ماذا بعد الملك فهد؟

الملك وأسئلة المرحلة الجديدة

ربما يكون عهد ما بعد الملك فهد الأكثر إثارة للاسئلة، بخلاف الملوك السعوديين السابقين الذين أثارت عهودهم أسئلة من نوع ما حول التغييرات المتوقعة أو المرتقبة التي يؤمل أن يقوم بها أعقابهم ولكنها جاءت في ظروف مغايرة وتوقعات أيضاً متدنية فضلاً عن تطلعات شعبية محدودة.. في حقيقة الأمر، إن ثمة قائمة تمنيات يخلقها رحيل ملك وقدوم آخر، وقد يكون موضوع الاصلاح السياسي والاقتصادي الأبرز من بين موضوعات أخرى.

حقبة الملك السابق، بفعل طول أمدها وتقلباتها الحادة، أنتجت أسئلة مرتبطة بقضايا عديدة أبرزها: الاوضاع الاقتصادية، العلاقة بين الدين والدولة، الاصلاح السياسي، الحريات العامة (على سبيل المثال حرية التعبير، الاجتماع، الصحافة، التظاهر السلمي، العمل النقابي).

واذا كان الملك فهد حمل أوزار مرحلة شهدت فيها البلاد سلسلة أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، فإنها ألقت بتبعاتها على من يخلفه، وإن كانت البداية حتى الآن إيجابية، في بعدها الاقتصادي على الاقل، كون حقبة الملك الجديد تتدشن في سياق تزايد مضطرد لأسعار النفط، وانفراج أمني نسبي غير مأمول بخاصة مع بقاء قضية العنف غير محسومة بصورة نهائية، رغم مقتل زعيم القاعدة في السعودية صالح العوفي وهكذا بقاء جوهر المشكلات الكبرى الاقتصادية والامنية والسياسية، وهي مشكلات بحاجة الى إجابات حاسمة وجوهرية.

لاريب أن ما هو منتظر من الملك الجديد كبير وكبير جداً، فالحقبة الماضية تعدُّ الأطول في تاريخ السعودية، فقد شهدت تحوّلين متعارضين على المستوى الاقتصادي أولاً، فبعد بلوغ الطفرة الاقتصادية ذروتها وصلت الاوضاع الاقتصادية في عهده الى أسوأ مستوى منذ السعبنيات، كما شهدت أسوأ تحوّل أمني في تاريخ البلاد، حيث عاشت البلاد سلسلة حوادث تفجيرات وانفلاتات أمنية غير مسبوقة مع انتشار السلاح وتشكّل جماعات تنظيمية مسلّحة لم تفلح الدولة في القضاء عليها فضلاً عن وضع أسس حل نهائي، الى جانب تنامي التيار الاصلاحي الوطني الحاضن لطيف واسع من القوى الاجتماعية والسياسية في البلاد.

مهما قيل، فإن الملك عبد الله لم يكن بمعزل عن تداعيات المرحلة السابقة فقد كان شريكاً غير كامل في ما جرى، وإن كانت الصلاحيات المطلقة التي كان يتمتع بها سلفه تعفيه جزئياً من أوزارها، وإذا كان ثمة ما يجهله الملك الجديد عن طبيعة التواطئات الداخلية بين العصبة السديرية فإن موقعه كولي للعهد وأحد صنّاع القرار داخل العائلة المالكة يلقي عليه مسؤولية ثقيلة، رغم أن فرصته في التنصّل من المسؤولية أوفر من أخوته الألدّاء. ربما كان توسّل الملك الجديد بالصمت التكتيكي في المرحلة الماضية كان مفهوماً من أجل الوصول الى السلطة بطريقة هادئة وسلمية، ولكن هذا الصمت غير مغفور وغير مفهوم من قبل المتضررين من الجناح السديري، فالضحايا لا تنتظر تفسيرات نظرية للشركاء المباشرين وغير المباشرين في الظلم الواقع عليهم.

مهما يكن، فإن الملك الجديد ورث عرشاً محاطاً بطائفة أسئلة عاصفة في ظل أوضاع أمنية وسياسية واقتصادية متقلِّبة، ولا مجال حينئذ سوى المواجهة المباشرة وتقديم إجابات بصرف النظر عن مكنونها الاقناعي، فصمت الملك معيب وغير مبرر، بخلاف ما كان عليه الحال إبان ولايته للعهد حين لاذ بالصمت في قضية الاصلاحيين، فكان ذلك دليل وهن.. إن تجربة الملك خالد غير قابلة للتكرار هذه المرة، فهي تجربة مفصولة كون الملك لم يكن يستند على تحالف داخلي أو كفاءة شخصية فريدة، وإن إعادة بناء هيبة الدولة والحفاظ عليها يتطلب وجود ملك قوي وقريب من قضايا الناس الذين لم تعد مجرد الهيبة الامنية كافية لتقديم فروض الطاعة أو الامتثال لقوانينها، فالناس باتت تحترم المصلح القادر على حلحلة مشكلاتها، وأن المقولة القديمة بأن الناس تحترم القوي لم تعد ممكنه، فالقوة السابقة كانت تستمد جزءا جوهرياً من مكوّنها من الوهم المصنّع إعلامياً، ومع انكاشف قوة الدولة في تجارب عديدة بات الاقناع القائم على التراضي وحده السبيل لصناعة ولاء حقيقي وفعّال.

