في فكر الدولة

الشرعية والعقد الاجتماعي

المناقشة في موضوعة الشرعية في سياق النظرية الاجتماعية والسياسية تبدو وكأنها جاءت لتؤكد مقولة هيغل بأن الانعكاس النظري يبدأ فحسب حين يكمل الفعل تطوره ويصبح إشكالياً. فالمسائل المتعلقة بالكفاءة الاخلاقية أو الحقّانية لأشكال مختلفة من الحكم كانت حاضرة منذ بداية التفكير المنظّم حول المجتمع. في كتاب (السياسة)، على سبيل المثال، يرى أرسطو بأن بعض الدساتير كانت محقّة، أي تلك الدساتير التي صاغت المصالح المشتركة للمواطنين. فيما كان بعض الدساتير الاخرى فاسدة، أي تلك الدساتير التي تم توظيفها لخدمة مصلحة محددة للحكام، وهو تمايز يندكُّ في الميتافيزيقيات الغائية. وعلى أية حال، فإن النظرية الكلاسيكية افتقرت الى لغة صريحة حول الشرعية، فتلك اللغة كانت إبتكار الفكر الحديث، ممثَّلاً بصورة جيِّدة في وعد روسو في العقد الاجتماعي لبيان كيف أن السلطة السياسية تصبح شرعية. إن الفرضية الجدلية لروسو تتموضع على أساس الكلمات القصيرة للتقليد الارسطي والتحذير حول سجالية الشرعية في العصر الحديث. إن هذا التحول من الاعتبار الميتافيزيقي الى الاعتبار الطوعي مهّد السبيل لمساهمة ماكس ويبر، المنظّر الأكبر الحديث للشرعية.

من سوء الحظ، فإن تعريف الشرعية يتوسل بالسؤال الحاسم: كيف يتشكل الحق، وكيف يتحدد معناه؟ وبصورة عامة فإن السؤال قد تمت الاجابة عنه في إتجاهين: فهناك مدرسة فكرية جادلت ويبر بأن إحتمالية التوجيه فحسب للايمان الذاتي في صلاحية أي نظام هي التي تؤلّف صلاحية النظام نفسه. ووفق هذا الرأي بأن الحق يخفِّض الاعتقاد في الحق في الحكم. وقد حاول ويبر المجادلة ضد التداعيات النسبية لذلك المفهوم من خلال تحديد أربعة أسباب لتوصيف شرعية أي نظام إجتماعي: التقليد، التأثير، عقلانية القيمة، والقانونية. وهذا التصنيف خدم كأساس لتحليله المشهور للنماذج النقيّة للهيمنة الشرعية: النموذج التقليدي، الكاريزمي، العقلاني القانوني.

ومن الناحية النظرية الواسعة، فإن كل المجتمعات البشرية المعقّدة تواجه، بطريقة أو بأخرى مسألة الشرعية، أي بعبارة أخرى، مسألة: لماذا وكيف يستلزم النظام الاجتماعي خضوع الأفراد؟ ولكن هذه القضية أكثر حراجة وجلاء في المجتمعات الحديثة. والصورة التي صاغ بها روسو المسألة في البداية الأولى للعصر الحديث قد تساعدنا في إدراكها بصورة أفضل.

(يولد الانسان حراً وهو، في كل مكان، يرسف في القيود. كيف حدث هذا التغيّر؟ أجهل ذلك. ما الذي يمكن أن يجعله شرعياً؟ أعتقد أني أستطيع الإجابة عن هذا السؤال. فالنظام الاجتماعي حقٌ مقدّس يستخدم أساساً ككل الحقوق الاخرى. الا أن هذا الحق لا يأتي من الطبيعة، بل يقوم على إصطلاحات. والأمر يدور حول معرفة ما هي الاصلاحات (أنظر العقد الاجتماعي، جان جاك روسو). لم يكن لهذا التصريح وهو أقرب الى الراديكالية أن يصدر قبل بضعة قرون. فقد كان العالم يدرك، إذ ذاك، على أنه نظام كوني يحدد، فيه، للكائنات البشرية هدف وموقع معاً. والعرف، في هذا العالم، من مستوى إلهي والسلطة السياسية راسية في نظام كوني أوسع. ولم تكن مفاهيم الحرية والشرعية والارادة والقبول والمال والاصطلاح المترابطة التي تكمن وراء تأكيدات روسو مألوفة، وإنحيازه الى استقلال حيال عالم الرموز والدلالات القديمة مرتبط بتجربة حالة لانعدام الحرية في المجتمع. وجوهر تجربة الضياع والفوضى الحديثة محتوى في هذه الصياغة. وبالفعل، فإذا لم يمسِّ النظام القائم نظاماً كونياً، فإن كل منعٍ وكل طلبٍ أو كل قاعدة تصدر عنه تؤلّف ضروباً من المس بالحرية ـ مساً بحريتي، بحريتنا. فالحدود غير المرغوب فيها تصبح قيوداً ولا يمكن للحدود أن تكون مشروعة مالم تكن ناجمة عن الارادة البشرية.

