قرار الشيخ عائض القرني بالإنسحاب من الحياة العامة

إنطواء تكتيكي أم إحتجاج سلمي؟

في خطوة مفاجئة، قرر الداعية المعروف الشيخ عائض القرني بعد ربع قرن من النشاط الدعوي المتواصل إعتزال الحياة العامة وآثر ملازمة بيته كرد فعل على حملة التجريح والاذى التي تحدث عنها بمرارة في قصيدة إستعاض بها عن البوح بكلام مباشر.. قرار بلا شك مفاجىء بالنسبة لشخص إعتاد الظهور الاعلامي بكثافة وحظي بمكانة بارزة وسط جمهور عريض في نجد وخارجها. وبطبيعة الحال، لم يكن إعلان الشيخ القرني بالانسحاب أقل حظوة من صموده تحت الاضواء، فقد أثار بقراره إهتماماً إعلامياً كثيفاً وسمح لحلفائه وخصومه أن يفصحوا عن مواقفهم ومشاعرهم، والتي تعكس إنطباعاً من نوع أن الشيخ القرني يندرج في قائمة الشخصيات المثيرة للجدل، ليس بسبب احتلاله لموقع متقدم في ميدان الدعوة فحسب والذي أثار منافسيه من الدعاة الذين ينظرون اليه بعين ساخطة، كيف وقد سحب حزمة ضوء تفوق قدراته العلمية بحسب وجهة نظرهم ولعل ذلك ما جلب الحسد المتعارف بين الدعاة والعلماء كما يخبر عن ذلك كتاب (تحاسد العلماء).

وفي سياق آخر، فإن الشيخ القرني دخل في سباق طويل مع النخبة السلفية التي تحوّلت من جبهة المصادمة مع السلطة في التسعينيات الى جبهة التحالف على خلفية الاحساس بالخطر المشترك بين السلطة والتيار السلفي بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر وتفجّر ظاهرة العنف، حيث أصبح الشيخ القرني أحد الاقطاب البارزة في مشروع إعادة بناء الكيانية الدينية السلفية عن طريق تقديم رؤى دينية سلفية معتدلة وهكذا الدخول في برنامج المناصحة الهادف الى إحتواء الجماعات المنفلته من عقال السلفية التقليدية والتي إختارت العنف المسلّح وسيلة تغيير حاسمة للمجتمع والدولة.

كان الشيخ القرني عضواً في لجنة المناصحة، وقد يكون الشخصية السلفية الوحيدة التي إختارت العلنية في الانخراط في برنامج المناصحة، من خلال عقد جلسات نقاش مع العناصر المتورطة في اعمال العنف داخل المعتقلات أو من خلال اجراء المقابلات المتلفزة مع رموز الجماعات المسلحة أو حتى عبر البرامج الدعوية التي بثها التلفزيون السعودي خلال الفترة الماضية، فضلاً عن مشاركته في الندوات الفكرية والقاء عشرات الخطب الموجّهة لخدمة أغراض مشروع المناصحة.

إن ما يميز تجربة الشيخ القرني أنها اشتملت على نقلات فكرية تعتبر بحسب بعض المقاييس راديكالية، على الاقل من منظورها الاجتماعي، فبين التشدد في مسألة حجاب المرأة الى مرونة تنطوي على تمرد على الاجماع السلفي القائم على اعتبار نقاب المرأة، أي تغطية الوجه والكفين واجباً شرعياً. فقد أثار ظهور الشيخ القرني في الفيلم الوثائقي الذي أعدّته السينمائية السعودية هيفاء المنصور بعنوان (نساء بلا ظل) وتراجعه عن فتواه حول حجاب المرأة زوبعة انتقاد داخل الوسط السلفي، فقد تخلى عن فتوى قديمة له كان يشنّع فيها على المرأة السافرة اي التي تكشف عن وجهها، فيما أجاز بصورة أو بأخرى في هذا الفيلم عن جواز كشف الوجه للمرأة، الامر الذي دفع به لكتابة توضيح حول تصريحاته في الفيلم من أجل التخفيف من وطأة الحملة النقدية القاسية، الا أن الحملة تواصلت وبقي منافسوه من رجال الدين متمسكين بتلك الراية التي تجاوزت كما تنبىء قصيدة الشيخ القرني الاخيرة بأن القضية لم تكن تراجعاً عن موقف من حجاب المرأة فحسب بل تخللتها إتهامات وتجريح وتشويه، خصوصاً من أشخاص مقرّبة منه وعلى صلة وثيقة وحميمية معه، في إشارة الى رفاق الدرب من دعاة ورجال دين سلفيين.

