مفهوم التسامح (السلفي) في السعودية

محمد بن علي المحمود

الأصولي المتطرف ليس دائماً واضحاً؛ فقد يمارس التقية في تعاطيه مع هذا الإرهاب الصارخ، إلا أنه يبدو أكثر وضوحاً في تعاطيه مع المسائل الاجتماعية التي تتقاطع مع اهتماماته الايديولوجية الخاصة، والتي كثيراً ما تكون ميادين للصراع الفكري المعلن ؛

يقع التسامح - كمفهوم وكممارسة - على الحدود الفاصلة بين القيم المتفق عليها إنسانيا والقيم محل النزاع. ليس هو مشتركا انسانيا، فليس على كل حال، وفي كل سياق، يكون الاتفاق على أن التسامح قيمة مثلى، بحيث تتضافر الفواعل الاجتماعية لتعزيزها. بل ربما كان اللاتسامح، هو القيمة المصرح بها في بعض المجتمعات، والمعلن عنها بكل فخر واعتزاز.

لاشك أننا - كعرب - نحمل إرثا ليس رضيع تسامح. ولهذا، فليس غريبا أن تتشرذم الهموم العربية قبل الواقع العربي. الواقع العربي/ الإسلامي مفهوم في ظل سياق الثقافة الموروثة. لقد قال جدنا العربي منذ القدم: «ولكنا سنبدأ ظالمينا»، و«من لا يظلم الناس يظلم»، وكما قال الآخر عن قومه يعيرهم بالسلام؛ بأنهم «ليسوا من الشر في شيء وإن هانا»، وكما قالت العرب جمعاء، في زمنها العروبي المتوحش: «رهبوت خير من رحموت»، أي المرهوب خير من المرحوم.

إذن، فالتسامح في سياق التوحش، ليس قيمة اجتماعية؛ لها من المكانة الاعتبارية مالها في سياق التأنسن، كما في الحضارة المعاصرة. التسامح في سياق التوحش يتم تفسيره - وربما إنتاجه إلى حد بعيد - على أنه ضعف ووهن وخنوع واستسلام؛ لأن القيمة مرتبطة بأنساق السياق العام «التوحش». ولهذا لم يقبل العربي القديم السلام - كتعبير عملي عن التسامح - إلا في الاستثناء النادر، الذي تمليه حالة الضعف غالبا؛ لأن السياق كان سياق حرب وتظالم!، وليس مجرد ظلم. وربما لازال السلام العربي المعلن، مقرونا بهذا الاستثناء، أي أنه ليس سلاما نابعا من كون السلام والتسامح قيمة في وعي الإنسان العربي.

لكن، ليس هذا التأزم المشكل هو المهم الآن، وإنما المهم - هنا - طريقة التعاطي مع مفهوم التسامح، خاصة بعد ان اصبح هذا المفهوم في هذا السياق المدني المعاصر قيمة عليا؛ تفرضها ثقافة العصر «الغريبة»، أو قوانين العصر الأممية «وهي غربية أيضا». لا يهم هنا، هل هذا التنافس في استحضار قيمة التسامح، نابع من قناعة، أم هو مجرد تكتيك مرحلي، تمارس كافة الخطابات، والخطاب الأصولي خاصة. وإنما المهم: كيف يفهم التسامح لدينا، وما هي التصورات التطبيقية له، عند من يدعو إليه؟.

يتموضع التسامح - مفهوما وممارسة - في سياقات ثلاثة، تختلف قيمته في كل منها باختلاف السياق، أو على نحو أدق - يصبح التسامح «من حيث هو مصطلح عام، يطلق على التجاوز والصفح والقبول بالآخر المختلف» تسامحا؛ باعتبار السياق، وليس باعتبار مجرد الممارسة الواقعية معزولة عن علائقها في الاجتماعي المتعين. هذه السياقات المؤثرة في المفهوم هي ما يلي:

1- التسامح في القوانين والأنظمة، سواء من حيث صياغتها التشريعية كنص قانوني معلن، أو من حيث آليات التنفيذ بمختلف مستوياتها. وواضح أن القانون المتسامح مع الانحراف، والذي يطال المجتمع الذي يحتكم إلى هذا القانون؛ ليحميه من العدوان «الانحراف» ليس قانونا متسامحا بحال، حتى وإن تراءى للبعض أن خفض سقف العقوبات الجنائية تسامحا.

