مسودة الطعن التي أعدها المحامي سليمان بن إبراهيم الرشودي
لهيئة تمييز الحكم الصادر بسجن الإصلاحيين

(إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة)


بسم الله الرحمن الرحيم

أصحاب الفضيلة أعضاء دائرة القضايا الجنائية بمحكمة التمييز بمنطقة الرياض، وفقهم الله لقول الحق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

وبعد: نقدم الى فضيلتكم لائحة اعتراض موكليها د. عبد الله الحامد ود. متروك الفالح والأستاذ علي الدميني على الحكم الصادر ضدهم من المحكمة العامة بتاريخ 7/4/1426هـ.

وتتلخص فيما يلي:

أولاً ـ إن موضوع هذه القضية هو اجتهاد ووجهات نظر وجهت وقدمت للمسؤولين للمساهمة في النصيحة لولاة الأمر وللأمة عامة، عملاً بحديث: (الدين النصيحة)، ودعماً للإصلاح الذي هو هدف الجميع حكومة وشعباً بنيّة طيبة تأسياً بنبي الله شعيب حينما قال لقومه: (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب)؛ وتأسياً بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حينما علا الجبل وصاح بقريش منذراً لهم. وهذا الإجتهاد الذي قام به موكلونا وزملاؤهم في البيانين: (رؤية لحاضر الوطن ومستقبله) و (نداء الى القيادة والشعب معاً) وما صدر على ضوئهما من كلام في بعض القنوات الفضائية فكله يصب في هذا الإجتهاد، وهو اجتهاد بشر قد لا يخلو من أخطاء شأن أي اجتهاد بشري، وهو اجتهاد يتسم بالمصارحة والشفافية، وذكر بعض الأخطاء التي وقعت فيها بعض المؤسسات الرسمية وذلك بقصد إصلاح تلك الأخطاء وأمثالها في المستقبل، وليس مقصودهم التأليب أو التشهير بأحد.

ثانياً ـ إن من القواعد التي قررها الفقهاء والأصوليون أنه (لا إنكار في مسائل الإجتهاد) وأنه لا يسوغ لصاحب رأي أو مجتهد أن يحمل الناس ويلزمهم برأيه واجتهاده بل كما قال الإمام مالك: (كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر) يعني النبي صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً ـ إن من القواعد التي قررها الأصوليون: (أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره) وهذه قاعدة جليلة وهي دقيقة وعميقة، بل هي شرط في الحكم على أي عمل؛ وتصور الواقع الذي نعيشه اليوم من جميع جوانبه الشرعية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية الداخلية والخارجية الدولية أمر يحتاج الى الكثير من الدراسة والجهد لأنها أمور معقدة ليس من السهل تصورها على الحقيقة. وأما الحكم بمجرد ظواهر الأمور التي تعرضها وسائل الإعلام أو ما تدّعيه المؤسسة الأمنية فلا تبرأ به الذمة؛ وموضوع هذه القضية هو موضوع الواقع الذي نعيشه بجميع جوانبه المعقدة المذكورة. فهل درس أصحاب الفضيلة حكام القضية هذا الواقع من جميع جوانبه دراسة دقيقة وتصوروه على حقيقته، حتى يستطيعوا الحكم على وجهات النظر والإجتهاد الذي توصل اليه موكلونا وزملاؤهم فتقدموا بنصيحتهم واقتراحاتهم الى المسؤولين من باب الإحتساب على ولي الأمر، وذلك من واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فالحاكم غير مستثنى من هذا الحكم شرعاً بل هو أولى لأنها منكرات عظيمة وضررها عام.

رابعاً ـ إن هذه أول قضية كبرى تتعلق بالشأن العام للأمة وموضوعها هو النصيحة والإحتساب على ولي الأمر والتي جرى عرضها ونظرها من قبل قضاة في المحكمة العامة فحكموا فيها على موكلينا بهذه الأحكام القاسية والتي يبدو من حيثيات حكمهم أسلوباً ومضموناً أن أصحاب الفضيلة قد حكموا وهم في حالة غضب بدليل أنهم شاركوا المدعي العام في الدعوى فأضافوا في الصك وفي حيثيات الحكم ما لم يرد في دعوى المدعي العام من كلام لموكلينا، ولم يرد في الدعوى، وإنما راح أصحاب الفضيلة ينقبون عنه في ثنايا كلام نشر في بعض القنوات الفضائية، علماً أن التعليمات الصادرة من ولي الأمر قد نصت على أن النظر والمحاسبة على ذلك من اختصاص وصلاحية وزارة الثقافة والإعلام، فهي خارجة عن اختصاص المحاكم. ولم يتصور حاكمو القضية حقيقة الواقع الذي بنى عليه موكلونا وزملاؤهم نصيحتهم ووجهات نظرهم للخروج من هذا الواقع الذي ينذر بجر البلاد والعباد الى كوارث لا يعلمها إلا الله ما لم يتم إنقاذ الأمة بإصلاح هذا الواقع وتقويم هذا الإنحراف، بخطوات عملية جادة بكل صدق وشفافية.