ولا يستطيع أحد أن يسلِّم، اليوم، بالحل الذي نادى به روسو لمسألة الشرعية ـ نظرية الارادة العامة ـ ولكننا نستوعب كل مسألة الشرعية في الاطار العام للفكر الذي طوّره. وهذا ما يحمل على التفكير في أن ضروب ضعف الاجابة الخاصة التي إقترحها ليست، فقط، ضروب ضعف نظرية خاصة في الشرعية، ولكنها ترد الى صعوبات أكثر أساسية، ملازمة لاطار الفكر نفسه.

والنظريات المعاصرة للشرعية على ثلاثة أنواع، ويحاول بعضها إستعادة عناصر العالم الذي فقدناه بتحليلها الأعراف والمعايير كتقاليد تتنتمي الى المستوى الالهي أو تعكس غرضاً متضمناً في الطبيعة. وهي تحاول، كما تقول حنة أرندت، إعادة مذهب (للشرعية يشتق من شيء غريب عن فعل الانسان). وتأخذ نظريات أخرى في الحسبان الطابع الاصطلاحي للحياة الحديثة، ولكنها تقصر مسألة الشرعية على الاصطلاحات التي تحكم العلاقات بين الدولة والمواطن وتسعى الى ضمان الشرعية من خلال القبول العقلاني للمواطنين. وأخيراً، تلحّ بعض النظريات على كون الطابع الاصطلاحي للمعايير وتقنين التصرفات قد إنتشر في كل ميادين الحياة، فهي تحاول، إذن، تحديد معيار للقبول واسع جداً، صالح لجملة نمط حياة.

ويقدم جورج كانت مثالاً للنموذج الثاني من النظريات، فالحداثة تعني تجريد الطبيعة والطابع الاصطلاحي للحياة وتبلور الدولة وأولوية قبول الفرد في إقامة الشرعية على صفة القداسة. ولكن مسألة الشرعية يجب أن تقتصر، في رأيه، على مسألة قبول المواطن بالمبادىء الدستورية الأولية التي تدير الدولة. وكانت الذي ينتقد نظريات الشرعية الفعلية والضمنية في الدول الرأسمالية الديمقراطية يتبين (مشاعر وآراء فقدان ود عميقة ومبثوثة حيال الديمقراطية التمثيلية). فقد توجد، في ميادين عديدة من الحياة، ظواهر غرابة وضياع، ولكن هذا الوضع للأشياء جزء لا يتجزأ من الفكرة الحديثة عن الحرية والاصطلاح. وهو ليس علامة لا شرعية للدولة، ولا يمكن أن يعالج دون الرجوع الى تصور مضلل تكون فيه الطبيعة أو الله هما اللذان يقدمان معايير شرعية خارجية عن الانسان.

