواني المسلمين ـ بعد تقوى الله سبحانه وتعالى ـ هو النصيحة لإخواننا الإعلاميين بضرورة تحري الصدق والدقة في النقل). فهل ما قاله ونقله في مقالته مطابقاً لما ذكّر به، أم أن داء تنزيه الذات وتبرئة النفس قد غشي من كان بالتذكير أولى حين غابت نصف الحقيقة، ونصف العدالة، ونصف الكلمة.. ولم يبق الا الموقف الايديولوجي!

ومن كل ماسبق يتبين ان للعدوان طبيعة أيديولوجية أحياناً، وبخاصة حين يكون العدوان مؤسساً على رؤية معرفية تفصيلية تستمد مقوماتها من مصادر فكرية خاصة، فالعدوان يتجاوز شبكة المشاعر ليصل الى حد إنتاج سلسلة أفكار تنتظم في وقت لاحق ضمن أيديولوجية محددة وراسخة الجذور.

الصفحة السابقة