المنحرف «المجرم» الخارج على القانون، هو محارب للسلام الاجتماعي الذي يتغياه المجتمع. هذا المجتمع الذي يثبت إيمانه بالتسامح من خلال خضوعه للقيود القانونية، وتضحيته بجزء من حريته - وهي أغلى القيم - في سبيل الحصول على الضمانة الأمنية للتسامح. وبهذا ندرك أن التسامح مع أعداء التسامح ليس من التسامح، بل هو من قبيل العجز والوهن، أو من قبيل الجهل بديناميكية الحراك الاجتماعي وشروطها.

ومع أننا ندرك أن كثيرا من الأنظمة التشريعية في الغرب لم يقد إليها المنطق العلمي وحده، بل كان للسياق الثقافي «وبتأثير من الديني - المسيحي» المتلبس بالعاطفي، والآتي بدوره من التموجات الحادة للتجربة التاريخية الغربية، دوره العميق في بلورة هذا التشريع، فإن حيز التسامح الذي تحظى به الضحية «ضحية الخروج على القانون أو المتوقع أن تكون كذلك» لازال حيزا محدودا؛ مقارنة بالتسامح الفج «مع أن ليس تسامحا إلا من خلال تعينه معزولا عن علائقه» الذي تتعاطى به تلك القوانين مع الجاني، والذي أصبح في كثير من تشريعاتها هو الضحية محل العناية!.

تسامح القانون ليس بترهله، وإنما يكون بقدرته على حفظ أكبر قدر ممكن من السلام الاجتماعي الذي يتغياه الأبرياء جميعا، والذي يمكن أن يفسده عليهم أعداء التسامح وأعداء البراءة في كل مكان وزمان. ومن هنا، فليس من حق من لا يؤمن بالتسامح والسلام الاجتماعي، ولا يخضع لشروط تموضعهما في الواقع، ان يتمتع بمظلتهما؛ بدعوى أن التسامح سياق عام يستوعب الجميع!.

إن فهم التسامح على أنه الصفح لمجرد الصفح؛ بعيدا عن حسابات العوائد السوسيو - ثقافية، والتي تتفاعل جدليا مع هذا الصفح، هو فهم مغلوط على أحسن الأحوال، وطرح غير بريء - للأسف - في أكثر الأحيان، واستثمار لتناقضات الاجتماعي - إبان تأزمه - في أسوأ الأحوال.

من هنا ندرك تهافت الطرح السلفي الذي كان ينادي بالتسامح مع المتطرف، والقبول به كجزء من بنية المجتمع المتسامح، مع أن هذا المتطرف يصرح بأنه يسعى لإخضاع المجتمع لمنطقه الخاص «اللامتسامح» ولو بحد السلاح. ولاشك أن هذا الطرح طرح غير برئ، خاصة عندما يأتي من قبل أحد المنتمين إلى الجذر السلفي «المتعصب»، والذي يتفق معهم في أصول المقالات؛ لأنه ليس إلا جزءا من التكتيك العام، الذي يمارسه التطرف في مراوحته بين الإقدام والإحجام.

وتختلط الأوراق كثيرا في هذه المسألة؛ لغياب التفكير المنطقي على المستوى الجماهيري؛ إذ تسعى فصائل الأصوليات المتطرفة؛ لاستغلال التقدير الاجتماعي الراهن لمفهوم التسامح، وذلك بطرح لا منطقي، مفضوح علميا، إلا أن ضحاياه كثير، خاصة في الأوساط التي لا تزال تحسن الظن بالأخطبوط الأصولي السلفي. هذه الأصوليات المتطرفة، تنادي - في سياق هذه المرحلة الراهنة خاصة - بأن التسامح لا بد أن يشملها؛ بوصفها تنوعا، وإلا فهو ليس تسامحا، بل هو - بمنطقها - ظلم وكيل بمكيالين.. إلخ.

