المفاهيم المقلوبة ولعبة السياسة

الـوطـنـيـة: الـتـرابـيـّة!

احتفلت المملكة شعبياً ـ ولأول مرة في تاريخها وبشكل رسمي ـ باليوم الوطني، الذي صادف الثالث والعشرين من سبتمبر الماضي. وبالرغم من أن المناسبة صادفت يوم جمعة، إلا أن المسؤولين أصرّوا على أن ينال الموظفون والطلاب يوم عطلة هو يوم السبت، وهو يوم دوام رسمي، وهي خطوة تعكس الإصرار الحكومي الشديد على الإحتفال باليوم الوطني والذي أقيمت له بعض الإحتفالات في المدن.

لا شك أن الخطوة جيدة، وإن كانت متأخرة جداً جداً؛ إذ لا توجد دولة على ظهر البسيطة إلا وجعلت الإحتفال بيومها أو عيدها الوطني مناسبة رسمية وشعبية تعقد لها المهرجانات والإحتفالات كل عام، بغية تأكيد الرابطة الوطنية، وتحقيق إجماع شعبي في ظلّ سطوة الإنتماءات النافرة والولاءات المتعددة.

والمملكة التي شعرت بالخلل من خلال الأجيال التي تربّت، وبحسب ما قاله الملك الحالي قبل مدّة من أن وطنيّة السعوديين (الأجيال الجديدة) خفيفة؛ أي ضعيفة، رأت أن البلاد آخذة في الإنزلاق الى الهاوية ليس العنف إلا أقلّ منتجاتها. منتج التعليم والتربية كما منتج الإعلام والسياسات الحكومية جعل أجيالاً تميل الى العنف، وتتناحر من أجل الهوية، وتسعى لتقزيم الدولة أو القضاء عليها.. هذا المنتج أجبر الأمراء على التفكير من جديد في وسائل لمّ الشمل (المحدود) لأن وحدة المجتمع كما يراها الكثيرون، ومن بينهم باحثون غربيون، تعني بروز ائتلاف جمعي وهوية وطنية تهدد سلطة آل سعود الذين اعتمدوا سياسة فرق تسد.

التيار السلفي الوهابي، الموغل في مناطقيته من جهة الزعامة والأفكار والمنشأ والمصالح، رأى أن الوطنية ضد الدين، وأخذ أتباعها يعيبون على من يخالفهم الرأي بأنه (ترابي) أي أنه يعبد التراب.. بينما هم لا يهتمون بالأرض، ولا بالحدود كمحدد للفوارق السياسية بين المجتمعات، وإنما الدين وحده. أي أن الرابطة الدينية ـ وهي لا تعني الإسلام بقدر ما تعني الرابطة المذهبية السلفية الوهابية ـ أقوى من الرابطة الوطنية الناشئة من العيش المشترك على أرض محددة وملتزمة بنظام سياسي وقانون محدد. أي أنها فوق المواطنة، بل لا معنى للمواطنة إذا كان الأساس هو الإختلاف الديني، ويمكن القول أنه حتى لو أصبحت السعودية بقضّها وقضيضها سلفية وهابية، فسينشأ حينها تمييز بين السلفي الملتزم وبين السلفي غير الملتزم، وبالتالي سيتعرض الكثيرون ـ وهم يتعرضون بالفعل ـ للتمييز، لا على أساس الهوية المذهبية فحسب، بل على أساس درجة اقترابهم والتزامهم بالفكرة والمعتقد.

يمكننا تفهّم ما يقوله الكثيرون من أن القومية (العربية على سبيل المثال) كأيديولوجيا تتناقض في جوانب منها وفي مؤدياتها مع الدين الإسلامي، وتتنافس معه على ساحة واحدة لتحقيق غايات مختلفة. ولكن الوهابية، بالرغم من رفضها هذا للقومية العربية، فإنها ملتزمة بشيء أكثر بغضاً وسوءً من القومية نفسها، وهو مناطقيتها النافرة، فمن يرفض القومية العربية من أجل إطار أوسع (الإسلام/ وليس المذهب) يفترض فيه أن يتخلّص مما دون الإطار الضيّق للقومية العربية والذي يشمل العرب وحدهم!

وإن الأيديولوجيا الوهابية التي لم تستطع ولن تستطيع توحيد مجتمعها، أو تتعايش مع التنوع الحاصل فيه، كيف لها أن توحّد المسلمين كأمّة في دولة واحدة، وهي تنطوي على أديان ومذاهب ولغات وأعراق وقوميات وأثنيات شتّى؟! وإن الأيديولوجيا التي لم تستطع الخروج من عنق زجاجة المناطقية والفئوية والتشدد المذهبي، كيف لها أن توحّد شعباً متنوعاً كما هو في المملكة، فضلاً عن أن تدّعي العمل والرغبة على توحيد الأمّة الإسلامية كلّها؟!

