الـد ولـة الـعاريـة

أنفقت العائلة المالكة نسبة كبيرة من الثروة الوطنية على سمعتها الخارجية، دينياً وسياسياً، عن طريق بناء المساجد والمراكز الدينية والدفع بسخاء غير محدود في مجال العلاقات العامة.. ,قد سترها الدين فخرجت في هيئة الدولة الدينية الوحيدة في العالم الملتزمة بتطبيق الشريعة الاسلامية، ورعاية مصالح الاسلام والمسلمين، وسترها النفط عن طريق إنفاق الاموال الطائلة على تكميم الافواه، وشراء الذمم، وصناعة كتائب من المنافحين عنها حقاً وباطلاً.

خلف ستار الدين يقترف الامراء أقصى المخالفات الشرعية، وخلف ستار المال يحقق الأمراء أقصى الرغبات، فبالدين والمال صنعت العائلة المالكة سمعة دولية فريدة، ويكاد من فرط سطوتها على الرأي العام الاسلامي أن وشاحاً من القداسة أسبغ على أفراد الاسرة المالكة، واستوعب في بعض الاحيان كل القاطنين على تراب الجزيرة العربية. لقد دفع المناضلون السياسيون من مختلف التيارات الايديولوجية لقاء ذلك ثمناً باهضاً وأحياناً مصبوغاً بالدم، فقائمة وصمات الكفر والزندقة والضلال قد جرى استعمالها بإستسهال تام للقضاء على كل من يبوح برأي مخالف لمنهج الدولة أو يكشف عن ظلامة أصابته من أهل الحكم، لأن الهالة الدينية للدولة السعودية قد سحرت أعين الناس.

سمعة النظام كانت أشبه شيء بجدار سميك محاط بأسلاك شائكة، فلا يعلم أحد ما يجري وراء الجدار سوى ما صنعه الدين والمال من صورة زاهية شديدة اللمعان. كل شيء في هذا البلد كان مرشحاً كيما يصطبغ بالقداسة لوجود المقدسات الاسلامية فيها، فقد جمعت العائلة المالكة مصادر قوة فريدة: الحرمين الشريفين وتراث المسلمين في الحجاز والنفط في المنطقة الشرقية، فتدعم بالدين والمال السلطة بنوعيها السياسي والديني في نجد. ومن المفارقات الباعثة على السخرية ان العائلة المالكة إستعارت سمعتها من مصادر غيرها، أي من الحجاز والمنطقة الشرقية، فلم تكن تلك السمعة مستندة على قوة ذاتية، بل قوة مستعارة. ومع ذلك فإن تلك المناطق التي وفّرت للعائلة المالكة سمعة فريدة بين الشعوب الاسلامية ودول العالم لم تنل الا سوءا، ولم تحصد الا حصرماً، فقد نالها من الحيف ما لا يتخيل صدوره الا ممن أنكر الجميل.

طيلة عقود كانت العائلة المالكة تتوسل بسمعتها في ترسيخ سلطانها، وتعزيز علاقاتها الدولية، والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية الى جانب نفوذها الروحي في بلدان عديدة من العالم، فقد خصصت صندوقاً للمساعدات الخارجية كجزء من نشاطها الدبلوماسي لصناعة حلفاء جدد تستعين بهم في ظروف صعبة، أو إستمالة بعض القادة والزعماء الدينيين والسياسيين، وفي بعض الاحيان شراء صمت المخالفين لنظام حكمها.

منذ منتصف الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات كانت العائلة المالكة تعيش فترة ذهبية في الاستتار بسمعة لا تتكرر، وكانت الضمانة الرئيسية لاستقرار حكمها، ونجاح كثير من سياساتها الداخلية والخارجية، فبها إستتب الأمن، وبها شيّدت تحالفات استراتيجية متينة مع الدول القريبة والبعيدة، وكانت تتصرف في ضوء سمعتها كدولة محورية وقائدة، لدرجة أن نفوذها السياسي والديني قد أثار حفيظة كثير من القادة والشخصيات العربية والاسلامية، كون تلك المكانة الفريدة لا تنسجم مع الامكانيات الفكرية والسياسية المتواضعة لدى الامراء والعلماء سواء بسواء.. حتى أن بعض الكتاب المصريين ربطوا هذا التفوق السعودي بمصدره النفطي، فقالوا عن الملك فهد بالزعيم النفطي، ومفتي المملكة بالفقيه النفطي، في إشارة واضحة الى أن تلك المكانة المتميّزة للسعودية على المسويين الديني والسياسي لم تكن قابلة للتحقق لولا وجود النفط.