ويرى تقليد آخر يمثله جورجن هابرماس أنه يجب، في المجتمعات المعاصرة، توسيع المجال الذي تتخذ فيه مسألة الشرعية معناها. وبالفعل فإن ممارسات وقواعد ومعايير عديدة كانت تعد، في السابق، مدارة من جانب التقليد أو السوق اللاشخصية تعاش، بصورة متزايدة، كإصطلاحات صيغت بناها من جانب ظواهر سلطة أو من جانب السياسة، واذا مضت هذه الاصطلاحات ضد إرادة المنخرطين فيها، فإنها تكون مضللة أو تعاش بوصفها ضروب قسر مكروهة بدلاً من أن تكون وسائط للحرية. وعند ذلك، تصبح شرعية الدولة ـ ولكن ليس، بالضرورة قابليتها للمحافظة على النظام ـ هي قدرتها على تحقيق التناغم بين هذه الاصطلاحات وإرادة المواطنين المنضجة بصورة إستدلالية من خلال سيرورة شفافة وديمقراطية. وتشكِّل، من الآن فصاعداً، جزءا منها مسائل كتوزيع المداخيل وتنظيم حياة العمل والتركيب الاجتماعي للاستهلاك وسمات البيئة الطبيعية والتقسيم القطاعي للعمل والعلاقات بين الآباء والأبناء ومصير الاشخاص المسنين، وهي مسائل كانت تعد، سابقاً، خارج مجال الارادة والاصطلاح والحياة السياسية والشرعية. ومن الصعب أن نرى نظاماً يعتنق الحداثة يعاكس هذا التطور دون أن يمر بدروب تعسفية ولا شرعية.

ونستطيع الآن، أن نفهم ما يقود الى تبني أكثر المواقف نموذجية حيال مسألة الشرعية: فالمحافظون والمحافظون المحدّثون يحاولون إعطاء طابع أقل اصطلاحية لبعض مجالات الحياة بإعادة إعطاء دلالة طبيعية للتضييقات الرئيسية التي تفرضها الديمقراطيات الدستورية الرأسمالية أو بنسبتها إليها طابع ضرورة. ويحاول الليبراليون قصر مسألة الشرعية السياسية على المبادىء الدستورية التي تدير الدولة بالمحافظة على خط تفريق بين الاقتصادي والسياسي وبتبني معايير شرعية مختلفة لكل من هاتين الدائرتين. ويحاول الراديكاليون الاحاطة بجملة إصطلاحات قادرة على تلقي قبول مجموع السكان. إن كلا من هذه الاجابات تصطدم بصعوبات خطيرة: فيمكن ان يعاش موقف المحافظين كمحاولة لخفض قيمة الاصطلاحات في الحياة الحديثة، وفصل الليبراليين بين الاقتصادي والسياسي يبدو متزايد الصنعية في سياق يتزايد فيه دخول السلطة والسياسة في الحياة الاقتصادية (والعكس بالعكس)، ورؤية الراديكاليين مهددة بأن تبدو كطوباوية.

العقد الاجتماعي

الفكرة المركزية لنظرية العقد الاجتماعي هي أن الحكومة الشرعية هي النتاج الصنعي للقبول الطوعي لعملاء أحرار على الصعيد المعنوي: فلا وجود، إذن، لسلطة سياسية (طبيعية) ما. وبالتالي، فإن مايكل أوكيثوت على حق حين يقول أن نظريات العقد هي مذاهب (الارادة والاصطناع). وفضلاً عن ذلك، يمكن تلخيص هذه النظريات بصيغة لوك التي تقول (إن الاتفاق الطوعي هو ما يعطي الحكام سلطانهم السياسي). وإذا وجدت آثار لنظرية العقد في الفكر السياسي القروسطي، وإذا عبّر بعض الليبراليين المعاصرين عن عودة الى الاهتمام بهذا المذهب، فإن العصر الذهبي للعقد الاجتماعي يقع، حقاً، بين عامي 1650 و1800 وهو يبدأ مع (ليفياثان) هوبز وينتهي مع (العناصر الميتافيزيقية للعدالة) لكانت. ويمكن الدخول في جدال حول الاسباب التي إتّخذت الطوعية، من أجلها، مثل هذه المكانة في الفكر الغربي. فمن المحتمل أن تكون نظريات النظام السياسي الجيد والطبيعة الاجتماعية للانسان القديمة التي شقّت الدرب بتأثير من المسيحية، لرؤية الظواهر السياسية على أساس نموذج (الأعمال الجيدة). فكما أن الاعمال الجيدة تقتضي معرفة الخير والشر، فإن الحياة السياسية تقتضي القبول الأخلاقي، انخراط الفرد في السياسة من خلال إرادته. وقد كانت حرية المرء في التطابق مع المعايير، طيلة الوقت، عنصراً هاماً من عناصر العقيدة المسيحية، ومدلول الشك في فكر الاصلاح لم يفعل شيئاً خلاف إنه دعم هذه المركبة الفردية والمسؤولة في تصور الاخلاق على حساب الخضوع لسلطة معنوية. ومن الطبيعي، على وجه الاجمال، ان يكون التصوّر البروتستانتي للاستقلال المعنوي للفرد قد انتقل، تدريجياً، من الصعيد اللاهوتي والفلسفي الى الصعيد السياسي وأن يكون قد وفّر الأساس الثقافي لنظرية العقد. فلم تعد شرعية مؤسسة ما تستطيع، بعد انتشار أفكار الاصلاح، الاستناد الى الصفات الباطنية وحدها. فقد أصبحت تفترض، بعد ذلك، قبول الأفراد الذين يعدون أصحابها.