بل إن هذه الأصوليات المتطرفة، وجماهيرها الغوغانية المخدوعة، لا تستنكف أن تجعل من مظاهر التسامح، ومن الدلائل عليه قانونيا، أن يكون التسامح مع الإرهابي الخارجي «الزرقاوي» ومع شيطان الإرهاب «ابن لادن». إنها تعلن - دعائيا - أن المتسامح الحق لابد أن يرضى بالـ«زرقاوية» والـ«بن لادنية»؛ ليصبح حقيقا بوصف المتسامح، مع أنها بالمقابل، لا يمكن أن ترضى - مثلا - بالتسامح مع الـ«صهيونية الشارونية»، مع أنهما ظاهرتا عنف وإرهاب، ولا فرق.

الأصولي المتطرف ليس دائما واضحا؛ فقد يمارس التقية في تعاطيه مع هذا الإرهاب الصارخ، إلا أنه يبدو أكثر وضوحا في تعاطيه مع المسائل الاجتماعية التي تتقاطع مع اهتماماته الايديولوجية الخاصة، والتي كثيرا ما تكون ميادين للصراع الفكري المعلن؛ لأنها من مساحات التسامح الفكري اجتماعيا، أي من قبل المجتمع المتسامح!، لا من قبل المتطرف الأصولي.

ولأن كثيرا من المسائل التي تقع في صلب الخطاب الأصولي، من حيث الاهتمام العام، ليست من الأصول، بل هي من فروع الفروع، ومن تفاصيل التفاصيل، فإنها - تبعا لذلك - تبقى رهينة الانزياحات السوسيو - ثقافية. ومن ثم، فهي ذات مرونة عالية، في خضوعها لمنطق التطور والتغير والتحول. وهذا ما يجعل الأصولي يراهن عليها في كثير من حراكه، لأنها تقع تحت طائلة التغيير من جهة، كما أنها - في الغالب - محاور المفاصلة الإيديولوجية من جهة أخرى.

ولعل من أبرز الأمثلة - وهي هنا أمثلة فحسب - على هذه المسائل، ما يضعه السلفي في دوائر البدع والمحدثات. فالبدعة - كما يراها ويفهمها؛ من حيث المفهوم العام؛ ومن حيث توصيف الحالة المتعينة - يجب أن تكون في دائرة الممنوع قانونيا والمحرم ثقافيا. أما أن يتم تركها للتوصيف الخاص - من حيث التصور العام للبدعة، ومن حيث كونها بدعة من عدمه - فهذا مالا يقبل به السلفي التقليدي أبدا. أي أنه يدعو لقسر الجميع على تصوره الخاص، ثم يدعو للتسامح مع هذه الدعوة للقسر والإجبار!.

فمثلا - وهو مجرد مثال واقعي - لو قال المتسامح للسلفي التقليدي: أنت لك تصور خاص عن البدعة، وأنت ترى هذا الشيء بدعة، إذن فلا تفعله، وأنت حر في هذا «وهذا موقف متسامح» لكن لا تحاول أن تجعل هذه الرؤية الخاصة بك ملزمة لي. طبعا؛ لن يقبل السلفي - أبدا - بهذا المنطق المتسامح، إذ لابد من قسر الآخر على رؤيته طوعا أو كرها. ومن المفارقات الغريبة، أنه - بعد ذلك - يريد أن يشمله مفهوم التسامح، بل ويرى من الظلم له ولمنظومته أن يوصف - مجرد وصف - بعدم التسامح.

ومثال آخر: موضوع الحجاب. وهو الموضوع الذي سبقت الإشارة إليه، وأن في الجزئية المتعلقة بـ«تغطية الوجه» - وجوباً - قولان. وقد دعوت إلى التسامح مع كلا القولين؛ من حيث التطبيق السلوكي. أي أن المرأة تأخذ بأي قول من القولين شاءت، ولا تثريب عليها في ذلك. لكن، أحدهم - من إحدى تيارات التطرف والغلو - قال لي: أنت تدعو إلى التسامح والقبول بالآخر المختلف، فلماذا تحاول تفنيد الرأي الذي يرى وجوب تغطية الوجه، ويسعى لفرضه على الناس؟ لماذا لا تكون متسامحا؛ فتقبل هذا التيار؟

منطقيا، لا يمكن أن أكون متسامحا وأقبل الرأي الذي لا يقبل الرأي الآخر، ويحاول محوه من خارطة التشريع والتطبيق. نحن - في هذه المسألة - لسنا أمام اتجاهين فحسب؛ كما يظن الكثير، بل نحن أمام ثلاثة اتجاهات: فالأول: يرى جواز التغطية وجواز الكشف. وهذا واضح في تسامحه، سواء كان فكرا أو كان ممارسة. والثاني: يرى وجوب تغطية الوجه، وأن الكشف حرام. ولكنه - مع ذلك - يرى أن من يتبع الفتوى الأخرى «التي تجيز الكشف» فهو في دائرة الالتزام الشرعي؛ ما دام مقتنعا بفتوى الجواز. وهذا أيضا - داخل في مفهوم التسامح.