الملك خالد: تجربة غير قابلة للتكرار

الملك الجديد يحتفظ بقوة هائلة فيما لو قرر إستعمالها في الاتجاه الصحيح، أي في تعديل مسار الدولة لجهة إعادة تنسيج الفئات الاجتماعية داخل الاطار التكويني للدولة، وتفكيك الأطر القديمة المسؤولة عن نشوء نزوعات عصبية ضيقة تجنح الى احتكار السلطة والثروة.. إن حزمة المشكلات التي أنتجها انقباض السلطة لم تكن قابلة للحل في ظل استمرارية وفاعلية الاطر القديمة، إذ لا يرتجى حل من مصدر المشكلة.

لاريب أن الملك الجديد يواجه تحديات كبرى داخل العائلة المالكة ومن الجناح السديري على وجه التحديد، وهناك تحديات أخرى تفرضها الاوضاع الداخلية الامنية والسياسية والاقتصادية، ويعود بعضها الى شبكة التحالفات القديمة التي ساهمت بصورة وأخرى في تعزيز الاطر القديمة.. إنها تحديات تتطلب الى جانب الصلاحيات المطلقة التي يتمتع بها الملك المزيد من الجرأة والشجاعة لايقاف مسيرة تدهور الدولة. إن الانفراجات الاستثنائية التي لجأت اليها العائلة المالكة في الحقب الماضية لم تعد كافية لانقاذ الدولة والمجتمع، فهناك ملفات عالقة لسنوات طويلة تتطلب فتحاً صريحاً ومباشراً، وقد بات أمر تسويتها ملحّاً وضرورياً لكل من الملك الجديد وحلفائه داخل العائلة المالكة وهكذا للمجتمع.

ثمة ثمن باهظ ربما يتقرر على الملك الجديد دفعه، نتيجة الصورة البارقة التي رسمها عن نفسها وساهم فيها عدد من أفراد حاشيته وأعانته على إتمامها طائفة من رجال الاعلام، فهو يقف الآن أمام محك الجدارة الفعلي، لا يغني فيه عذر القصور، أو تكالب الاخوة الالدّاء.. ولا ريب أن الملك عبد الله يقدّر تمام التقدير موقعه وأن السنوات الماضية التي كان ينوب فيها عن الملك فهد قد زوّدته بزخمٍ كبير وربما خاض خلالها تجربة تأهيلية مكثّفة يضطلع خلالها بأمور الملك، وهذا معنى الانسيابية في الحكم السعودي كما جرى هذه المرة، فقد كان الى حد ما ملكاً غير متوّج، وإن كانت الجبهة السديرية حاولت كبح تطلعه القيادي على مستوى صناعة القرار الداخلي.. الحال يختلف الآن، فإن عبد الله بات ملكاً مطلق اليد، وأن القيود المفروضة عليه من داخل العائلة المالكة تبدو من الناحية النظرية غير قابلة للتبرير والتمرير.

من اللافت في تصريحات الامراء الكبار أن ثمة تأكيداً على استمرارية السياسات القائمة، في محاولة لاحباط النظرات الاولية التي تقوم على أساس أن وصول الملك عبد الله الى العرش يعني أن ثمة تغييرات جوهرية في بنية الحكم ستجري بصورة متسلسلة. وفيما يبدو أن تلك التصريحات تصدر من الامراء الكبار الذين يخشون من استعمال الملك الجديد لصلاحياته المطلقة والتي قد تفضي الى تبدّلات غير مرضية للجناح المستفيد. إنها تصريحات تنمّ عن الخوف المستتر من اضطلاع الملك عبد الله بدور قيادي كامل، يتجاوز فيه التوافقات الشفهية بين الامراء الكبار، معوّلاً فحسب على مواد النظام الاساسي. لاشك أن الامراء السديريين عملوا ما بوسعهم لمواجهة مرحلة يصبح فيها عبد الله ملكاً.. فالنظام الاساسي الذي جرت صياغة مواده كيما تعطي للملك السابق صلاحيات مطلقة ليس صالحاً الآن ولا يخدم مصالح العصبة السديرية، فهو نظام مؤسس على حفظ مصالح فئوية وضيقة، وأن الاستمرار بالعمل به في هذه المرحلة يمثّل تفويضاً مفتوحاً للملك عبد الله بإتخاذ ما يراه مناسباً.. قد يضطر بعض الامراء الى تشجيع خيار الملكية الدستورية درءا لتغوّل دور الملك عبد الله، وإن كان تشجيعهم لا يعدو أكثر من استخدام مؤقت لهذا الخيار من أجل الابقاء على توازن معادلة السلطة.

