علماء السلفية في الحرب على الفن

شهدت السعودية طيلة شهر رمضان المبارك فصلاً جديداً من فصول الممانعة السلفية المتشددة حيال موضوع الفن، لتعيد الى الاذهان قصة الرفض الاجمالي لدى علماء المدرسة الوهابية في بدايات تشكّل الدولة السعودية لتدريس مادة الرسم في المدارس العامة.. فهناك نفور شبه مطلق لمسمى الفن، بصرف النظر عن طبيعته وأشكاله، حيث إرتبط الفن في الادراك السلفي العام بالابتذال والاباحية والانحلال الاخلاقي، وهو ما يجعل النظرة الدينية في الغالب إزاء هذا المجال الانساني.

وكانت أمانة مدينة الرياض أعلنت بالتنسيق مع إحدى الشركات الاهلية، عن الاعداد لاقامة أول عرض سينمائي حقيقي خلال أيام عيد الفطر، وذلك في قاعة سينمائية تابعة لإحدى الفنادق، وهي أول دار عرض سينمائي تحمل مواصفات دور العرض العالمية، والتي تبلغ طاقتها الاستيعابية 1400 شخص. وكانت الافلام المعروضة في السينما عبارة عن أفلام كرتون عالمية مدبلجة الى اللغة العربية، وقد اقتصرت العروض على النساء والاطفال فقط، حيث كان هناك 4 أفلام يومياً تعرض في السينما التي استمرت لمدة ثلاثة أيام العيد، وبحسب إحصائيات دار السينما فقد بلغ عدد الحضور ما يقرب من 5 آلاف طفل. ومن الملفت أن النساء الملتزمات اللواتي حضرن المسرح والسينما لم يبدين أي إعتراضات بخصوص الموسيقى التي تخللت العروض السينمائية. ونقل عن بعض الزائرين لدار السينما أنهم شاهدوا بعض الملتزمين السلفيين بين الحاضرين مصطحبين أبنائهم وبناتهم وزوجاتهم. وبالرغم من قلة المقاعد في المسرح الا أن ادارته سجّلت ما يقرب من ألف زائرة للمسرحية النسائية أي ضعف المقاعد المتوفرة.

مثّلت هذه الخطوة بداية لكسر التابو السلفي الذي يزدري الفن الانساني وإن كان ملتزماً، وإن ما يخشى منه التيار السلفي هو أن تفتح هذه البادرة الباب لتسرّب القيم والأفكار الاخرى، غير الاسلامية بالمفهوم السلفي، تماماً كما كان التبرير الايديولوجي لدى علماء الوهابية في رفض مادة الرسم وتعلّم اللغة الانجليزية والجغرافيا والتي أُعتبرت مدخلاً لنفوذ الكفار حيث جاء التحريم إستناداً على قاعدة سد الذرائع التي أسرف علماء السلفية في الاتكال عليها لرفض كل ماهو منافٍ لطبيعتهم المنغلقة ومتبنياتهم العقدية المتزمته.

ومن الملفت، أنه فيما لا تزال المقاهي العامة في أنحاء السعودية تعرض أفلام القنوات الفضائية العالمية عبر شاشات عرض كبيرة دون أن تحدث ردود فعل سلبية من التيار السلفي المتشدد، فجّر اعلان انشاء دار عرض سينمائي بصورة رسمية خلافاً بين الحكومة وحليفها الديني السلفي، الذي عاد لاشهار سلاح الفتاوى. حيث بدأت الاسئلة تتقاطر على مشايخ المدرسة السلفية من طبقات مختلفة تدور جميعها حول تحريم السينما والمسرح وكافة أشكال الفن بصرف النظر عن محتوياتها، إستناداً الى منقولات مبتسرة او على الاقل غير محايدة وصلت الى المشايخ والتي يراد منها إستصدار فتاوى تحريم.

ومن الملفت أن الخلاف حول العروض السينمائية فتح الباب على مصراعيه لمناقشة مجمل أشكال الفن، حتى بات التحريم هو الاصل في كل تعبيرات الفن وتمظهراته. فقد حمل البعض على قناة (المجد) الدينية السلفية المحافظة لدعوتها لمشاهدة السيرك الصيني، من خلال نقلها خبراً عن اتفاق أمانة مدينة الرياض مع مجموعة المعجل الترفيهية المكلّفة بالاعداد والتنظيم للاحتفالات بعيد الفطر المبارك، وقيامها بالاشراف على عروض قدّمت من فرق السيرك العالمية من الصين وكندا وأمريكا ومصر وسوريا وكذا فرقة الفنون الشعبية من منطقة جازان.