أما الاتجاه الثالث: فهو الاتجاه الذي يرى وجوب تغطية الوجه، ويمارسه رأياً وسلوكا. لكنه - ولاحظ الفرق بينه وبين الثاني مع اتفاقهما في أصل الفتوى - يرى وجوب قسر الجميع على هذه الفتوى ولو بقانون عام؛ لأنها - في رأيه - هي الفتوى المعتبرة شرعا، وأن الفتوى التي تجيز كشف الوجه لا قيمة لها ولاحظ لها من الصحة الاستدلالية؛ حتى وإن قال بها جماهير العلماء!، وأن من يصرح بهذه الفتوى، فهو من دعاة الانحلال والرذيلة و...إلخ.

واضح هنا أن هذا الاتجاه الثالث لا يقبل أن يتبع كل فريق «مذهب فقهي» فتواه، بل يرى حرمة اتباع الفتوى الأخرى المخالفة لفتواه؛ حتى وإن قال بها جماهير العلماء من القدماء والمعاصرين. وهذا موقف متعصب غير متسامح، يجب أن يفضح تعصبه وتطرفه المقيت دون مجاملة من أي نوع. والتسامح - لأي مبرر كان - مع هذا الاتجاه اللامتسامح، هو الطريق الممهد إلى التطرف والإرهاب.

أصحاب الاتجاه الأول «أكثر الاتجاهات تسامحا» يقبلون - بوحي من تسامحهم الشرعي - الاتجاه الثاني؛ شرط أن يبقى في دائرة الثاني، ولا ينتقل منها إلى دائرة الثالث الرافض للأول. الثاني - مع أنه يأخذ بالرأي المتشدد - يقبل أن يكون الفكر والسلوك محل اجتهاد. أما الثالث، فلا يرى إلا نفسه، ويسعى لإجبار الجميع على ما يرى من سبيل الرشاد المدعى؛ لأنه فرعوني الرؤية!. وهذا ما يعلنه صراحة في كل مناسبة. vvv

إن مفهوم التسامح لديه المرونة الكافية لقبول التشدد في إطاره؛ شرط أن لا يكون في إيديولوجية هذا المتشدد أن يعمم - بالقوة - هذا التشدد، أي أن يلغي التسامح. وفي سياق هذا التسامح؛ من حقه أن يدعو إلى هذا التشدد الخاص كخيار فردي، ولكن ليس من حقه أن يدعو إليه كمشروع قانوني لإلزام الآخرين؛ لأن الآخرين - بكل بساطة - لا يرون ما يراه المتشدد المتعنت.

الخيارات الفردية من حق كل إنسان؛ ما دام لا يرى إلزام الآخرين بها. ولو أن أحدا - كمثال، وهو مثال له وقائع! - اختار العيش في الأرياف النائية، أو الصحاري القاحلة، واعتزال الظاهرة المدنية جزئيا أو كليا، فلا يمكن أن يدرج هذا في أعداء التسامح؛ مهما كان إيغاله في التشدد، إلا إذا كان يفرض هذا التشدد في محيطه الأسري، حتى ولو كانت أسرته الخاصة؛ لأن أفراد المجتمع مسؤولية مؤسسات المجتمع بالدرجة الأولى، وليس العائل الأسري إلا نائبا عنهم في ذلك، فحقهم الفردي لا يسقطه اختيار العائل ولو كان أبا.