وإن من يتصور الواقع من أصحاب الفضيلة قضاة محكمة التمييز ويقول كلمة الحق في هذه القضية وفي هذا الحكم بكل شجاعة وتجرد سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه ويسعد في الدنيا والآخرة، لأنه أدى ما عليه وقال كلمة الحق وحكم بالعدل ولم يخف في الله لومة لائم ولا سطوة حاكم كما قال الصحابي أبو سعيد الخدري للرجل الذي أنكر على مروان تقديم الخطبة على الصلاة.

وبعد هذه المقدمة نبدأ بالرد على ما ورد في حيثيات الحكم فيما يلي:

1) إن ما ورد في الحيثية الأولى وهو قول حاكمي القضية: (ونظراً لاشتراكهم في إعداد وتوقيع خطاب: رؤية لحاضر الوطن ومستقبله؛ فهذا الخطاب قد استقبل ولي العهد عدداً من موقعيه وجرى بينهم وبين ولي العهد حديث حول تفعيل ما ورد في هذا الخطاب، فأيّد ما ورد فيه ولم يبق موضع مخالفة حيث أقره وأيّده ولي الأمر.

2) قول أصحاب الفضيلة حاكمي القضية (أن المدعى عليهم لم يكتفوا بذلك بل تجاوزوه الى مخاطبة الشعب.. ) الخ. وهم يشيرون الى الخطاب الثاني الذي قدمه موكلونا وزملاؤهم بعد عام من الخطاب الأول بعنوان: (نداء الى القيادة والشعب معاً) وذلك حينما تسارعت الأحداث وتعاظمت الأخطار مما استدعى بذل المزيد من الجهود والنصيحة في سبيل تقديم الرؤى والإقتراحات للمسؤولين وتحفيزهم بحتمية الإصلاح للمساهمة بنزع فتيل العنف والإنفتاح بشفافية على الداخل والمشاركة الشعبية في القرار السياسي وغيره من الإصلاحات الأخرى والحيلولة دون المزيد من التدخلات الخارجية في شؤون العباد والبلاد والتي تسعى لتدمير الأمة وطمس هويتها.

3) إن حاكمي القضية أوردوا في حيثيات حكمهم اجتماع موكلينا مع زملائهم في فندق الفهد، وهو اجتماع علني للتشاور فيما بينهم فيما يتعلق بالإصلاح الذي يسعى الجميع ـ المجتمع والدولة ـ لتحقيقه لأنه يحقق المصلحة العامة للأمة، والله جل وعلا يقول: (وأمرهم شورى بينهم) فما دامت الشورى قد شرعها الله للمسلمين بنص القرآن وصحيح السنة، فكيف يورد أصحاب الفضيلة هذا التشاور وهذا الإجتماع لأجله حيثية من حيثيات تجريم موكلينا؟ أليس هذا أمراً ملفتاً للنظر أن يصدر هذا من قضاة شرع عليهم أن يحكموا بما أنزل الله.

4) إن إعلان النصيحة وتعميمها يكون مشروعا إذا كان المنكر عاماً وظاهراً بخلاف ما إذا كان المنكر أو المعصية خفية تتعلق بشخص الحاكم أو غيره، فهذا الذي تكون نصيحته بالسر. بينما المنكر الذي أنكره موكلونا وزملاؤهم ونصحوا المسؤولين بشأنه فهو منكر عام وظاهر في مؤسسات الدولة المختلفة والجهر بإنكار المنكرات على الحاكم قد سبقنا إليه عدد كثير من الصحابة والتابعين والأئمة من العلماء والأدلة على ذلك كثيرة ومعلومة لدى فضيلتكم فلا نطيل عليكم بإيراد أمثلة منها.

5) إن ما أورده حكام القضية في حيثياتهم من زعم تضخيم أخطاء الدولة فهذا مجرد زعم من المدعي العام وإلا فإن موكلينا لم يوردوا من الأخطاء سوى بعض الأمثلة القليلة المشاهدة لبيان الخلل والإنحراف الذي يجب تداركه قبل فوات الأوان؛ إذ لا بد من تشخيص الداء ووصف الدواء وذلك من النصيحة والتعاون على البر والتقوى الذي أمر الله به.