لاشك أن مواقفه المرنة تمثل تحدياً له كداعية ينتمي الى خط ايديولوجي يتسم بالصرامة، وقد تعرّضه تلك المواقف الى إنتقادات تصل في احيان الى حد التشكيك في النزاهة الدينية إن لم يكن التبديع وفي حالات ما التكفير. مع الفات الانتباه هنا الى أن الشيخ القرني خاض معارك شرسة في التسعينيات وكان مصدر الألق الذي حظي به أنه إصطدم بشخصية ممقوته مثل الأمير خالد الفيصل أمير عسير الذي إستعمل معه أسلحة غير تقليدية في التجاذبات السياسية وصلت الى حد إتهامه بقضايا أخلاقية وعلى إثرها تم تشكيل أول محكمة لرجال الدين بغرض مقاضاة الشيخ القرني في التهمة الاخلاقية الموجّهة اليه. ولكن الامير خالد الفيصل أخفق في كسر شوكة الشيخ القرني، الذي إختار المواجهة وبقي متمسكاً بمواقفه الاعتراضية من الدولة واصلاح العلاقة بين العائلة المالكة والمؤسسة الدينية.

إن قسوة الاحساس بالخسارة وسط المحيط الطبيعي لرجل الدين تبدو مفهومة، ولا يمكن تعويض الخسارة بحال من خلال بناء قاعدة شعبية خارج المجال الحيوي الذي نشأ وبرز فيه، وخصوصاً بالنسبة للشيخ القرني الذي كان حريصاً على صلته الوثيقة بجمهوره وتعزيز قاعدته الاجتماعية من خلال النشاط الدعوي الكثيف، فعزيمته لا تفتر في الابقاء على حضوره الشعبي والاعلامي.. إن هجوم منافسيه كان موجهاً لضرب مصدر قوته، ومركز تطلعه، وفوق ذلك أن تلك الحملة أحدثت هزّة عنيفة لموقعيته في وسط علماء الدين، فالشيخ كما تنبىء نشاطاته وأحاديثه وتصريحاته يحمل بداخله مشروعاً قيادياً ويسعى لتسنم موقع في الهرم الديني الرسمي.

إن أشد ما أصابه في تلك الحملة هو الاتصالات التي تلقاها من مفتي المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ووزير الشؤون الاسلامية وعدد من كبار الدعاة البارزين والذين طالبوه بلهجة تقريعية بالتراجع عن فتواه، والتي اضطر بعدها الى إصدار بيان تراجع فيه عن فتوى جواز كشف المرأة لوجهها وبرر ماقاله بأن (الفيلم كان موجهاً الى الغرب)!.

لقد خسر الشيخ القرني من بيانه هذا، وربح منافسوه، فلم يضع البيان حداً لحملة النقد التي بقيت متواصلة حتى لحظة انسحابه، فقد لحقته وصمة (الردّة) منذ تلك الفتوى القاتلة، التي انتهت به الى اعلان الانسحاب في صحيفة المدينة بعد ما تضايق من كثرة المعاتبات التي وصلته من (أخوته الدعاة).

حملت القصيدة الاخيرة التي نظمها الشيخ القرني من الاشارات والدلالات التي تكشف جانباً من معاناته، فقد تحدث عن مسقط رأسه في محافظة بلقرن جنوب السعودية والتي أُخرج منها عنوة في التسعينيات بقرار من الامير خالد الفيصل، والذي تسبب في إصابته بجرح الحنين الذي لا يندمل. يعيد القرني استذكار أيام الصبى والطفولة في محاولة لبعث المدفون من ذكرياته الماضية ولكنه في الوقت نفسه يهيء لحياته الجديدة ليرسم أجواء عالم يعزم على الانتقال اليه.. يعقد في قصيدته مقارنة بين صفاء الماضي وكدر الحاضر بكل الآلام التي أصابته من رفاقه الذين أشبعوه تقريعاً وتوبيخاً وألحقوا الاذى به عبر الهاتف او الرسائل المكتوبة. وفي لهجة تهكمية واضحة فإنه يوجه الثناء لأعدائه الذين أسالوا دموعه بألسنة لاذعة، حتى أوصلوه الى قراره باعتزالهم، ولم يبق لديه من يجلب السلوة له ويستحق الرفقة سوى الكتاب، في إشارة الى فصمه للرابطة وفقدانه الثقة بينه وبين فاق الدرب، كما ينبيء عن ذلك بيت من قصيدته الاخيرة:

ما في الخيامِ أخو وجدٍ نطارِحُه

حديثَ نجدٍ ولا خلٌ يصافينا

لقد تفاوتت ردود الفعل حول قرار الشيخ القرني باعتزال الناس ولزوم بيته وكتبه، فالبعض اعتبره محاولة لانقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن بلغت جماهيرية الشيخ أوجها، وحتى لا يخسر رصيده الشعبي قرر الانسحاب في لحظة قوته التي قد لا تتكرر، سيما وأن حملة الانتقادات التي يشنّها منافسوه عليه قد تؤدي الى تآكل رصيده الشعبي وربما الرسمي أيضاً.

بعض آخر يرى بأنه فقد شعبيته وجماهيريته بسبب مواقفه المتذبذبة الاخيرة في مسائل خلافية مثل غطاء وجه المرأة وقيادة المرأة للسيارة، رغم تراجعه عن آرائه هذه تحت ضغط كبار العلماء والدعاة، ولكن تراجعه أضرّ كثيراً بمصداقيته، ولربما لو اختار الصمود في وجه التيار السلفي المتشدد لكان أجدى وأجدر به لأن ينال مكانة متميزة، ولكنه إختار رفع الراية البيضاء والانزواء بعيداً عن الحلبة.

بعض آخر يشعر بخسارة غياب الشيخ القرني الذي كان يؤمّل منه المشاركة بفعالية عالية في التخفيف من تأثير الاتجاهات المتشددة داخل المجتمع السلفي، وإن تذبذاته قد تكون ناجمة عن جبروت التيار المتشدد، وشعور الشيخ القرني بالوحدة في الحلبة مع غياب مناصرين له من طبقة المثقفين السلفيين فضلاً عن غيرهم، وبالتالي فهو غير محمود في أهل دعوته وغير مرضي عنه من غيرهم.

وهناك من يعتقد بأن قرار الانسحاب جاء كنتيجة طبيعية لجملة أخطاء إقترفها الشيخ القرني دون حساب لأبعادها، ومنها ظهوره في هيئة المحقق في المقابلات التي أجريت مع مشايخ الجماعات المسلّحة، والتي أكلت من الرصيد الشعبي للشيخ القرني، فقد لعب دوراً غير متقن على الاطلاق في هذا البرنامج الذي غاب فيه دور الشيخ وحضر فيه دور المحقق الأمني.

هناك من ينظر الى قرار الانسحاب بأنه فرصة فريدة للشيخ القرني لاجراء مراجعة لمتبنياته الفكرية والعودة الى الساحة بقدر أكبر من الشجاعة والتحرر من ضغوط التيار المتشدد، على أن تكون عودته مؤسسة على رؤية جديدة لذاته وللآخر ولشبكة العلاقات والتحالفات الداخلية بما يخرجه من أسر الاطر التقليدية التي تحول دون منحه مساحة لحرية الحركة والتفكير والتعبير.. مراجعة الذات مرحلة تبدو صعبة للشيخ القرني فهو لا يزال إبن بيئته الدينية السلفية المتشددة، وقد تكون عودته الى الحياة العامة مؤسسة على ثمن من نوع آخر، أي الرجوع الى سيرته الاولى، فندماؤه ومجالسوه ليسوا من صنف آخر غير الذين غادرهم، وغير الذين سيتواصلون معه، وغير الذين يؤثرون عليه..

يبقى السبب شبه المعلن في قصيدة الشيخ القرني، وهو حملة التقريع المتواصلة التي شنّها عليه العلماء وكبار الدعاة بالمكالمات ورسائل الجوال والفاكسات او ارسال موفدين شخصيين اليه أو التسليم باليد رسائل مكتوبة، والتي إشتملت على عبارات توبيخ وتحذير من الخرج عن الملة ومخالفة الجماعة وإثارة الفتنة.. لقد بلغ من قسوة تلك الحملة، أنه شعر بالغربة والوحدة ولم يعد يجد في نجد من يعدّه أخاً يأنس اليه ولا خليل يشعر معه بالصفاء.

وسواء كان قراراً تكتيكاً أم إستراتيجياً، فإن الشيخ القرني يمثل نموذج الداعية المثير للجدل داخل مجتمع ديني هرمي ينبذ الاختلاف بداخله، فإما التسليم الطوعي لعقيدة الجماعة أو الخروج عنها حتى في أبسط الاجتهادات غير المضّرة بالنظام العقدي، وإذا كان إنسحاب الشيخ القرني لم يترافق مع موجة أحكام بالتكفير والبديع وإن طاله بعضها ولكن دون ضجيج، فإن الانسحاب بذاته يعكس غياب التسامح داخل المدرسة السلفية الصارمة.. على أن الشيخ القرني الذي لا يبدو أنه قد أحرق مراكب العودة، قد يعود ثانية بعد أن تهدأ عاصفة الانتقادات.

