نحن والآخر

تأسيس لحوارية داخلية

أفرط المتفاؤلون في الحديث عن تقنيات اللقاء الوطني الخامس للحوار الفكري الذي جرى في أبها في الثالث عشر من ديسمبر تحت عنوان (نحن والآخر: رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الثقافات العالمية)، والتي حظيت بتغطية إعلامية مباشرة. موقف المتفائلين جاء كرد فعل على أستار التعتم التي أسدلت في اللقاءات الأربعة الماضية. إن التغطية الاعلامية المباشرة أنعشت آمال كثير من المؤمنين بالحوار في مستويات متنوعة لجهة صناعة فضاء إيجابي لانبثاث ثقافة حوارية قائمة على معرفة خارطة التنوع الثقافي الداخلي والقبول بمبدأ التحاور كوسيلة للتعارف والتوافق.

إن ما يلفت إليه عنوان اللقاء الخامس أنه ينزع الى تقديم رؤية حيال التعامل مع الثقافات العالمية، في تعبير عن حاجات تقع خارج المجال الحواري للمجتمع، أي الانطلاق من مرحلة متقدمة تفترض ضمنياً أن أشواطاً من الحوار الداخلي قد قطعت كيما يصل الى نقطة الحوار مع الآخر ـ العالمي. إن هذا التجاوز في العملية الحوارية بلا شك يعيد للذهن تارة أخرى أزمة أيديولوجية الدولة مع الآخرـ العالمي، من خلال اختزال العملية الحوارية المعبّر عنها في ثنائية (نحن والآخر): نحن ـ المسلم والآخر ـ غير المسلم. فقد أريد من الحوار بحسب تصريح رئيس اللقاء الوطني الشيخ صالح الحصين (تقديم رؤية موحدة تجاه الآخر) وهي كما يجلّيها أمين عام مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني فيصل بن عبدالرحمن بن معمر (تحديد الموقف الفكري والمعرفي والمجتمعي في التعامل مع الآخر. هذا الآخر المتنوع الثقافات، الحافل بالرؤى والأفكار التي قد تتفق أو تتباين مع ثقافتنا وهويتنا الإسلامية والعربية).

فالتأسيس الأولي للحوار، وفق هذه الرؤية يميل الى تسوية إشكالية العلاقة مع الآخر الذي يقع خارج الفضاء الثقافي الوطني والاسلامي، وهذا يضع الحوار في سياق أجندة أخرى، تتصل بدرجة وثيقة بتطورات مابعد الحادي عشر من سبتمبر. وكما هو حال اللقاءات الفكرية السابقة، فإن الحوار يهدف الى صياغة رؤى جديدة في العلاقة مع الآخر الذي صدمته أيديولوجية التعصب والغلو والتطرف بأشكالها العنفية غير المتخيّلة.

هناك دون ريب مشتركات بين الوطني والعالمي في الحوار ضمن مسعى تسوية المنازعة الايديولوجية بين نحن المسلم والآخر غير المسلم، ولكن هذه المشتركات تقرر العبور الى الحوار داخل الوطن من بوابة عالمية، في عملية تضليل لتشخيص جذر المشكلة أو على الاقل تحديد نقطة بدايتها الصحيحة.

في تقديرنا إن صياغة رؤية تجاه الآخر، تنطلق من آهلية المجتمع بتنوعاته الثقافية للقبول بالتعايش على قاعدة الاختلاف، قبل الانتقال الى تحديد رؤية من آخر مجهول الهوية. فالحاجة المركزية للحوار الداخلي تتحدد في مستويين:

ـ الحوار الداخلي بين فئات المجتمع بتنوعاته السياسية والمذهبية والايديولوجية.

ـ الحوار بين المجتمع والسلطة

يثير الخطاب التأسيسي الأول لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني تحفظاً جديّاً حين ينطلق من الحوار على خلفية الامتثال لموقف أيديولوجي يعبّر عنه بسيرة السلف الصالح وآدابهم، بما يحمل هذا التحديد من دلالات خاصة، تخضع الجميع ضمن محدد حواري إشكالي، وتملي على المختلفين القبول بحوار مشروط. إن بلوغ درجة متوازنة من الحوار الداخلي بين فئات المجتمع يفترض قبولاً أولياً بالحوار غير المشروط كما يفترض قبولاً نفسياً بالتنازل، وليس بالامكان عقد حوار يقوم على إملاءات من طرف على باقي الأطراف، وهنا مكمن الافتراق بين الحوار والتفاوض، ففي الحوار يأتي الجميع دون شروط مسبقة ولا أوراق ضغط ولا أجندات خفية بعكس التفاوض.