6) أما التوقيت فقد فرضته التحديات والأخطار الجسام التي أصبحت تهدد العباد والبلاد والتي تستدعي مواجهتها حشد الطاقات العلمية والفكرية للشعب وإيجاد سند قوي للدولة بتفعيل القاعدة الشعبية وتوظيف طاقاتها بجدارة وذلك لا يتأتي إلا بالإنفتاح الداخلي مع الشعب بكل أطيافه، وأن يكون ذلك بكل صدق وشفافية في سبيل المشاركة الشعبية في القرار وتوفير قدر كاف من الحرية المسؤولة وحقوق الإنسان، فبذلك تبنى الوحدة الصلبة للأمة والمجتمع.

7) إن موكلينا وزملاءهم (116) من العلماء والمفكرين عندما طرحوا رؤيتهم واقتراحاتهم فإنهم لم يقللوا من قيمة أية جهود تساهم بها الدولة أو غيرها، لأن المقصود هو تظافر الجهود للإصلاح وإيجاد الحلول للمشاكل المصيرية التي يعاني منها الناس وتهدد مصيرهم؛ ولم يضخموا أخطاءً وإنما ذكروا بعض الحقائق المشاهدة والمعروفة. وأما الأسلوب فكل له أسلوبه الذي يراه في سبيل النصيحة والإصلاح، وما دام الهدف سليماً والإقتراحات ذات قيمة عملية لحل المشكلات فالأسلوب وسيلة وليس غاية، وإنما المهم المضمون والتعاون على البر والتقوى.

8) أما استدلال أصحاب الفضيلة بقوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن.. الآية)(النساء 83) فهي نزلت أولاً فيمن تكلموا وأذاعوا أخبار سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما قد يستفيد منه العدو بينما الرسول (ص) الذي ينزل عليه الوحي بين ظهرانيهم ففي حياة الرسول (ص) كان يجب الرجوع إليه في كل أمر يحدث. وأما أولو الأمر من الصحابة فهو معطوف على الرسول وأولو الأمر هنا من كبار الصحابة لأنهم أدرى بما يجب فعله وهو الرجوع الى الرسول الذي ينزل عليه الوحي. ثانياً، إن الشيخ ابن سعدي قد قال في تفسيره: (بل يردونه الى الرسول والى اولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطاً للمؤمنين وسروراً لهم وحذراً من أعدائهم فعلوا ذلك) الى قوله (إنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك ويجعل الى أهله ولا يتقدم بين أيديهم فإنه أقرب الى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ) ا. هـ.

وتفسير ابن سعدي هذا ينص على أنه يرجع في كل أمر الى المختصين فيه وفي دراسته ومعرفة تفاصيله، فإن لم يكن هؤلاء هم أساتذة الجامعات والمفكرون والعلماء فمن يكونون؟، وكل يرجع إليه ويؤخذ برأيه وبنصيحته في مجال اختصاصه. فبالرجوع الى أصحاب التخصص في كل مجال وجمع آرائهم الى بعضها ودراستها والحوار حول ما ورد فيها يتم الوصول الى الرأي الأصوب. وعلى أية حال فالآية نزلت في إعلان إخبار السرايا كما قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره (ج 5، ص 243). (والى أولي الأمر منهم).. قال هم أهل الرأي والمعرفة بمثله من الأمور العامة والقدرة على الفصل فيها، وهم أهل الحل والعقد منهم الذين تثق بهم الأمة في سياستها وإدارة أمورها).. الى أن قال: (وإنما يدرك غوره بعضهم لأن لكل طائفة منهم استعداداً للإحاطة ببعض المسائل المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها دون بعض، فهذا يرجح رأيه في المسائل الحربية، وهذا يرجح رأيه في المسائل المالية وهذا يرجح رأيه في المسائل القضائية وكل المسائل تكون شورى بينهم) ا. هـ. فهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة ولديهم العلم والخبرة في تلك الأمور ويصلون الى الرأي بعد الدراسة والشورى بينهم.

9) بالنسبة لما ورد في الحيثية الخاصة بـ د. عبدالله الحامد فيما وصف بالجرأة على بعض المصطلحات والمبادئ المتعلقة بالسياسة الشرعية الخ؛ فهذه الحيثية مردودة لما يلي:

أ ـ إن هذا كلام عام ليس فيه تحديد لنوعية هذه الجرأة ولا بيان للمصطلحات الشرعية المقصودة وهل هي من الثوابت أو المتغيرات في الشريعة.

ب ـ إن وصم كلامه بأنه أخذ بأقوال مرجوحة عند حاكمي القضية مما يعني أن في المسألة أقوالاً منها الراجح ومنها المرجوع، فتبقى المسألة قضية ترجيح ومجال اجتهاد، وبذلك فلا يسوغ أن ينكر من يرجح قولاً على من يرجح قولاً آخر كما هو معلوم، فكل له الحق في أن يعمل باجتهاده، لكن لا يلزم به الآخرين.