ومهما تكن الصورة التي إنبثقت، عليها، نظرية العقد الاجتماعية الارادوية، فمن المؤكد أن الأفكار المتصلة بالدولة الجيدة شقّت الدرب، تدريجياً، لمدلول الدولة الشرعية. وقد أعتبر، بعد القرن السابع عشر، أن هذه الشرعية يجب أن تستند الى مدلول الارادة.

وقد جاء المنعطف الحاسم في ظهور الارادة كمدلول أساسي في الفكر الاجتماعي الغربي مع القديس أوغسطين الذي أخذ عن شيشرون وسينيك فكرة (الارادة الطيبة ـ Good Will ) وعمّقها ليجعل منها مفهوماً مركزياً للاخلاق. وعلى الرغم من أن القديس أوغسطين لم يعد نفسه، في كتاباته السياسية الخالصة، منظّراً للارادة والعقد الاجتماعي، فإنه قد أقام في تصوره للأخلاق، صلة وثيقة بين القبول والارادة لم يكن يمكن لنظرية العقد الاجتماعي أن تنمو دونها. وأصبح هذا التيار الارادوي سياسياً بصورة أصرح، لدى بعض الفلاسفة السياسيين المسيحيين الذين عقبوا توما الأكويني، وبصورة رئيسية وليم دوكهام ونيكولاس كوزانوس: فقد إدّعى كلاهما أن السلطة السياسية الشرعية تستند الى قبول الرعايا الحر.

ولكن أكثر صور النظرية السياسية للإرادة السابقة لمدرسة العقد الاجتماعي تقدماً ودقةً هي تلك التي طوّرها فرانشيسكو سواريز في كتابه الكبير (مطوّل في القوانين وفي الله الذي أعطانا القانون). إن الارادة الحرة والقبول السياسي، في نظرية سواريز، متشابهان، بل ومتوازيان: فالارادة هي (العلة الاولى) للدولة. ويلخّص سواريز مذهبه حين يلاحظ أن (الارادة البشرية ضرورية من أجل أن يستطيع البشر أن يتّحدوا في جماعة وحيدة وكاملة)، وأن البشر، بوصفهم أفراداً، يملكون الى حد ما، بطبيعة الأشياء، القدرة على إقامة جماعة كاملة وخلقها)، وهذه الملكة هي، بكل بساطة في نظرية سواريز، الارادة. فيمكن للبشر ان يتجمعوا، كلهم معاً، في كيان سياسي بفضل إرادة خاصة أو قبول مشترك. والشعب لا يستطيع إظهار قبوله المشترك ما لم تكن (الأفعال طوعية).