القصيدة الأخيرة

يا أرضَ بالقرن مازلنا محبينا

لا البعدُ ينسي ولا الأعذارُ تثنينا

فسائلي الغيمَ كم أسقى معاطفَنا

وسائلي البرقَ كم أحيا مغانينا

لي فيكِ يا دوحةَ الأمجادِ ملحمةٌ

محفورةٌ في كتابٍ من ليالينا

يوم الصبا كقميصِ الخزِ ألبسُه

والروضُ اخضرُ مملوءٌ رياحينا

والرملُ لوحي وأقلامي غصونُ ندا

والربعُ يمطرهُ القمري تلاحينا

يا ارضَ بالقرن لو فتشتِ في خَلَدي

وجدتِ فيه أخاديدًا وتأبينا

جرحٌ من الحبِ يا بالقرن ما اندملتْ

أطرافُهُ باتَ يُقصينا ويُدنينا

قد زرتُ بعدكِ يا بالقرن كلَّ حمى

وطرتُ في الجو حتى جئتُ برلينا

فما رضيتُ سواكم في الهوى بدلاً

لأنني عاشقٌ دنياك والدينا

رأيتُ باريسَ في جلبابِ راهبةٍ

شمطاءَ قد بلغتْ في العمرِ سبعينا

وأنتِ في ريَعَان العمرِ زاهيةٌ

في ميعةِ الحسن إشراقاً وتكوينا

أتيتُ واشنطنًا لا طاب مربعُها

رأيتُ ساحتَها في الضيقِ سجِّينا

فلا نسيمَ كأرضي إذ يُصبِّحنا

ولا ندى الطلِ في الوادي يمسِّينا

ارضُ السنابلِ لا ارضَ القنابلِ يا

سِحْرَ الوجودِ ويا حرزَ المحبينا

يا روضةً طالما هزَّتْ معاطفَها

كأنها بتباشيرٍ تحيينا

وربوةٍ كم درجنا في ملاعبها

عهدُ الطفولة يزهو من أمانينا

والأربعون على خدي مروِّعةٌ

يا ليت أني أهادي سنَّ عشرينا

والغبنُ يكتب في أضلاعنا خطبًا

مدربُ القلف يعطينا تمارينا

يقتاتُ من لحمنا غصْبًا ويجلُدنا

ويستقي دَمَنا زورًا ويظمينا

وإن نظَمْنا بيوتَ الشعرِ نمدحه

يظل بالشَّعَر المفتولِ يلوينا

إذا اقترحنا على أيامنا طلبًا

ذقنا المنايا التي تطوي أمانينا

آهٍ على قهوةٍ سمراءَ نشربُها

في غرفةٍ من ضميمِ الطيِن تؤوينا

سِجادُها بحصيرِ النخلِ ننسجه

وريشُها بنقي الصوفِ يدفينا

بعنا الهمومَ بدنيانا صيارفةً

لسنا جباةً وما كنا مرابينا

لم ندّخِرْ قوتَنا بخلاً ليومِ غدٍ

لكل يومٍ طعامٌ سوف يأتينا

ونملأُ الضيفَ ترحابًا لننسيَهُ

ما غابَ من أهله عنه ويُنسينا

أمام غرفتِنا يجري الغديرُ على

صوتِ الحمامِ بأبياتٍ يُغنينا

قلوبُ أصحابِنا طُهْرٌ وسيرتُهم

مثلُ الزلالِ الذي في القيظِ يروينا

أيامَ لا كدلكٍ يعوي بحارتنا

ولا البواري تدوّي في نوادينا

واليومَ أموالُنا باتتْ تؤرقُنا

همًا وأولادُنا بالغمِّ تؤذينا

إذا رفعنا بآياتٍ عقيرتَنا

قالوا: غلوٌ وهذا خالفَ الدينا

وإن همسنا بحبٍّ في مجالِسنا

قالوا: يدبر أعمالاً لتردينا

وإن لبسنا بشوتًا عرَّضوا سفهًا

بأننا نزدهي فيها مرائينا

وإن تقشَّف منا صادقٌ ورِعٌ

قالوا: يخادِعُنا عمْدًا ويغوينا

إذا صمتنا اقضَّ الصمتُ مضجعَهم

وإن نطقنا شربنا كأسَنا طينا

إذا أجبْنا على الجوالِ أمطَرَنا