ج ـ إن البحث في هذه المسألة التي أبدى الحامد رأيه فيها إنما هو بحث في أمور اجتهادية ليس فيها مخالفة لنص قطعي الدلالة والثبوت وبذلك يكون إبداء الرأي والإجتهاد فيها ليس محل إنكار كما هو متفق عليه بين الفقهاء حيث اتفقوا أنه (لا إنكار في مسائل الإجتهاد) فضلاً عن أن يكون محل تجريم يحكم بالعقوبة عليه ولذلك فإن هذه الحيثية ـ كباقي الحيثيات ـ ملفتة للنظر وتستحق الوقوف عندها طويلاً لأن مضمونها غير مسلم به ولا دليل عليه، ويحمل في طياته عدم التجرد والإنتصار لدعوى المدّعي العام ومن خلفه لأنه يمثل الطرف القوي الذي بيده القرار.

10) ما أورده حكام القضية في الحيثية التي قالوا فيها: (تطاول د. الحامد على منزلة ولي الأمر في النظام الإسلامي بقوله: إن ما قرره الفقهاء من أن أولي الأمر أدرى بالمصلحة) الخ هذه الحيثية التي تشتمل على عدة مسائل:

أ ـ أن الحكم الشرعي هو ما يسنده الدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ والقول بأن الحاكم ـ أياً كان ـ أدرى بالمصلحة فهذا قول مجمل بل باطل في وقتنا الحاضر، فإن بلاد المسلمين بعد تمزيقها منذ قرن من الزمان تقريباً بموجب اتفاقية سايكس بيكو أصبح فيها عشرات بل قد يتجاوزون المائة يمسك كل واحد منهم بزمام السلطة في بلد من بلاد المسلمين ويعد نفسه أمير المؤمنين، وفيهم من هو غير مسلم أو مسلم بالإسم فقط، بل قد يكون محتلاً يعمل ضد مصلحة المسلمين. فهل نقول لمثل هذا الحاكم أنه أدرى بمصلحة المسلمين؟ وبهذا يتضح أن ما كان ينطبق على ولاة الأمر في صدر الإسلام كأبي بكر وعمر وهارون الرشيد ونور الدين نزنكي وصلاح الدين الأيوبي الذي طهر بلاد المسلمين من الصليبيين واستعاد القدس منهم، فهؤلاء الولاة الذين كرسوا حياتهم لمصلحة الإسلام ونصرة المسلمين، كانوا ولاة أمر لجميع بلاد المسلمين أو لمعظمها، والفقهاء الأقدمون إنما قرروا ما قرروه في كتبهم في هذه المسألة لولاة الأمر في وقتهم أمثال هؤلاء، فلا يصح أن يقاس عليهم ولاة الأمر الموصوفون في هذا الوقت المتحالفين مع دول خارجية معادية للإسلام والمسلمين وتعمل ضد مصالحهم لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره كما قرر ذلك الأصوليون، والفرق واضح جلي، ولولا الإطالة لشرحنا هذه الفروق الجوهرية.

ب ـ إن اجتهادات الفقهاء وأقوالهم في كل مسألة إنما تستمد شرعيتها من قوة الأدلة التي تستند إليها من الكتاب وصحيح السنة، وإلا فإنه لا قداسة لقول أحد في حد ذاته بعد رسول الله (ص) كما قال الإمام مالك رحمه الله: (كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر) يعني رسول الله (ص).

ج ـ إن مسألة تفسير من المقصود بأولي الأمر في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا)(النساء 59). فمن المعلوم أن العلماء اختلفوا في ذلك على أقوال عدة:

فمنهم من قال (أولي الأمر) هم العلماء. ومنهم من قال أنهم الأمراء والولاة، ومنهم من قال أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن مقال أن (أولي الأمر) هم أولو العقل والرأي الذين يدبرون أمر الناس، أي أهل الحل والعقد الذين قال الإمام النووي فيهم: (فإن أهل الحل والعقد هم الطليعة الواعية والفئة المستنيرة من أهل الإجتهاد ومن الأمة هم الجديرون باختيار الإمام)(المجموع للنووي).

قال إمام التفسير ابن جرير الطبري رحمه الله: (لا طاعة واجبة لأحد غير الله ورسوله وإمام عادل فيما هو مصلحة لعامة الرعية). وقال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: (لما تقدم الى الولاة في الآية المتقدمة: ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) فبدأ بالولاة فأمرهم بأداء الأمانات الى من ولوا أمره في فيئهم وحقوقهم وما ائتمنوا عليه من أمورهم بالعدل بينهم في القضية والقسم بينهم بالسوية فرتب الأمر بطاعتهم على ذلك. قال ابن خويز منداد: وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله طاعة ولا تجب فيما كان لله فيه معصية ثم قال: ولذلك قلنا عن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حق على الإمام أن يحكم بالعدل ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين ان يطيعوه) رواه ابن جرير في تفسيره.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ج 35 ص 21: (وقد استفاض وتقرر ما قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاعة الأمراء في غير معصية الله، ومناصحتهم، وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم، وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك من باب التعاون على الإثم والعدوان، وما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهم ولغيرهم) الى أن قال: (فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل أمر يأمر به وينهى عنه وإن خالف أمر الله ورسوله فقد جعله لله ندّاً يوالي أولياءه ويعادي أعداءه مع إيجاب طاعته في كل أمر يأمر به وينهى عنه، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً) الآية.