إن جهداً من هذا النموذج يكفي، بالنسبة لمنظّري العقد الحديثين، من أجل أن نقول إن حكماً ما إكتسب الشرعية بالقبول. بحيث يكون الالتزام والسلطة نتاج مسؤولية الجميع وحريتهم، نتيجتين لارادة كل فرد، بتعابير أخلاقية. ومن الممكن تماماً مقاربة نظرية العقد من وجهة نظر أحدث من حيث هي إمتداد لبعض الأفكار القروسطية المتّصلة بالعقد بين الحكام والشعب أو من حيث هي نظرية للحدود العقلانية للحكومة. وسيئة هذه التصورات التضييقية هي أنها لا تأخذ في حسبانها، حقاً، الثورة التي أدخلتها الأفكار المسيحية في الفلسفة الاخلاقية والسياسية وأنها تخفّض، من أجل ذلك، من قيمة المركبات الأخلاقية لنظرية العقد، كالاستقلال والمسؤولية والواجب والارادة. ولقد إحتل القبول أو الاتفاق المبني على الارادة، مفهوماً كملكة أخلاقية وفي القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، مكانة لم يحتلها بهذا الكمال من قبل. فهوبز، مثلاً يقول في (الليفياثان ـ 1651): (أن حق كل الملوك مشتق، أصلاً، من قبول كل الذين يجب أن يُحكموا). ويلح على كون الارادة البشرية (تؤلف جوهر كل إتفاق). بل إنه كان قد قال، في كتابه السابق (حول المدينة ـ 1642): (إني أؤكد أن الانسان ملزم بالعقود التي قبلها، وهو ما يعني أنه يجب عليه إحترامها بإسم الوعود التي قدّمها، ولكن قيود القانون تفرض نفسها عليه كإلتزام، وهو ما يعني أن القانون يكرهه على إنجاز وعوده تحت طائلة عقوبات ينص عليها القانون).

إن هوبز يقرر بوضوح، هنا، أن الالتزامات تشتق من الوعود، من العقود التي تكون الارادة جوهرها، وليس من الخوف من العقوبة التي لا تفعل شيئاً خلاف توطيد النية الناجمة عن وعد. ودون أن نتوقف عند لوك الذي يرى، من جهته، ان (الاتفاق الطوعي هو ما يعطي الحكام سلطانهم من أجل خير رعاياهم)، نستطيع الالتفات الى روسو. إن هذا الأخير يقول:(لا أدين بشيء لمن لم اعدهم بشيء..إن الترابط المدني هو أكثر أفعال العالم طوعية. فمنذ أن يولد كل فرد حراً وسيداً لنفسه، لا يستطيع أحد، بأية ذريعة، إخضاعه دون قبوله). وهذا المقطع يبين، بوضوح، الى أي حد تترابط أفكار القبول والعقد والفعل الطوعي. ويرى كانت، كذلك، في كتابه (العناصر الميتافيزيقية للعدالة ـ 1797) أن من العدل ترك انحطاط النبالة يتم تدريجياً على اعتبار ان الشعب لم يرد قط، حقاً، قيام طبقة وراثية لا يستند مقامها الى الاستحقاق. وهو يرى، أيضاً، أن كل القوانين يجب أن تكون بحيث يستطيع رجال عقلانيون قبولها. وهيغل نفسه يؤكد، صراحة، أننا في العصر الحديث (نطالب بوجود حكم خاص، إرادة خاصة، ووعي خاص)، في حين (كانت الغاية الذاتية تتطابق، في دول العصور القديمة) بكل بساطة، مع إرادة الدولة. ويتابع هيغل مشيراً الى أن (كلمة أريد) يجب أن تصدر عن الانسان ذاته عندما يتخذ قراراً إجتماعياً.

وقد كان هيغل على الرغم من قبوله الاطروحات الارادوية، ناقداً مؤثراً للنظرية التعاقدية للدولة. وقد كشفت نظرية العقد الاجتماعي، خلال أكثر من قرن بعد وفاته عام 1831، من جانب النفعية، من جهة، والنظريات التاريخية للدولة المشتقة، الى حد بعيد، من فكر هيغل نفسه والتي وجدت أكمل تعبير عنها في الماركسية من جهة أخرى. ولم تعد القوة الى هذه النظرية الا مؤخراً، لا سيما من جانب جون راولز، الذي حاول تقديم مبادىء العداله لديه بوصفها (مبادىء يقبلها أشخاص أحرار وعقلانيون راغبون في السعي وراء مصلحتهم الخاصة إذا أرادوا تعريف حدود ترابطهم على أساس مساواة اولية بين الجميع). وليس هدف تأمل راولز تبرير السلطة السياسية ولم يستعمل، قط، مدلولي الارادة والقبول، الا أن محاولته تقديم المجتمع العادل بوصفه (مخططاً طوعياً للتعاون) يربطه بالتقليد التعاقدي. ويبدو هذا النمط من الفكر الذي تعود جذوره الى القديس أوغسطين والذي رسم فلسفة الانوار قد حقق عودة ملحوظة.

الصفحة السابقة