إن هذه الأمثلة التي ذكرناها لا يمكن حمايتها إلا بقانون متسامح، قانون يمايز بين الاختيار الفردي المخصص، والاختيار الفردي المعمم. والأنظمة القانونية تكون متسامحة بقدر ما تحفظ لكل فرد خياراته الخاصة، تلك الخيارات التي لا تتعارض مع خيارات الآخرين. وما مناداة البعض بأن يكون التسامح مع المتطرف كما التسامح مع المتسامح، إلا محاولة «نفاقية» لإجهاض مظاهر الحرية النسبية التي يمثلها التسامح القانوني، بالتغلغل من نوافذ هذه الحرية ذاتها. v

إن هذه الأمثلة التي ذكرناها لا يمكن حمايتها إلا بقانون متسامح، قانون يمايز بين الاختيار الفردي المخصص، والاختيار الفردي المعمم. والأنظمة القانونية تكون متسامحة بقدر ما تحفظ لكل فرد خياراته الخاصة، تلك الخيارات التي لا تتعارض مع خيارات الآخرين. وما مناداة البعض بأن يكون التسامح مع المتطرف كما التسامح مع المتسامح، إلا محاولة «نفاقية» لإجهاض مظاهر الحرية النسبية التي يمثلها التسامح القانوني، بالتغلغل من نوافذ هذه الحرية ذاتها.

ومع أن الوضوح جلي في هذه النقطة المحورية؛ إلا أن الإسلاموي المتطرف يحاول الالتفاف عليها، خاصة في حال ترسخها في الاجتماعي، وذلك بخلطه بين مسائل الحقوق الإنسانية العامة (من ناحية الحرص على مشاعر جماعة ما؛ حتى ولو كانت نابعة من تعصب تجاه الطائفة الأخرى، كما يرى!) والحق الإنساني للفرد. هذا في حال ترسخها. أما في حال عدم ترسخها - كقيمة يصعب نفيها اجتماعياً أو قانونياً - فإنها يواجهها مباشرة؛ بوصفها ضلالاً أو كفراً.

وكثيراً ما يتحدث السلفي التقليدي الأصولي، خلال رده على من يقوم بنقد الأفكار والممارسات المتطرفة التي تنتمي إلى ذات الإيديولوجية التي ينتمي إليها، عن ما يسميه: (التطرف المضاد)، وأحياناً يخرج عن الكناية إلى الصراحة، فيسميه: (التطرف العلماني المضاد). وذلك للإيحاء بأن التطرف - ومن ثم الإرهاب - ليس إفرازاً أصولياً خالصاً؛ بقدر ما هو جزء من طبيعة الحراك الاجتماعي. ولكل مذهب واتجاه وطائفة نصيب من ذلك.

عندما يحاول الفاعل الثقافي أن يقارب الممارسة الأصولية في مظاهرها المتطرفة؛ يتشنج الأصولي، ويحتج على ذلك، بأن هذا نوع من الاضطهاد والإرهاب الموجه إليه. وهو بهذا يحاول أن يحتمي بالموقف الحكومي والاجتماعي المتشدد تجاه الإرهاب؛ لإسكات الأصوات الناقدة؛ مع أن الإرهاب جزء من مكونات السلفية التي كانت ولا تزال تتغنى بقتل المعارضين؛ بوصفهم زنادقة ومارقين، وربما بوصفهم عقلانيين!.

السلفي الأصولي في عملية الالتفاف هذه، يحاول أن يوحي بأن ممارسته الفكرية التي تتغيا التضليل والتكفير، لست إلا نموذجاً لما يقوم به الآخر العقلاني، من نقد للأفكار السلفية الأصولية المتطرفة. ومن ثم - وفق ما يدعيه - فالكل متطرف، ويجب أن تبقى المنظومة السلفية التقليدية دون مراجعة لمفرداتها الحادة؛ بدعوى أن مثل هذا النقد، يؤجج مشاعر السلفي التقليدي، ويقوده إلى الإرهاب. أي أن الناقد العقلاني - كما يدعي السلفي - هو الذي يؤجج الإرهاب بنقد الإرهاب!.

هذه الدعاوى الأصولية يمكن أن يكون لها وجه منطقي؛ لو كانت المنظومة السلفية - في أساسها - خالية من مفردات التبديع والتضليل والتكفير على امتداد تاريخها الطويل. لو أن التطرف والتعصب الذي اتخمت به المراجع السلفية، لم يكن له وجود قبل أن يكتشف العالم الإسلامي - والغربي أيضاً - خطرها العظيم على السلام العالمي، ويسعى للكف من غلوائها، لكان من الممكن أن تصح هذه الدعوى، وإن تعذرت منطقياً؛ لأن النقد لا يكون إلا لموجود، ولو بالسلب. وهذا ما تفتقر إليه الحجة السلفية الواهية.