فمن أقوال الأئمة العلماء هؤلاء يتبين صفة الأئمة الذين تجب طاعتهم شرعاً ومتى تجب وشروط وجوبها وأنه لا طاعة مطلقة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما يتعلق بمسألة هل القضاة وكلاء عن الولاة؟ فحكم هذه المسألة ينبني على ما تقدم، فإن كان الوالي تتوفر فيه صفات الخلفاء الراشدين من العلم والعدل والعدالة والإخلاص والعمل لمصلحة الإسلام والمسلمين حاضراً ومستقبلاً والحكم بشرع الله في كل صغيرة وكبيرة فنعم. وأما إذا لم تتوفر فيه هذه الصفات فكيف نقيسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وبذلك تصبح المسألة خاضعة للإجتهاد حيث لا تنطبق شروط القياس هنا على الخلفاء الراشدين، لا سيما وقد تغيرت آليات الحكم وتوسعت كثيراً وأصبح من الضروري وضع آليات وتحديد صلاحيات حسبما يتناسب مع واقع هذا العصر مما يضمن تحقيق المقصود وهو تحقيق العدالة؛ والآليات التي تضمن العدل بعيداً عن مؤثرات المؤسسة التنفيذية التي لم تعد عمر بن الخطاب ولا صلاح الدين الأيوبي بل قد تكون (بريمر) وما أكثر البريمرات! فالحكم يدور مع علّته والقاعدة الأصولية تقول : (لا إنكار في مسائل الإجتهاد) فضلاً عن تجريم المخالف والحكم عليه بالعقوبة.

وأما ما يتعلق ببعض الفتاوى الرسمية التي صدرت في العقدين الماضيين بناء على طلب السلطة الحاكمة، فإن الحقائق قد كشفت لكل منصف أنها مخالفة للصواب وللدليل الشرعي. وأنها صدرت تلبية لطلب السلطة دون تصور للواقع على حقيقته حيث اعتمد مصدروها على المعلومات التي تزودهم بها السلطة ولم يقفوا عليها بأنفسهم ولم يستقوها من مصدر مستقل متجرد، فلا تثريب على من قال بقول لديه الحجة والبرهان عليه وإن كانت تلك الحقائق مرة على الجميع لكنها حقائق على أية حال فينبغي للجميع أن يراجعوا أنفسهم وأن يحاسبوها وأن يستفيدوا من الأخطاء السابقة فلا يكرروها.

11) إن ما اعتبره حكام القضية من ان الحامد مارس ثلباً وتشهيراً ببعض المسؤولين وأساء الظن بالعلماء والقضاة فالجواب:

أولاً ـ إن هذه الحيثية ملفتة للنظر ويبدو أن حكام القضية ركزوا على الأسلوب دون المضمون الذي يستند الى بينات وحقائق ماثلة وأنهم لم يدققوا في دراسة الواقع الحقيقي المؤسف لممارسات المؤسسة الأمنية ومدى نفوذها وتدخلها في المؤسسات الشرعية لا سيما القضائية والإفتاء والشؤون الإسلامية، خلال العقدين الماضيين فيما يخدم توجهات ورغبات المؤسسة التنفيذية، وكذلك ما يتعلق بمنح الأراضي وعشرات الملايين من الأمتار لكثير من الأمراء، ثم أين تذهب مئات المليات من الريالات من دخل البترول وغيره، فهل ناقش حكام القضية هذه الحقائق المتعلقة بالمال العام الذي هو ملك عام للشعب؟ هل حكم فيه بالعدل في القضية وقسم بين أفراد مستحقيه بالسوية، كما نص عليه الإمام ابن جرير في شروط طاعة الحاكم؟ وهل هذا مقتضى الكتاب والسنة أم ماذا؟ (فالحكم على الشيء فرع عن تصوره) وتصوره لا بد فيه من كشف الحقائق والبينات التي تصلح أن يبني عليها حكم شرعي، فالقداسة والسيادة إنما هي للشريعة الإسلامية التي هي مصدر التشريع والحكم، وليست القداسة لذات من الذوات لمجرد أنها تحتل منصباً كبيراً وبيدها قرار يخيف الآخرين، فالمسلمون سواسية أمام القضاء؛ فالخليفة الراشد علي بن أبي طالب جلس ـ وهو الخليفة ـ بجوار يهودي صعلوك أمام القاضي شريح في قضية. بينما المدعي العام في هذه القضية يجلس بجوار القضاة والطرف الآخر لأنه الجانب المستضعف أجلس وحده بين يدي القضاة، فأين العدل والمساواة حتى في المجلس؟ وأين ذهبت واجبات القاضي في تحقيق العدل والتي نص عليها الفقهاء؟