وقد تبرّع أحد المنشغلين بالسجال الافتائي بتوجيه سؤال لا يخلو من توجيه لأحد المشايخ، حول حكم ممارسة الألعاب والرياضات الخطرة كالسير على الحبل فوق إرتفاع شاهق والقفز من الارتفاعات العالية والبقاء مع الأفاعي في قفص. فجاء الجواب متطابقاً مع فحوى السؤال، أي بحرمة الاضرار بالبدن.

وجاءت خطبة مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ في تكفير ما أسماه (ألعاب السحر والفهلوة او ما يسمونه بالسيرك) وعدم جواز حضور مثل هذه المهرجانات وان (من حضرها فهو آثم) لتشعل جدلاً واسعاً في أوساط المجتمع السلفي، الذي وجد نفسه حائراً أمام فعاليات ترفيهية مسموح بها من قبل الحكومة فيما تصنّف في باب المحرمات لدى علماء المدرسة السلفية، وعلى رأسها المفتي.

وبصورة عامة، فقد كانت الايام الاخيرة من شهر رمضان المبارك وما تلاها مسرحاً لنشاط إفتائي محموم، ولا تكاد فتوى تصدر من عالم سلفي الا جاءت مدموغة بالحرمة والتكفير. فقد سئل عدد من العلماء السلفيين عن الحكم في إقامة مسرحية نسائية وسينما الاطفال التي أعلنت عن إقامتهما أمانة مدينة الرياض. حيث أجاب خمسة من العلماء السلفيين (بإرفاق أرقام هواتفهم الجوّالة)، بالاجماع بأنه لا يجوز الحضور، وبرروا ذلك بأن في ذلك إعانة على المنكر وأن من الواجب مناصحة المسؤولين والسعي في منعه، ويجب الانكار على من أقامها، وكذلك الذهاب الى أماكنها للإنكار وأن الحضور في مثل هذه الأماكن يعد أول خطوات الشيطان.

ومن غريب الفتاوى ماورد في رد أحد مشايخ السلفية ويدعى الشيخ عبد المحسن الزامل على سؤال حول عزم أمانة مدينة الرياض عن إقامة مسرحية نسائية بمشاركة ممثلات طاش وكذلك عن سينما للأطفال في العيد القادم (أي عيد الفطر المبارك) وهل يجوز حضور هذين المنشطين وهل يجوز دعم منظميهما؟ فأجاب بالنص: (لا يجوز حضورها ولا دعمها لما اشتملت عليه من المنكرات ثم المجاهرة بها منكر آخر خاصة يوم العيد الذي هو يوم شكر لله ولاحول ولا قوة الا بالله). فمما يلحظ في إجابة الشيخ الزامل أنه قد قرر سلفاً وجود منكرات في المسرحية قبل بدء عرضها، فقد أفتى دون الاطلاع على محتويات المسرحية وربما حتى عنوانها، ما لم يعدّ النساء من المنكرات فتلك قضية أخرى يجب التوقف عندها طويلاً، لأن المسرحية مخصصة في الاصل للنساء والاطفال فحسب.

من الملفت أن عدداً كبيراً من علماء ومشايخ السلفية قد شاركوا في الحملة على العروض السينمائية والمسرح وكذا السيرك، وقد تم استدراج عدد آخر من أقطاب المذهب الوهابي لتسجيل موقف شرعي داعم لتلك الحملة، ولكن الحكومة حاولت التقليل من شأن فتاوى رجال الدين السلفيين، بوصفهم مصنّفين على طبقة غير مؤهلة تأهيلاً علمياً وشرعياً كافياً بما يحرمهم من حق الافتاء، الذي هو إمتياز لطبقة العلماء الكبار ولمفتي المملكة بوجه خاص. وبالرغم من التقليل من شأن فتاوى رجال الدين من خارج المؤسسة الدينية الرسمية او حتى من خارج طبقة كبار علماء الدين الا أن أصداءها كانت واسعة بخلاف ماذكرته الصحافة الرسمية المحلية والخارجية.

إن مثل هذه الفتاوى الصادرة عن رجال الدين السلفيين تمثّل أحد تمظهرات الانقسام داخل المجتمع السلفي كما تعبّر عن شكل من أشكال الاحتجاج السياسي الضمني على سياسة الانفتاح التي تتبعها الدولة.

وهناك من يهمس في أوساط المجتمع السلفي بالقول أن ما يحجم العلماء الكبار عن البوح به يتحمله رجال الدين التابعين لهم بإحسان!!، ويمثّلون الصوت المكبوت للكبار الذين ينزعون الى مهادنة الحكام دفعاً لأخطار أكبر ومفاسد أعظم، وبالتالي فإن عملية تقاسم الادوار تبدو معقولة ومرضية داخل المجتمع السلفي، على الاقل قد تضع العلماء الكبار في موقف تفاوضي أفضل مع الحكومة، كما حصل في التسعينيات حين تم تشفيع المفتي لدى رموز التيار السلفي الناشط سياسياً من أجل وقف حملات التحريض على الحكومة، فكان في ذلك تعزيز لدور المؤسسة الدينية الرسمية وترسيخ لمقام المفتي، على أن العائلة المالكة التي تواجه تحديات خطيرة تتحفظ على السير بخطوات سريعة نحو الانفتاح والتحديث السياسي والاجتماعي والثقافي.