بالسبِّ مَنْ كان نغليه ويغلينا

وإن أبينا أتتنا من رسائله

مثل السعيرِ على الرمضاء تشوينا

قلنا لهم هذه الأشياءُ حلَّلَها

أبو حنيفة بل سُقنا البراهينا

قالوا: خرقتَ لنا الإجماعَ في شُبَهٍ

مِن رأيِك الفجِّ بالنكراءِ تأتينا

وإن ضحكنا أضافونا بسخرية

صفراءَ تملؤنا غبنًا وتذوينا

وإن بكينا لظلوا شامتين بنا

كأنهم وحدَهُم صاروا موازينا

تفردوا بخطايانا وأشغلَهُم

عن ذكرِ سُوئِهُمُ المُرْدي مساوينا

ويفرحون إذا زلّ النعالُ بنا

ويهزؤون بمن يروي معالينا

ولا يرون سوى أغلاطِنا أبدًا

فنقدُهُمْ صارَ في أهوائهم دينا

وشتْمُهُمْ هو محضُ النصحِ عندهمُ

وردُّنا هو زورٌ من مغاوينا

لحومُهُم عندنا مسمومةٌ أبدًا

ولحمُنا صارَ تحت النقدِ سردينا

فنحن عند الحداثيين قافلةٌ

من الخوارج نقفو النهجَ تالينا

أما الغلاةُ فإنا عند شيخهمو

لسنا ثقاتٍ وما كنّا موامينا

ونحن في شرعِهِ خُنَّا عقيدتَنا

من بائعين مبادينا وشارينا

حتى السياسيّ مرتابٌ ولو حلفتْ

لنا ملائكةٌ جاؤوا مزكينا

كم مولَعٍ بخلافي لو أقولُ له

هذا النهارُ لقالَ الليلُ يضوينا

إذا طلبنا جليسًا لا يوافقُنا

واديه ليس على قربٍ بوادينا

فتاجرٌ لاهثٌ ألهتْهُ ثروتُه

عبدَ الدراهمِ قد عادى المساكينا

وجاهلٌ كافرٌ بالحرفِ ما بصُرَت

عيناه سِفْرًا وما أمَّ الدواوينا

ومعْجَبٌ صَلِفٌ زاهٍ بمنصبه

تواضعٌ منه فضلاً أن يماشينا

فالآن حلَّ لنا هجرُ الجميعِ وفي

لزومِ منزِلِنا غُنْمٌ يواسينا

نصاحبُ الكُتُبَ الصفراءَ نلْثِمُها

نشكو لها صخَبَ الدنيا فتشكينا

تضمُّنا من لهيبِ الهجرِ تمطِرُنا

بالحبِّ تُضحِكُنا طورًا وتُبْكينا

ما في الخيامِ أخو وجدٍ نطارِحُه

حديثَ نجدٍ ولا خلٌ يصافينا

فالزمْ فديتُك بيتًا أنتَ تسكُنُه

واصمتْ فكلُّ البرايا أصبحوا عينا

شكرًا لكم أيها الأعداءُ فابتهجوا

صارت عداوتُكُم تينًا وزيتونا

علَّمتمونا طِلابَ المجدِ فانطلقتْ

بنا المطامحُ تهدينا وتعلينا

جزاكم اللهُ خيرًا إذْ بكم صلحت

أخطاؤنا واستَفَقْنا من معاصينا

دلَلْتُمونا على زلاتِنا كرمًا

وغيرُكُم بِسُكارِ المدحِ يُعمينا

فسامِحونا إذا سالتْ مدامعُنا

من لذعِ أسياطِكُم كنتم مصيبينا

تجاوزوا عن زفيرٍ من جوانِحنا

حلمًا على زفراتٍ في حواشينا

ثناءُ أحبابِنا قد عاقَ همتَنا

ولومُ حسادِنا أذكى مواضينا

ماذا لقينا من الدنيا وعشرتِها

عشاقُها نحنُ وهي الدهرَ تقلينا

على مصائبها ناحتْ مواجعُنا

ومن نكائدِها ذابتْ مآقينا

تغتالُنا بدواهيها وتنحرُنا

صارتْ مخالبُها فينا سكاكينا

والآن في البيتِ لا خِلٌّ نُسَرُّ به

إلا الكتابُ يناجينا ويشجينا

الصفحة السابقة