ثانياً ـ إن د. الحامد لم يسم شخصاً بعينه من القضاة أو العلماء او المسؤولين بل أثنى على الفقهاء والقضاة بما نصه: (وهيئة الإفتاء مكونة من فقهاء فضلاء) وقال عن أشخاص القضاة مثل ذلك في موضع آخر. وإنما بحث الحامد بحث تحليلي يشخص مواطن القصور والضعف الذي تعيشه المؤسسات الرسمية في أنظمتها ومنها المؤسسة القضائية مع أهميتها وخطورتها، ولا يسري ذلك على الفقهاء والقضاة كأشخاص، فقد أثنى عليهم وهو يقصد من هذا التحليل تشخيص الداء ووصف الدواء من نصوص الكتاب (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتهم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).

ولا ننسى أن الحامد قد سبقه كثير من السلف والعلماء في النقد ووصف مصدر الخلل ومنه العالم المجاهد عبد الله بن المبارك حين قال قولته المشهورة شعراً:

وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها

وهو يقصد بالأحبار والرهبان هنا بعض الفقهاء والعباد الذين يجارون الملوك في جورهم وظلمهم لينالوا حظاً من حظوظ الدنيا. وقد أعجبت مقولة ابن المبارك هذه المخلصين من العلماء فاستشهدوا بها في كتبهم، فهل نقول أن ابن المبارك أطلق للسانه ولقلمه العنان في التشهير والثلب للملوك والعلماء؟ وهو يتكلم عن ملوك وعلماء عصره في القرون المتقدمة وحالهم أحسن كثيراً جداً من حال ملوك وفقهاء عصرنا الحالي. بل نقول ان ابن المبارك وصف حالة كثير من الملوك والعلماء في عصره والعصور التي قبله وصف الخبير المحذر من أمثال حال هؤلاء.

وأما ما نقله حكام القضية عن أحد السلف قوله: (لايزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم) فإذا قارنا هذا القول بقول الله سبحانه حكاية عن بلقيس: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلّة وكذلك يفعلون). فمن يفسد البلاد ويجعل أعزة أهلها أذلة هل يستحق التعظيم؟ وأما العلماء فإنما يستحقون الإكرام والإحترام إذا جعلوا من علمهم وسيلة لإقامة العدل ونصرة المظلوم وإعانة الضعيف وإبانة الحق للجاهل والنصحية لأئمة المسلمين وعامتهم، وإذا صدعوا بالحق ولم يخافوا في الله لومة لائم، ولا سطوة حاكم. وأما التعظيم فهو لله وحده وإطلاق التعظيم لمطلق السلاطين والعلماء خطأ كبير لأن فيهم الظلمة والفاسدين بل وغير المسلمين، فهل يجوز تعظيم هؤلاء؟

12) ما أورده حكام القضية في الحيثية الخاصة بمتروك الفالح بقولهم: (ونظراً لادعاء متروك الفالح وتفسيره للعنف في السعودية بأن الفئات المنخرطة في أعمال العنف هي نتاج البيئة السعودية) الى قولهم: (وهذه الأقاويل تعد افتراءً مشيناً على العقيدة الصحيحة.. الخ).

فإن د. الفالح هنا يحلل ظاهرة العنف وأسبابها ودوافعها المتعددة، ويرى من وجهة نظره أن فكر كل إنسان وقناعاته إنما تتكون في صباه من البيئة التي نشأ فيها ومن المعلومات التي تلقاها أثناء طفولته وشبابه، وهذا القول لم يأت به الدكتور الفالح من عند نفسه وفهمه وحده، فنقول ان فهمه سقيم وإنما أتى بهذا القول من علم الإجتماع ونظرياته التي تدرس في الجامعات. ثم إن هذه وجهة نظر وحصيلة اجتهاد في تحليل الظاهرة تحليلاً علمياً ولا يستطيع القضاة ولا غيرهم أن يقول ان البيئة التي ينشأ فيها الطفل والمجتمع الذي يتربى فيه والمعلومات التي يتلقاها في طفولته ليس لها تأثير على أفكاره وقناعاته، فهذا لا يقول به أحد.

