الهوية الضائعة في خطاب الملك عبدالله

''الهوية'' مفردة جديدة في القاموس السعودي الشعبي والرسمي؛ تستخدم في أحيان كثيرة كيفما كان؛ فهي لم تُعرّف من جهة المعنى، ولا من جهة الغاية، ولا كيفية تحصيلها. ولا أدلك على ذلك جملة معبّرة وردت في كلمة الملك عبدالله في حفل الإستقبال السنوي الذي أقامه للشخصيات الإسلامية ورؤساء بعثات الحج يوم 11 يناير الجاري حيث ورد ما نصّه: (أن معاني الوحدة والمساواة والشورى والهوية والتراحم التي تتمثل في مبادئ وتعاليم الاسلام السامية والتي تجسدها فريضة الحج كفيلة ببعث القوى الإيمانية الكامنة).

عبدالله يلقي كلمته

لنلق نظرة على موقع كلمة (الهوية) من النصّ ولنتساءل عن مدى انسجامها مع أخواتها من جهة المعنى والغاية (الوحدة، المساواة، التراحم، والشورى). لقد جاءت مفردة (الهوية) غير معرّفة، فهل كان يقصد (الهوية الدينية) أي الإنتماء للإسلام، أو بالأدق الإنتماء الى المشتركات العقدية بين المسلمين الحاضرين في مجلس الملك؟ إن كان هذا هو المقصود، فكان يجب أن تحدد الهوية المعنيّة. وضمن هذا السياق، فإن وجود المفردة إياها لا معنى كثير له، لأن المفردات الأربع الأخرى من وحدة ومساواة وشورى وتراحم تستبطن وجود ما هو أكثر من الهوية المشتركة بين المسلمين، بل أن تلك المفردات تؤسس نفسها على وجود هوية مسلّم بها.

نحسب أن كاتب كلمة الملك عبدالله قد أقحم مفردة (الهوية) اعتباطاً، لأن المفردة نفسها لا تتناغم مع المفردات الدينية العميقة التي تحويها المفردات الاخرى؛ إنها مفردة حديثة، وسياسية، وجدلية أيضاً. ولعل كاتب كلمة الملك لم يكن يفهم معنى الهوية، كما لم يدرك احتمالية وجود معنى سلبي لها، بعكس المفردات الأخرى، فهناك هوية مناطقية وهوية قبلية وهوية طائفية وهوية أثنية وهوية كلية عامة وهوية وطنية خاصة، وهوية قومية، وهوية قطرية.. هناك هويات متعددة بعضها يدخل في خانة السلبية ضمن دائرة النص الذي توضع فيه، وضمن معطيات التحليل المتعلق ببلد من البلدان.

ولعلنا نميل الى حقيقة أن مفردة الهوية في المملكة ليست فقط جديدة، بل هي مفردة مجهولة المعنى، وقد جرى استخدامها في السنوات الأخيرة، سنوات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، على نحو مشتت. لقد قيل أن أزمة العنف وأزمة التطرف واحتمالية انهيار الدولة السعودية وتفككها الى دويلات أخرى، يعود الى ضعف الهوية الوطنية، وضعف الآصرة الوطنية، وعدم قناعة الكثيرين بالوحدة القائمة كونها تخدم فئة مناطقية ومذهبية معينة. يومها، جرى التأكيد على الوحدة، ودخلت الى القاموس السعودي السياسية مفردتا (الهوية، والوطنية). ولعل كاتب كلمة الملك يعكس إدراكاً أكبر بين أمراء العائلة المالكة بأن ضعف الهوية الوطنية يؤدي الى تدخلات أجنبية والى تدمير اسس الدولة. أبعد من هذا الأمر غير متوافر. فليس هناك وعي كاف بكلا المفردتين، وليس هناك تنظير بشأن الهوية السعودية.