بعض التيارات، ولكونها تتمتع بكثرة نسبية، ترى أن من حقها منع بقية التيارات والأطياف الاجتماعية من التعبير عن آرائها المذهبية أو الطائفية. هي ترى أن هذا من حقها؛ لأنها لا تتوافق مع الآراء المطروحة، أو مع الفاعل الثقافي فيها، أو لا ترتاح إلى ذلك أمزجتها الخاصة.

ومن التدليس الذي تشحن به السلفية التقليدية عواطف الجماهير الغوغائية أنها تدعي أن مجرد ترك الآخر المختلف يعبر عن فكرته - بصرف النظر عن صحتها من صوابها؛ ما دام أنها لا تدعو إلى عنف في مضمونها - فيه اعتداء عظيم عليها، وهضم مقصود لحقوقها. ولا أدري ما هي هذه الحقوق التي تدعيها، إلا أن يكون مجرد تعبير الآخر عن آرائه الخاصة يجرح مشاعرها؛ لمجرد كونه مختلفاً في مرجعيته، وليس لأن آراءه تمس التراث أو الواقع السلفي بشيء.

المشكلة الحقيقية أن العامي الجماهيري الذي تمت تربيته على التلقي السلبي للأفكار، دون مساءلتها، يتلقى مثل هذه الدعاوى العريضة وهذا التيه الأعمى بحماس كبير، ويظن أن الخطر العقائدي، أصبح قريباً منه؛ لمجرد أن شريكه في الوطن أراد أن يكون شريكه في الفاعلية الثقافية أيضاً، مع احترام الجميع للجميع.

هذا الجماهيري الساذج، أصبح بعد عملية التدجين الطويلة والمكثفة، وبعد كل هذا الشحن الايديولوجي الهائج، في اضطراب خطير تجاه مسائل حيوية في الحراك الاجتماعي، وهي مسائل الحقوق المدنية، لا تتوقف عند حدود المعطى المادي، بل تتجاوزه إلى الحقوق المعنوية، ومن أهمها: حق التعبير المسؤول، وحق التمثيل المرجعي ذي البعد الاعتباري، وذلك فيما هو متاح للجميع.

إنني لا زلت أذكر أن أحد رموز التيار الصحوي - في بعده السلفي المتزمت - واجه مطالبة بعض الطوائف بحق التمثيل - مجرد مطالبة!، ومجرد تمثيل! - في المرجعيات العلمية الشرعية، بانفعال غير مبرر؛ زاعماً أن هذه المطالبة، إنما هي من قبيل (تحكم الأقلية في الأكثرية)، وأن هذا الوضع غير مشروع في قوانين الأمم كافة. يقول هذا، وكأن هذه الأقلية طالبت بأن تفرض مرجعيتها ورؤاها ورموزها على الأكثرية، وهذا ما لم يكن وارداً، بل كانت مجرد طلب للشراكة المتواضعة؛ بمقدار الشراكة الاجتماعية.

وكما هو متوقع؛ فقد تعالت الصيحات الصحوية المؤدلجة - ومن ورائها جماهير المخدوعين، بترديد هذه الدعوى الحركية التي تفتقد لأبسط بدهيات الرؤية المنطقية، فضلاً عن الرؤية الواقعية. إن هذا الرمز الصحوي لا يحتكم إلى العقل؛ لأن العقل ليس من مرجعياته، بل هو إلى عداوته أقرب، ولا يحتكم - كما يظهر أو يتظاهر - إلى العرف الدولي؛ لأنه يرى أن الاحتكام إلى ذلك كفر بالله وردة عن الإسلام؛ لأنه - كما يزعم - احتكام إلى غير ما أنزل الله!.