وإذا كان لدى شخص تطرف، فمن أين حمل هذا التطرف؟ نعم هناك أسباب متعددة للتطرف والعنف ومنها المدارس التي يتعلم فيها سواءً في المدارس الرسمية أو في البيت أو في غيرها، كما أن هناك مؤثرات أخرى ثقافية واجتماعية واعلامية وكون الدكتور الفالح عدّ من أسباب ذلك الخطاب الديني في السلك التعليمي والتربوي فهذه وجهة نظر، وكونه أصاب فيها أم أخطأ فهو محل اجتهاد، فهناك من يقول أن هذا التحليل خطأ كما هو رأي حكام القضية، وهناك من يقول بأن هذا هو الصواب، والكل بشر؛ وعلى أية حال فكل له الحق في التمسك بوجهة نظره، لكن ليس من حقه أن يلزم الآخرين بوجهة نظره تلك، ويحتكر الصواب لنفسه وفي رأيه، فإن هذا هو عين التطرف؛ بل الذي يسع الإنسان أن يقول بمقوله الإمام الشافعي: (رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب) فلا تثريب على أحد ولا إنكار في مسائل الإجتهاد فضلاً عن تجريم المجتهد والحكم عليه بعقوبة، وهذا امر متفق عليه بين العلماء. وإن المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد؛ والشيخ محمد بن عبد الوهاب له فضل وجهود كبيرة في تحقيق التوحيد وتصفيته من شوائب الشرك والبدع، ولكنه يبقى كغيره من العلماء ليس معصوماً من الخطأ، وكل يؤخذ من قوله ويترك ما عدا رسول الله (ص) ودعوى العصمة او احتكار الصواب في قوله أو قول غيره من أئمة الدعوة، لم يقل به أحد من العلماء؛ فهو بشر كغيره يخطئ ويصيب. والدكتور الفالح لم يقل بعقيدة أخرى تخالف العقيدة الصحيحة ولم يتناول العقيدة (التوحيد) نفسه بشيء، وانما انتقد الأسلوب البشري والمنهج في المدارس واحتكار الصواب في قول واحد وإقصاء أقوال أخرى واستبعادها من مناقشة أدلة كل قول فيما ليس فيه نص قطعي الدلالة والثبوت. وعلى أية حال فهو تحليل واجتهاد قد يصيب وقد يخطئ ولكنه ليس محل إنكار وتجريم باتفاق الفقهاء.

13) ما يتعلق بالحيثية الخاصة بما ورد في مداخلة علي الدميني عبر شبكة المعلومات وإذاعة خارجية من قوله: (إن احتكار تيار فقهي واحد من التيارات الأربعة ونفي ما عداه من مذاهب وطوائف أدى الى تغلغل هذا التيار في النظم التعليمية...الخ) فالجواب عما أورده حكام القضية هناك كالجواب السابق عما أوردوه من كلام الدكتور الفالح؛ وإنما يبقى هناك قولهم (تلبيس واضح بين المذاهب الفقهية والمذاهب العقدية التي لا يقر عليها المخالف في أصول الإعتقاد) أ. هـ.

فالدميني هنا يشير الى أن هناك شريحة واسعة من الشيعة تشاركنا المواطنة في هذا البلد وليسوا فردا أو أفراداً قليلين، وما أورده أصحاب الفضيلة من كلام الماوردي في الأحكام السلطانية فهو ينصب على ما إذا كان المخالف فرداً أو بضعة أفراد يمكن إقناعهم واحتواؤهم، ولكن الواقع لدينا خلاف ذلك، فهم جزء من هذا الشعب يشاركوننا في المواطنة في الأرض وما عليها، شئنا أم أبينا، فهم واقع تحكمه التزامات ومواثيق دولية ولا يمكن تحويلهم عن عقيدتهم التي هم عليها منذ أربعة عشر قرناً، وبالتالي فالدميني يقول لا يمكن إهمالهم وتهميشهم فهم مواطنون، وهم يطالبون بأن يمارسوا عقيدتهم في أراضيهم ومساجدهم ومدارسهم كما نمارس نحن عقيدتنا فكل له عقيدته التي هو مقتنع بها، فلا بد أن يعاملوا على هذا الأساس وإلا ترتب على ذلك فساد ومنكر أعظم من منكر بدعتهم، وذلك بأن يلجأوا الى الدول النصرانية اليهودية فيستعينوا بها علينا كما حصل في العراق، وهنا تكون الطامة الكبرى والفساد الأكبر. فإعطاؤهم حقوقهم بالعدل حسب الإلتزامات والمواثيق الدولية يدرأ عنا وعن العباد والبلاد فتنة أعظم ومنكراً أكبر من منكر بدعتهم.