هناك حاجة حقيقية لحوار داخلي على مستوى المجتمع، يتأسس في مرحلته الاولى على قاعدة التعارف بين الثقافات المحلية، ولازالة العوائق النفسية والذهنية التي تسببت على مدار عقود طويلة في إحداث قطيعة نفسية واجتماعية وتمزقات ثقافية وسياسية.

من المفارقات المثيرة للسخرية، أن يشارك المختلفون من أطياف فكرية متعددة في حوار يستهدف تقديم حلول لمشكلات مع الآخر، بينما المختلفون أنفسهم بحاجة لمثل هذه الحلول. كان أحرى بالمتحاورين أن يضعوا أصابعهم على نقطة خلافية مشتركة لحلها قبل التغريد بالرؤى الحوارية خارج حدود الوطن. لا يمكن تسوية أزمة الرؤية مع الآخر قبل تصحيح الموقف من الذات، ما لم يتم تحديد أغراض الحوار بصورة دقيقة ودون مواربة، أي معالجة أيديولوجية الدولة مع الايديولوجيات الاخرى. فقد بات واضحاً منذ اللقاء الفكري الاول بأن الاخطار المحدقة بالدولة هي الحافز المركزي وراء حشد الطيف الفكري في البلاد من أجل الخروج بتصورات مرضية للخارج بدرجة أساسية عن طريق صياغة رؤية معتدلة، ولكنها رؤية معزولة عن الحراك الثقافي الداخلي، ولا تمس البنى الايديولوجية الراسخة، وهذا مايفسر الموت السريع لوثائق اللقاءات وتوصيات المشاركين فيها.

إن مجرد إدراك الاختلاف والتنوع الفكري كحقيقة قائمة لم يثمر في تجسيدات معبّرة عنها، أي السماح لهذا الاختلاف في التعبير عن نفسه على الارض. مثال قريب من واقع الحجاز، تجلى في التجاذبات الطويلة والمعقدة التي كان يديرها الامراء الكبار وتحديدا سلطان ونايف وسلمان في قضية الدروس الدينية للسيد عبد الله فدعق، أحد كبار الشخصيات الدينية في الحجاز. هذا المثال يومىء بدلالة قوية الى أن إدراك الاختلاف لم يجد حظّه في مجال حقوق الانسان والحريات العامة، وهناك أمثلة عديدة يحتفظ بها الذين تتعرض حرياتهم للانتهاك بصورة يومية. إن الحديث عن آخر نستشعر الحاجة الى تحريره من رؤانا الايديولوجية المتزمتة لم يمثّل حتى الآن تغييراً في رؤيتنا حول الذات، فمازلنا نقبع ضمن مواقف متصلّبة سابقة، لم تغير وجهة سيرنا نحو الحوار كما يجب أن يكون وكما يجب أن يعكسه من حقوق وحريات على مستوى التعبير والضمير.

المستوى الآخر هو الحوار بين المجتمع والسلطة، إذ لا يمكن لأي عملية حوارية تحقق نجاحها المنشود ما لم تتم تسوية مشكلات العلاقة مع السلطة ذاتها، التي مازالت ترفض البدء بإجراء إصلاحات جوهرية وفاعلة. إن إنسداد القنوات الحوارية مع السلطة منذ الخامس عشر من مارس 2003 رهنت المجتمع والدولة الى خيارات متضادة، فالمتطلعون نحو الاصلاح السياسي الشامل باتوا يعقدون روابط مع فئات المجتمع عبر فعاليات ثقافية متنوعة مفصولة عن مسار الدولة. إن تبدد آمال الاصلاح من أعلى فتحت أفق التغيير والحوار من المجتمع ذاته، وهذا له أثمانه السياسية الباهضة على الدولة بدرجة أولى، لأن التغييرات الحاصلة من أسفل تكون عادة غير خاضعة للمقاييس والحسابات الدقيقة.

الصفحة السابقة