السلفية التقليدية تزعم أنها ذات منهج متسامح، وأن طرحها المعلن - اليوم - أصبح خالياً من مفردات التضليل والتكفير، وهي تحرص - تبعاً للظرفين الراهنين: المحلي والعالمي - على أن تبدو كمن يدعو إلى نبذ العنف والتشنيع على التطرف والإرهاب. كل هذا مقبول؛ بشرط أن يكون هذا ما تعتقده من جملة عقائدها، وأن يتفق مع ما تنشره في محاضنها الخاصة، ولا يكون سلوكاً ميكافيلياً؛ لمجرد الخروج من المأزق الراهن الذي يحاصرها.

على السلفية التقليدية، وما يتبعها من أصوليات حركية، أن تؤكد على أن حالتها الراهنة المعلنة، إنما هي تراجع حقيقي عن المفردات السلفية التاريخية ذات المنحى الإقصائي. لا يكفي مجرد السكوت المؤقت. المنظومة السلفية - كتوصيف واقعي - مليئة بالتبديع والتضليل والتكفير، فهل تجرؤ رموز السلفية والأصولية المعاصرة أن تتبرأ - صراحة وبوضوح - من كل ما ورد على هذه الصورة في التراث السلفي، ولو كان القائل به من الرموز الكبار والمرجعيات العظام؟!.

لا أظن السلفية التقليدية، ولا الأصوليات الحركية قادرة على ذلك، فهي بحكم تركيبتها التقليدية، لا يمكن أن تتنكر للتقليد كممارسة، وإلا فقدت شرعية وجودها عند معتنقيها. التبديع والتضليل والتكفير، سلوك عقائدي، وممارسة شرعية في نظر السلفيات التقليدية قديمها وحديثها. وهو - كما يدعون - نوع من الاحتساب، لا ترى خطأه، وإنما تكف عن ممارسة - أحياناً - تبعاً لمتغيرات الظروف.

ولأن مناهجنا التربوية الشرعية ولدت على عين السلفي الأصولي، فقد واجهت الإشكال نفسه الذي تواجهه الآن خارج المناهج. لقد غيّرت وبدّلت في المفردات الحادة، لكنها بقيت رهينة التركيبة السلفية التقليدية في عمومها.

بل إن الأمر في المناهج التربوية أسوأ من ذلك، فقد بقي اللاتسامح في صلب المقررات الشرعية. ففي مقر التوحيد للصف الأول الثانوي ص66 و67 وبعدما ذكر حال مشركي قريش في الجاهلية قال: «فهؤلاء المشركون هم سلف الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وكل من نفى عن الله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أسماء الله وصفاته. وبئس السلف لبئس الخلف».

أي تسامح سلفي هذا؟. الأشاعرة الذين يمثلون أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من أهل السنة - فضلاً عن غيرهم - وقامت على أكتافهم علوم الإسلام، يوصفون في منهجنا التربوي بأنهم خلف للمشركين!!. نقول هذا في مناهجنا، ثم بعد ذلك نتحدث - بكل جهل وبكل صلف - عن براءة المناهج التربوية!.

ويقول مقرر التفسير للصف الثاني الثانوي ص31: «ليس للمسلمين أخوة في أي شعار - مهما كان - إلا في العقيدة، ولا نلتقي إلا على العقيدة، ففيها نحب ونوالي، وعلى ضدها نتبرأ ونعادي، وعليها نسالم، وعليها نحارب». أظن أن النص واضح في نفيه أية رابطة غير رابطة العقيدة، وليس المراد هنا بالعقيدة الإسلام في عمومه، بل العقيدة السلفية على وجه الخصوص؛ بدليل تصريحهم بانحراف غير السلفين عن مسار العقيدة الصحيحة، ولا يمكن أن يجعلوا الأخوة محصورة في عقيدة يرونها غير صحيحة، بل ومأخوذة عن المشركين.

ولا يقل وضوحاً عن النصين السابقين في دلالتهما على الإقصاء والنفي والتكفير ومعاداة الآخر قولهم في مقرر التفسير للصف الثاني الثانوي ص32 «سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عمن يقول: القرآن مخلوق؟، فقال: كافر. فقيل: بِمَ كفرته؟ قال بآيات من كتاب الله (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم) والقرآن من علم الله، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر». ولك أن تتصور الطالب في الصف الثاني الثانوي وهو يتلقى مثل هذا الكلام، مشيعاً بالتبجيل والتقديس للقائل!.