تبدو أمام الملك عبد الله فرصة بناء إصطفاف شعبي واسع يضعف الجبهة السديرية، وقد يتحوّل بالفعل الى رمز كاريزمي فيما لو قرر مقاربة المشكلات الرئيسية المؤجلة والتي تتطلب حلاً عاجلاً وجوهرياً.. إن الاستجابة المخيّبة التي أبداها الملك عبد الله إبان ولايته للعهد حيال موضوع الاصلاح السياسي، والتي مثّلت إنتصاراً سديرياَ بإمتياز تفرض على الملك الجديد موقفاً متقدماً يتناسب وموقعه كملك.

إن أولى المشكلات التي تواجه الملك عبد الله إيجاد تسوية مرضية داخل العائلة المالكة من خلال إعادة التوازن لعملية تقاسم السلطة، فقد بات واضحاً أن التسلسل الوراثي داخل العائلة المالكة محتكراً للعصبة السديرية، وأن استمراره سيخلق فرص نزاع ضارٍ على السلطة في المستقبل، إذ لن يدوم سكوت الاجنحة الاخرى على مصادرة حقهم التاريخي المزعوم في الحكم من قبل الجناح السديري، الذي سيمسك السلطة بتمامها بعد الملك عبد الله.

مع وصول الملك عبد الله للعرش، بدأت الاجنحة الاخرى المهمّشة تحركاً نشطاً لتقديم الدعم والولاء للملك الجديد وإبداء استعدادها للتحالف معه في مقابل الحلف السديري لجهة إحداث تعديل جوهري في بناء الحكم السعودي الوراثي.. يدرك أبناء عبد العزيز من خارج البيت السديري أن ليس أمامهم فرصة أخرى قابلة للتكرار بعد رحيل الملك عبد الله، واذا ما مرقت دون نتائج مثمرة، تحول دون إمكانية إعادة بناء الحلف السديري فإن مصير الدولة السعودية الحديثة سيفضي الى عمليات نبذ متواصلة داخل العائلة المالكة بما يبقي دائرة السلطة في حدود ضيقة للغاية، وقد تضيق الدائرة بصورة مضطردة في المستقبل مع إزاحة إثنين أو أكثر من داخل العصبة السديرية.

إن وضعاً كهذا لاشك غير مقبول لدى أغلبية أفراد العائلة المالكة، وهو غير مقبول بالضرورة لدى الملك عبد الله الذي يجد صعوبة بالغة في إدارة الدولة فيما تخضع أهم مفاصلها (الداخلية والدفاع، وإمارات المناطق الرئيسية) تحت سلطة الجناح السديري.. إن ثمة فرصة سانحة للملك عبد الله كيما ينقل الدفاع الى أمير من خارج الجناح السديري، بدلاً من توارثها من قبل أبناء الامير سلطان، الذي سيكون وصوله الى العرش تمكيناً نهائياً لعقبه.

لا يمكن بواقع الحال أن يدشّن الملك عبد الله عهداً جديداً مع بقاء مواقع السلطة محتكرة بين فئة محدودة من السديريين، إن ملامح التغيير التي بدأها الملك عبد الله إبان ولايته للعهد ستبقى باهته ومنقوصة وغير مضمونة ما لم تتأسس على قاعدة عريضة من المشاركة من داخل وخارج العائلة المالكة.

قد تكون السلطة المطلقة لوزير الداخلية الامير نايف أبرز العقبات التي تواجه الملك عبد الله، كونها تصطدم مباشرة بالسياسات الداخلية التي يأمل تطويرها في العهد الجديد، في ظل إصرار الامير نايف على إبقاء الامن الداخلي قضية غير قابلة للتنازل.. إن الافراج عن الاصلاحيين بقرار من الملك عبد الله لم يكن سوى تقليداً ملكياً متبّعاً مع بداية كل عهد جديد، ولم يكن تنازلاً من الامير نايف الذي تعاطى مع ملف الاصلاحيين بطريقة الثأر الشخصي.. إن الدول التي شهدت نزاعاً بين رأس الدولة ووزير داخليتها تكون في الغالب عرضة لتقلبات داخلية غير اعتيادية، ولا يجري حسم الخلاف عادة بصورة سلمية، سيما في حال تصلّب وزير الداخليه وتمسّكه بموقفه وسلطته، ما لم يتوصل الاخير الى قناعة بضرورة الرضوخ لمعادلة الحكم ومملياتها..

منذ الحادي عشر من سبتمبر، كان الامن القضية المركزية، والتي لعب فيها وزير الداخلية دوراً طاغياً يتجاوز أحياناً سلطة الملك وولي العهد. إن ظاهرة العنف التي تفجّرت خلال السنوات الماضية منحت وزير الداخلية سلطة إستثنائية، والتي تعامل معها كقضية مستقلة معزولة عن صلاحيات ولي العهد.. وقد نجح الامير نايف أيضاً في إدخال قضية الاصلاحيين في المجال الامني، وكان في ذلك إضرار شديد بمكانة ولي العهد ولاشك أنها تمثّل واحدة من المحاذير التي تحول دون منح الملك الجديد ولاءً مفتوحاً.. من الثابت أن ثمة أسئلة كثيرة ترتبط بنظام الحكم والاصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تركها سلفه وقد بات أوان الاجابة عنها وبصورة حاسمة.

الصفحة السابقة