لا تطييب خواطر ولا مراجعة صادقة

مهرجان ملك نجد في عاصمة الحجاز

يوم كان وليّاً للعهد، وكانت الوفود (تؤمر) فتتقاطر عليه معلنة تأييدها للحكم القائم بوجه العنف والإرهاب الوهابي الذي ينتجه حلفاء النظام؛ جاء وفد الحجاز، وعزف سيمفونية الولاء للحكم الإسلامي الرشيد، وأثنى على العبقرية الفذّة التي تقف مدافعة عن مصالح البلاد والعباد بوجه المتطرفين والغلاة المصنعين نجدياً. وكان من عادة ولي العهد أن يكرر سيمفونية الخاصة به هو الآخر: أنتم ما عليكم خلاف، أنتم وآباؤكم معروفين بدعمكم، وإننا سنقضي على الإرهاب بإذن الله ولو طال عشرين سنة!

لكن السيمفونية إيّاه تمّ تعديلها أو تغييرها أمام الوفد الحجازي، فقد ردّ ولي العهد الجميل بالنكران، وتعرّض لأهالي مكّة والحجاز عامّة، بطريقة مثيرة للسخرية، حتى أن التلفزيون السعودي شطب مقطعاً من خطاب الأمير الخطيب المفوّه، يقول فيه أن بعضكم ـ والكلام موجه للوفد ـ جيدين وبعضكم، وأشار هنا بيده ساخراً، غير ذلك، فخرج الوفد ساخطاً من عنده، وراح بعض أعضائه يلوم البعض الآخر على إصرارهم غير المبرر للحضور أمام هكذا عقليات صغيرة.

الآن وقد أصبح عبدالله ملكاً، فقد توقع الكثيرون أن يكون الملك الجديد، الصفيق في نجديته والكاره لأهل الحجاز والحجازيين، أسوء من سلفه الملك فهد، الذي هندس بحق سياسة (تنجيد) مؤسسات الدولة و(توهيب) شعبها. خاصة وأن الملك الجديد لا تحيط به إلا العصبة النجدية التي تعلن على الملأ جهاراً نهاراً كرهها الى الحجاز، وخاصة آل البرمكي (التويجري).

لقد قرر مستشارو الملك في غمرة تلميعه الإعلامي وتسويقه للشعب إقامة حفل له في مكة المكرمة، بحيث تجدّد له البيعة! والولاء، واعتقد البعض أن الملك الجديد جاء ليضمّد الجراح الكثيرة، والإختراقات الفاضحة لحقوق أهل الحجاز، خاصة في العقدين الأخيرين.. بل أن بعض وجهاء الحجاز اعتقدوا بأن الملك جاء ليصلح خطأه الذي تفوّه به قبل بضعة أشهر، وليظهر نفسه ملكاً للجميع، وأنه بعكس ما يقال عنه من أنه شديد العصبية لنجدية والتي أدّت الى نفور الجمهور منه.

لقد تولّى الأمير عبد المجيد ـ أمير مكة ـ الإشراف على المهرجان الإحتفالي، كيف لا وهو يعدّ من أهم السواعد القريبة من الملك الجديد، وقد أقيم الإحتفال مساء 12/11/2005 وحضره جمهرة غفيرة من الأمراء والمسؤولين، ونقل بشكل مباشر في التلفزيون السعودي، وكأنه حدثٌ كوني الأهمية؛ الى حدّ أن البعض اعتقد بأن عبدالله سيعلن قرارات هامّة خلاله، أو يؤكد على قرارات اتخذت سابقاً كالإستمرار في الإصلاح السياسي، وإعطاء دور أكبر للمرأة في الحياة العامة، وإفساح المجال للحريات الدينية للحجازيين الذين احتلت أرضهم وطردوا من كل المناصب الدينية، وما أشبه.

بيد أن الإحتفال لم يحو أيّ من ذاك، وقد كان احتفالاً باهتاً شابه من النفاق الكثير، وقد أُسمع الملك آيات التعظيم والتبجيل، وأطلقت عليه الأوصاف المتعددة، فهو مليك الشعب، وحبيب الشعب، وهو المصلح الأول، وهو العظيم الباني. في حين أن الملك نفسه كان جلّ وقت حضوره متجهم الوجه، متعب، يكاد المرء يتوقع بين لحظة وأخرى أن ينام.

انطلق المهرجان، وغاب كثير من شخصيات الحجاز البارزة، والتي دُعيت لحضوره فرفضت، نكاية بما فعله الملك بهم وبأمثالهم أوّل الأمر، وقد غاب أهم أشراف الحجاز عنه، وقيل أن عبد المجيد طلب من بعض رجال الدين في الحجاز القاء كلمات فرفضوا. في الحفل ألقيت قصائد شعرية هزيلة، كما وأُلقيت كلمات عديدة لا تحوي سوى التمجيد. ولكن بعضها طالب بإقامة معرض تجاري أثناء الحج في مكة لجميع الدول الإسلامية بغية تنشيط التجارة البينية بين الدول الإسلامية؛ وألقت فتاة حجازية كلمة (مسجّلة!) طالبت فيها بحقوق المرأة كتلك التي كانت تتمتع بها في عهد الإسلام، واتهمت سيئي الفهم باستخدام الإسلام لتقييد الحريات العامة للمرأة.

انتهى المهرجان، الذي كان واضحاً أن وجهاء حجازيين كثر لم يحضروه، ولم يحدث ما توقعه البعض من أن الملك سيعلن خبراً هاماً يعيد بعض الحقوق المسلوبة لأهلها، أو يؤكد معاملة المواطنين بدرجة واحدة من المساواة بناء على حقوق المواطنة لا على أسس الإنتماءات المناطقية والمذهبية ومدى قربها للمنطقة النجدية المهيمنة على مفاصل الدولة. ومع أنه ـ وكما قيل ـ أن الملك أُسمع بطلب رفع المنع عن الحجازيين لخدمة البيت الحرام وإعادة المؤذنين والأئمة الحجازيين للمشاركة في إمامة الصلوات، إلا ان أحد مرافقيه الأمراء انتفض رافضاً ذلك لأنه يعيد ما أسماه بالصوفيين للحرم!

لا يبدو أن الملك الجديد حين قدم الى مكّة لتأكيد البيعة والولاء، أنه كان يفكر أصلاً بالواجب الملقى عليه، والذي يتضمن حقوق أهل الحجاز، فالبيعة بالمنظار السعودي لا تتضمن سوى (صفقة اليد) دون (ثمرة القلب)؛ والبيعة بالمنظار السعودي هي (واجب) على المواطن المحكوم ولا تستدعي حقاً له أو (واجباً على الحاكم). وعلى صعيد آخر، لا يظهر في الأفق تغييراً في سياسة النظام القائم أن هناك مراجعة في علاقة الدولة بشرائح المجتمع، أو بذل أي محاولة لتهدئة الخواطر والتخفيف من غلواء الوهابية التي سممت علاقة الدولة والعائلة المالكة بمعظم السكان.

ليس في نيّة الملك الجديد عرض أي مبادرة لا في السياسة ولا في الإجتماع؛ وليس أمامه سوى فترة وجيزة يبقى خلالها في الحكم الى أن تتخطفه يد المنون، فيأتي ملك آخر يسوم الشعب الخسف والعسف.

الصفحة السابقة