وأما المذاهب الفقهية فمعلوم أن مناهجنا التعليمية الحالية والكتب التي يدرسها التلاميذ معظمها إن لم تكن كلها حسب مذهب الحنابلة، وإن كان الأمر فيما يتعلق بذلك قد خف كثيراً، غير أنه لايزال بعضنا يحتكر الصواب فيما تعلمه ونشأ عليه منذ صغره، فنحن بحاجة الى مزيد من سعة الأفق، وحرية الرأي والتعبير في حدود ثوابتنا الإسلامية والإفساح لوجهات النظر والإجتهادات الأخرى فيما عدا ذلك، وهذا ما قصده الدميني من كلامه. علماً أن كلام الدميني إنما قاله في وسيلة إعلام في مداخلته عبر شبكة المعلومات، ولم ترد في دعوى المدعي العام، ومعلوم أن صلاحية النظر والمحاسبة على ما يرد في وسائل الإعلام إنما هو من اختصاص وصلاحية وزارة الثقافة والإعلام كما نصت على ذلك تعليمات ولي الأمر التي أكدها ولي العهد في أوامر سامية، وأما محاكمة النيات التي لا يطلع عليها إلا الله وحده فهو الذي يحاسب عليها وحده.

14) وأما قول حاكمي القضية بأن ما قاله المدعى عليهم الثلاثة فيه مخالفات شرعية فيما يتعلق بالوحدة والإئتلاف وحماية العقيدة وحقوق الإنسان وفق الشريعة، فهذا كلام عام مجمل غير محدد والحكم بأن لدى موكلينا مخالفات شرعية يحتاج الى تحديد النصوص او الجمل التي يرى القضاة ان فيها مخالفة وما نوع تلك المخالفة وما هو الدليل من الكتاب والسنة على أنها مخالفة، مع أن القضاة لم يستدلوا لحكمهم بنص صحيح يدل دلالة قطعية على ما حكموا به؟

وأما ما كان محل خلاف واجتهاد بين العلماء فلا إنكار في مسائل الإجتهاد ولا تجريم فيها، وإنما الإنكار على من خالف نصاً قطعي الدلالة والثبوت. هذا ما قرره العلماء والفقهاء واتفقوا عليه. وأما الحكم بالتجريم بغير دليل قطعي الدلالة والثبوت فهو حكم بالهوى وبغير ما أنزل الله (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) (النحل 116).

ولم نر أصحاب الفضيلة أوردوا في حيثيات حكمهم دليلاً شرعياً واحداً من الكتاب أو السنة يدل دلالة قطعية ولا حتى دلالة ظاهرة على شيء مما حكموا به. وأما استدلالهم بما أوردوه في حيثيات حكمهم (لايزال الناس بخير ما عظموا السلطان) الخ فهذا مجرد كلام مجهول المصدر لا يقوله إلا جاهل أو صاحب دنيا يرتزق بمثل هذا الكلام عند الحكام؛ وعلى كل حال فهو كلام باطل ترده وتبطله أصول الكتاب والسنة، لأن التعظيم لا يجوز صرفه للمخلوقين، فالعصمة لله وحده، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل خلق الله قال: (إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)؛ وقال: (إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد). ثم إن السلاطين منهم الظلمة والفساق والمجرمون وأشكال كثيرة منهم تستحق المقت والتحقير، فكيف يطلق التعظيم المطلق لسلطان؟ هذا كلام باطل قطعاً، ولو تأمله أصحاب الفضيلة لما أوردوه إطلاقاً، فضلاً عن أن يستدلّوا به.

وأما كلام الماوردي أو غيره، فهو مما يستدل له ولا يستدل به، وعلى أية حال فلكل عصر ظروفه وعرفه وكل كلام سوى كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فليس دليلاً بحد ذاته وإنما قيمته بقدرة قوة الدليل الشرعي الذي يستند إليه من الكتاب والسنّة.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد) تعظيماً لحرمة المسلم، وكما ورد في الأثر: (ما أعظمك وأعظم حرمتك ـ يعني الكعبة ـ وإن المؤمن لأعظم حرمة منك). فنأمل من أصحاب الفضيلة حاكمي القضية أن يتذكر كل منهم أنه سيقف بين يدي الله وسيسأل عن هذه الأحكام كيف أصدرها باسم الحكم بما أنزال الله، وسيسأله ربه: أين دليلك مما أنزل الله على هذه الأحكام القاسية التي حكمت بها على أساتذة جامعات علماء في مجال اختصاصهم بذلوا جهدهم فيما قدموا نصحاً للأمة جميعاً حاكمين ومحكومين؟ وأن يتذكروا حديث (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال الصحابي يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً. قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه).

هذا ما أحببنا إيضاحه لفضيلتكم ووضعه بين أيديكم بياناً للحق علماً أن معدي هذه اللائحة من العلماء، فهم قد بنوا هذه اللائحة على أدلة وأصول شرعية واضحة الدلالة لمن تأملها بإنصاف وشجاعة في قول الحق والحكم بالعدل الذي أمر الله به في كتابه: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) والله ولي المتقين.

المحامي: سليمان بن إبراهيم الرشودي

الصفحة السابقة