ولأن المملكة دولة محافظة، تعتمد على الهوية الدينية/ الطائفية كمحدد أساس للإنتماءات، وعلى أساسه تقاس درجة الولاء السياسي، كما تقاس المنافع والأضرار.. فإن الحديث عن الهوية جاء عاماً بلا خلفيات. هناك نقص إسمه هوية! إذن فلتكن تلك الهوية (الضائعة) ضالة الدولة، ويكون إيجادها في الحديث عنها، لا في البحث حولها، وتصنيعها، ومن ثم ترسيخها.

حديث المسؤولين عن الوطنية وعن الهوية حديث الجاهل بهما، غير المدرك لأهميتهما، وغير الواعي لوسائل تعزيزهما.. وهذا ما عكسه ورود مفردة الهوية النافر بين مفردات أخرى في كلمة الملك عبدالله الأخيرة.

هناك جملة من الإشكالات العقدية والثقافية والسياسية والإجتماعية تمنع تطور مفهوم الهوية على الأرض، كما على صفحات الجرائد والكتب، وأيضاً كما في مناهج التربية الوطنية التي تحوي ما يناقض التربية وما يناقض الوطنية وما يناقض الهوية ايضاً.

هناك شروط لقيام هوية وطنية في المملكة لا يبحثها صانع القرار السياسي لأنه في الأساس غير مدرك بأسس الموضوع وأهميته على نحو كاف؛ كما أنه غير مدرك لحجم التنازلات التي يتوجب عليه تقديمها في سبيل تحقيق تلك الغاية الخطيرة.

(الرابطة الإيمانية) عبارة جاءت في خطاب الملك عبدالله باعتبارها هوية كل المسلمين وهي (الهوية الحقيقية) التي لا يجب التخلّي عنها. إن هذه الرابطة أو الهوية، هي رابطة وهوية عليا، لا أحد يستطيع نزعها، ونشك في قدرة أحد التخلي عنها، باعتبارها هوية معطاة، تلازم الشخص حتى وفاته، وحتى لو أعلن تخليه عنها، اللهم إلا إذا أعلن تخليه عن الإسلام نفسه؛ ومع هذا ستبقى تلك الهوية تلازمه حتى مع رفضه، لأن المهم هو في تصنيف (الآخر) ورؤيته لا القناعة التي يحملها الأشخاص بالضرورة.

لكن هل وجود مثل هذه الرابطة والهوية، يلغي الهويات الأقل: ونقصد الهوية الوطنية أو القومية أو القبلية؟ هذا ما تقول به الرؤية السلفية الوهابية في المملكة؛ فهي ترى تعارضاً بين هوية الإسلام والهوية الوطنية، وبالتالي لا قيمة للأخيرة، بل هي هوية ضلال. ولهذا ربما لا يهتم السلفيون ـ الجهاديون على الأقل ـ بالهويات الوطنية، ولا بدولهم، ويعملون من أجل هدف طوباوي امبراطوري، وهو تحقيق دولة إسلامية واحدة، يكون المذهب (الوهابية) الأيديولوجيا الموحدة لها.

مشكلة الهوية الوطنية في السعودية أنها تواجه بالهوية الإسلامية الواسعة، حيث تعيش معظم الأمة الدينية خارج حدود المملكة، كما أنها تواجه بهويات فرعية مذهبية ومناطقية وقبلية، وبالتالي لم يعد الكيان السعودي جاذباً لا لهؤلاء ولا أولئك. وزيادة على ذلك فإن العائلة المالكة والنخبة النجدية لم تكن تتفهم الحاجة الى هوية مشتركة لعموم المواطنين، بل أرادت فرض هوية مناطقية ومذهبية جاءت بالوبال على الدولة وعلى المجتمع وعلى العائلة المالكة نفسها.

ما تحتاجه المملكة لبناء هويتها الوطنية كثير؛ والخطوة الأولى نحو ذلك يجب أن تتم بدراسة واقع المجتمع السعودي أولاً، ومن ثمّ البحث عن ثقافة مشتركة، وتاسيس مصالح مشتركة، وإقحام المواطن في الشأن العام ليكون جزء من آلية صنع القرار.

الصفحة السابقة