على أية حال، فإن السمعة السعودية في كافة أبعادها أصبحت تاريخاً، وصارت على المحك حيث تساقطت أوراق الخريف عن الشجرة الباصقة الضلال، وبات كل شيء في هذا البلد خاضعاً للنقد. ومنذ مطلع التسعينيات وتحديداً منذ الغزو العراقي للكويت في الثاني من آب 1990، فاقت السعودية على مرحلة جديدة، حيث تفجرّت تناقضاتها الداخلية بطريقة دفعية. بل إن الدين الذي جرى استعماله في وقت لاحق لضرب الخصوم في الداخل والانتشار في الخارج تفجّر في وجه العائلة المالكة، التي خضعت للمحاكمة الدينية على ذات الاسس التي كان الامراء تحاكم بها خصومها المحليين والخارجيين، ولعل أبرزها إستقدام القوات الاجنبية الى الاراضي السعودية، وقد كان الامراء قد أوعزوا للمؤسسة الدينية بإصدار الكتب والبيانات ضد جمال عبد الناصر لاستقدامه قوات روسية الى مصر. إن قائمة المؤاخذات التي طرحها التيار الديني السلفي المنشق من المؤسسة الرسمية كانت طويلة الى حد أنها نزعت عن نظام الحكم صفة الشرعية وطالب التيار بإعادة صياغة الدولة على أساس الكتاب والسنة بالمفهوم السلفي. ولم تكن (مذكرة النصيحة) التي وقّع عليها ما يربو عن مئة وعشرين شخصية دينية سلفية سوى تشريحاً دقيقاً للدولة السعودية، ثم جاء فيما بعد من يصنّف كتاباً تحت عنوان (الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية) لأبي محمد المقدسي المتخرّج من المدرسة السلفية نفسها، والمطلوب للسلطات الاردنية.

لم تكد العائلة المالكة تتعافى من التبعات الاقتصادية والسياسية لأزمة الخليج الثانية، حتى فوجئت بما هو أعظم في الحادي عشر من سبتمبر، فقد إنهار البرجان في نيويورك وواشنطن بانهيار سمعة العائلة المالكة، وكان في ذلك نهاية خاتمة ورسمية لـ (الحقبة السعودية)، فمن سوء الحظ أن تكون خاتمة سمعتها أسوأها (اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها واجعل عاقبة أمرنا خيراً).

ومن جراء تلك العاقبة الوخيمة لسمعة العائلة المالكة، أصبحت الدولة عارية أمام العالم لا يسترها شيء، فحتى الدين والمال فقدا مفعولهما السحري، فقد بات الدين بمفهومه السلفي في قفص الاتهام وفي مركز الزلزال النقدي الذي ضرب أسس الدولة السعودية، وحتى النفط بعد احتلال العراق فقد مفعوله السياسي الشديد الذي كان يلعبه في السابق.

الدولة باتت عارية من كل شيء، ولو اقتصر الأمر على العائلة المالكة لكفى، ووقى الله المؤمنين القتال، ولكن نال كل المنتسبين لها والحاملين لوثائقها الرسمية بعضاً من ويلات السمعة المتمزقة.. فكل حادث عنف يقع في أي بقعة من بقاع العالم تتوجه الانظار صوب السعودية، وتبعاً له صار المراقبون الاعلاميون أشد حماسة في الكشف عن خبايا جديدة في هذا البلد المنتج للعنف، وفي نهاية المطاف تجريد العائلة المالكة من سقط السمعة الاخير.

الصفحة السابقة