إن رفض (الوطنية) السعودية من قبل التيار السلفي، باعتبار انها لا تحمل مضامين إسلامية كافية، وأنها تحوي نوعاً من القطرية العنصرية، يراها البعض مجرد كلمة حق يراد بها باطل. فالممارسة الوهابية موغلة فيما هو أسوأ، ويكفي أن نشهد احتكارها وتشبّثها برأيها ومزاعمها واستعلاءها على الآخرين، وهذه كلها صفات تشكك فيمن يرفع راية المعاداة للوطنية.

إن العداوة لها تعني أن الوهابيين لا يؤمنون بالدولة الحديثة التي لا يستطيع كائن من كان أن يتخلّص منها، ونقصد بذلك الدولة القطرية، فقد أصبحت لازمة من لوازم القانون الدولي الذي لا يسمح لأحد أن يضمّ بلداً آخر، أو يوحده بالإكراه، أو يفرض معتقده عليه كما فعل الوهابيون قبل قيام الدولة القطرية نفسها في العالم العربي بعيد الحرب العالمية الأولى. وإن الرفض يعني فيما يعنيه، رفض الوهابيين لمبدأ المواطنة، ومبدأ المساواة في الحقوق والواجبات على أساس الرابطة السياسية والقانونية لكل قاطني المملكة. والرفض هذا يستهدف حماية المصالح، وإبقاء الوهابية والنجدية سيّدة على الجميع، يتمتع أتباعهما بمواطنة الدرجة الأولى، والآخرون درجات، حسب قربهم من المذهب والمنطقة التي ظهر منها.

سيقول الوهابيون أنهم يريدون توحيد الأمة كلها وليس القاطنين في حدود المملكة ولكن على أسس دينية صحيحة. والصحيح من الدين لا يوجد إلا لديهم ووفق تفسيراتهم. وإذا قيل لهم: هب أن الناس رفضوا رأيكم ومعتقدكم ورفضوا الدخول فيما تسمونه (الدين الصحيح) الذي تدعون إليه، فما هو الحل؟ الجواب يأتي هو بذل المزيد من الجهد والضغط، وإبقاء الشوكة بيد ذوي الإيمان والتقوى وحراس الفضيلة وقمع دابر المشركين في الداخل والخارج وعدم السماح لصوتهم بالعلو بل يقمعون ويهددون ويسجنون.

هذا هو الحل.

وإذا كانت الحكومة السعودية قد دعمت هذا التوجّه، فلم يسفر إلا عن التفتت والشروخ الإجتماعية الحادّة، فإن الوهابيين يرون بأن توحيد العالم الإسلامي يأتي أولا عبر قبولهم بالمذهب الوهابي، أي النسخة الصحيحة من الدين، والترجمة الأمينة للعقيدة.. ولكن الوهابية قليلة العدد، وتمثل أقلية جداً في العالم الإسلامي، وقد كان حلّهم الماضي ـ وقبل أن تقوم الدولة ـ يعتمد على الغزو والزحف وإدخال الناس في دين الله أفواجا! أي عبر احتلال أراضيهم وإفناء خصوصياتهم وطرد الحاكمين السابقين من أرض آبائهم وأجدادهم كما في الحجاز وغيره.

ولذلك قامت ثورة الإخوان الوهابية، فالملك أدرك أن زمن التوسع بحجة نشر المذهب الوهابي قد انتهى بقيام الدول القطرية تحت سلطات الإنتداب في البلدان المجاورة. ولكن الإخوان يريدون نشر الدين والتوسع، فاصطدم بهم وأفناهم، ولولا ذاك لانتهت الدولة السعودية نفسها.

بيد أن الأجيال الوهابية الجديدة سمح لها بنشر مذهبها سلماً في كل الأصقاع، ومولت السعودية نشر المذهب بمئات الملايين من الدولارات، وقد بدا هذا الحل وكأنه بديل عن التوسع الحربي؛ لكن الخلف الجديد لذلك السلف، أعاد سيرته الأولى، فانطلق من أفغانستان الى البوسنة الى الصومال الى الشيشان الى العراق والى السعودية نفسها حاملاً سلاحه داعياً الى الجهاد من أجل الدين. وما هو الدين سوى نشر المذهب والرؤية الوهابية الأحادية.

التناقض بين الرأي والممارسة حيال فكرة (الوطنية) من قبل الوهابيين، وقبول الدولة او انسجامها مع هذا الرأي، مع أنه رأي أقليّة، يؤدي الى تضعضع كيان الدولة، وتفتيت وحدتها، نظراً لغياب المشتركات بين مكونات المجتمع السعودي، سواء الدينية (نظراً لطغيان الحالة المذهبية التي أحياها التعصّب الوهابي) أو المدنية المبتناة على أسس سياسية سليمة، وكذلك بسبب العوامل الجغرافية والتاريخية المساعدة.

أشد ما تحتاجه المملكة اليوم الى لغة وثقافة وطنية، توفر الحدود الدنيا من الإنسجام الإجتماعي والتوافق المجتمعي والمصلحي، والمشاركة في إعادة بناء الدولة على أسس وطنية، لا نجدية ولا وهابية ولا غيرهما.

الصفحة السابقة