وفي مقرر التفسير للصف الثالث المتوسط، يقول المؤلف - في رحلة طويلة يأخذ بها الطالب في دهاليز الولاء والبراء -: «موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين من أمور العقائد التي اتفقت عليها شرائع الأنبياء». ويقول في المقرر نفسه ص68: «تحريم موالاة الكفار أو مناصرتهم أو معاونتهم أو مودتهم بأي وجه من الوجوه، ومن والاهم فقد حاد عن طريق الحق» تأمل قوله: بأي وجه من الوجوه!. ومثل هذه الجمل كثيرة في هذا المقرر خاصة.

بل إن في مقرر التفسير للصف الأول الثانوي ما يكشف حقيقة المنهج السلفي في تقعيده لقاعدة السلم والحرب، يقول: «لا يجوز مهادنة الأعداء إلا عند الضرورة». ويحاول مقرر التفسير للصف الثالث المتوسط أن يشحن الطالب بروح العداء عن طريق تعميم العداوة وأبديتها مع غير المسلمين، فيقول ص71: «لم يظفر الكفار بالمسلمين في زمن إلا وساموهم سوء العذاب وما يفعل بالمسلمين في هذا العصر خير شاهد على ذلك».

هذا جزء مما تصرح به السلفيات في سياق مؤسساتي مراقب، فما بالك بغيره مما لا يصل إلى درجة عمومية المناهج، فتكون الرقابة عليه أقل؟!. إن الذي يجعل التسامح مع هذه السلفيات تسامحاً سلبياً، وليس من قبيل التسامح الإيجابي الذي يقود إلى السلام الاجتماعي، أن هذه المفردات الإقصائية التوصيفية، ليست مجرد أفكار عابرة، وإنما هي مشروع نظري للممارسة السلوكية الاجتماعية التي على السلفي أن ينتهجها. التسامح مع هذه المفردات السلفية يعني - في المنظور الاجتماعي - التصويب لها، ومنحها فرصة النمو والانتشار، أي منهج الإقصاء والتعصب والتطرف فرصة القضاء على مساحات التسامح.

وهذا على عكس الأفكار المنفتحة على الآخر، إذ هي مهما بالغت في درجة الانفتاح، ومهما كان سلوكها (الليبرالي) متطرفاً - إن أمكن تطرف الليبرالي الحق! - فهي لا تدعو إلى عنف سلوكي في المتعين الاجتماعي، سواء كان ذلك العنف قولاً أو فعلاً.

هذا الفرق بين السلفية والليبرالية، هو الذي يحدد حدود التسامح في السياقات الفكرية عامة. ولا مجال للخلط بين الرؤية الليبرالية المتسامحة - بطبعها - مع جميع الأطياف الاجتماعية، والرؤية السلفية التي تقوم على المفاصلة في الديني، ومن ثم في السلوك الاجتماعي. تطرف هذا غير تطرف ذاك، الفرق في المآلات واضح، إلا لمن لا يريد أن يراه!.

3- التسامح في سياق الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية. والتسامح في هذا السياق داخل في الثقافي؛ بوصف هذه الأعراف والعادات والتقاليد من مكونات الثقافي العام. وهذا يدل على صعوبة عزل الفكر عن السلوك، ولو كان هذا العزل لغاية المقاربة النظرية.

لكن، ومع صعوبة العزل، إلا أن السلوكيات العامة في المجتمع هي الأحق أن يمارس التسامح من خلالها؛ إنها ليست كالقوانين المدنية التي يجب أن تكون صارمة في حفظها للحقوق، ومن ثم للسلام الاجتماعي، وليست كالفكر في قدرة اللامتسامح على الدخول من خلالها باعتبار حق التفكير والتعبير.

استخدام قنوات الثقافة العامة - بما فيها الفنون كافة - في الترسيخ لمفهوم التسامح ضروري؛ لكي يترسخ التسامح كسلوك اجتماعي. التسامح الاجتماعي الذي نتغياه يعني بكل وضوح: أن الولاء للقواسم المشتركة بيننا، ولكل التمتع بخصوصياته الفكرية والاجتماعية بما لا يضر - ضرراً متحققاً - بغيره. ومن يحاول تأطير الجميع داخل رؤيته الخاصة فمكانه خارج الشراكة الاجتماعية.

صحيفة الرياض، 10،3/11/2005م

الصفحة السابقة