يلفت السجل الفقهي السلفي الى غياب تعريف واضح ومؤصل للفن، كما هو شأن موضوعات عديدة يتم إصدار الحكم بشأنها دون أن تكون مستندة على تعريفات دقيقة ومؤصّلة. وإذا كان الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فقد جاء تصوير الفن ضمن رؤية فكرية وفقهية مستمدة من الموروث النقلي ولا تستند على معايشة أو إطلاع مباشر أو حتى قراءة محايدة لهذا الحقل الانساني المتشعب والعميق في مدلولاته ورموزه ووسائله. ومع ذلك، فإن المدارس الفكرية الاسلامية الاخرى في بلدان عربية واسلامية قد أولت عناية خاصة بدراسة الفن والتنظير فيه وإعادة النظر في الاشكالات التي أثارها الفقهاء حول الفن، والخلفيات الفقهية التي إستندوا عليها في إصدار الاحكام. ولذلك، انشغل كثير من الفقهاء والمفكرّين الاسلاميين في التنظير لمسألة الفن، بما هو مجال للمعرفة أولاً وللترفيه ثانياً، وخلصوا الى أن الفن ينطوي على متعة ورسالة ولا يجوز الانحباس في الصورة النمطية السلبية التي تكونت في أذهان المتدينين المتشددين عن الفن. إذ أن قابليات الفن تجعل من تحويله الى وسيلة لاشاعة المعرفة والقيم الانسانية النبيلة أمراً مرجحاً على ما يعتقد من أنه وسيلة إغواء أو إفساد اخلاقي.

وينقل في تجربة الاخوان المسلمين في مصر في الاربعينيات تأسيس عبد الرحمن البنا شقيق مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا مسرحاً عرف بإسم (مسرح الاخوان المسلمين) وكان يقدّم أعمالاً عاطفية ورومانسية، وكانت أولى عروضه مسرحية (جميل بثينة) كأحد أبرز قصص الحب في التاريخ العربي، وقد شاركت المرأة في مسرح الاخوان وكان من بينهن كبار الممثلات المعروفات في مصر مثل فاطمة رشدي. وأكثر من ذلك، فقد تخرج من مسرح الاخوان عدد من أبرز الممثلين ورواد المسرح المصري مثل محمود المليجي ومحمد السبع وسراج منير وابراهيم الشامي وعبد المنعم مدبولي. بل ذكرت بعض الادبيات الخاصة لجماعة الاخوان المسلمين أن مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا حاول شخصياً دخول مجال السينما بمساعدة الفنان حسين صدقي.

وفي واقع الأمر، إن الموقف من الفن أخذ في التشدد مع انفجار الظاهرة الوهابية التي تم حملها للخارج على وقع إرتفاع أسعار النفط في السبعينيات متزامناً مع تفشي الانحلال في الوسط الفني بفعل انتشار الافلام السينمائية التجارية، الامر الذي أدى الى تصلّب الموقف السلفي من الفن بصورة عامة وسرى الموقف على كافة اشكاله بل وكل ما له صلة بالترفيه والترويح النفسي. وعلى أية حال، فقد شهد الفن المصري (السينما والمسرح بخاصة) تحوّلاً إيجابياً في عقد الثمانينات، حيث إختفت بصورة شبه كاملة المشاهد غير المحتشمة بفعل تنامي الالتزام الديني، الا أن الموقف السلفي الوهابي ظل متشدداً من كل ماله صلة بالفن دون تمييز.

وإذا كان علماء المدرسة السلفية في السعودية يخوضون في السابق معاركهم ضد الفن خارج حدود مناطق نفوذهم، فإنهم اليوم أمام ظاهرة جديدة تلقى دعماً شعبياً وسياسياً واعلامياً، وستكون عما قريب واقعاً قائماً، وبالتالي فإن موقف الرفض الاجمالي والشامل قد يضعهم في هامش حركة التغيير الداخلية، وهذا يملي عليهم إعادة النظر في التأسيسات الاصولية والقواعد الشرعية التي قامت عليها تلك الاحكام، كونها تتطلب إعادة تقييم دقيقة، إذ ليس كل الاحكام الصادرة عن السلف مؤسسة على رؤية وتعريف دقيق للموضوعات، بما في ذلك موضوعات مصنّفة في باب الحرمة القطعية كالموسيقى.

الصفحة السابقة