الملك عبد الله يجعل (العرضة) جزءاً من المقررات الدراسية

عبقرية فـذ ة أم أزمـة هـوية وطـنية؟!

تدخل الرموز الثقافية، ومنظومة العادات والتقاليد، وأنماط السلوك السائدة في المجتمع، وكذا الارث الاجتماعي والطقوس الفولوكورية في تشكيل الرأسمال الرمزي المشترك القابل للاستثمار في صياغة هوية وطنية جامعة، فإذا ما أريد تعريف مجتمع ما ينظر إليه من خلال مجمل الرأسمال الثقافي والرمزي، بوصفه عاكساً أميناً لهوية المجتمع التي تسبغ نفسها على كيانية الدولة.

وفي الدول التي تطمح حكوماتها الى تعزيز الشعور الوطني لدى مواطنيها، تقوم بتوظيف الرأسمال الثقافي المشترك لتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ أسس التلاحم الداخلي، ولذلك تولي التعليم إهتماماً خاصاً كونه الأداة الفاعلة لتنشئة المجتمع على الروح الوطنية، حيث يتربى الابناء في سن مبكرة على ثقافة وتراث وتاريخ وعادات وتقاليد المجتمع الذي ينتمون له.

وقد سعت كثير من الحكومات الوطنية في العالم ومنذ إنبعاث الثقافة القومية في القرن الثامن عشر الى تحقيق أكبر درجة إنسجام داخلي في مجتمعاتها، عبر صياغة رأسمال وطني مشترك، يمثل حاصل المجموع الكلي للثقافات الفرعية السائدة في مجتمعات تقع داخل تخوم سياداتها، كمدخل ضروري ووحيد لمشروع الاندماج الوطني، إذ لا يمكن لمشاعر الانتماء أن تخلّق ما لم تستشعر كافة الفئات بأنها ممثلة ثقافياً في هوية الدولة، وبالتالي لا يمكن أن لهوية وطنية أن تولد من مجرد هيمنة ثقافة فرعية على باقي الثقافات السائدة في مجتمع ما.

تلجأ بعض الدول التي تفتقر الى مقوّمات الانسجام الثقافي المستند الى توحد العناصر الاثنية، واللغوية، والتاريخية، والارث الاجتماعي والثقافي المشترك الى توليد هوية وطنية عليا تستظل بها الهويات الفرعية وتشكّل مصدر حماية لها، على أن تكون الهويات الفرعية في سمت الهوية الوطنية العليا وليست في تعارض معها، كما في بريطانيا والولايات المتحدة وسويسرا وغيرها، بحيث تكون الهوية الوطنية تعبيراً عن جميع الهويات الفرعية وتمثيلاً جماعياً لثقافاتها، ينعكس ذلك في تعزيز الرساميل الثقافية الفرعية، وفي الوقت ذاته تعزيز المشاعر الوطنية الجامعة، بما يجعل الجميع شركاء في وطن واحد مع الاحتفاظ بخصوصياتهم الثقافية، كما يلحظ ذلك في مناهج التعليم الخاصة بكل جماعة، وباحترام طقوسها الدينية وتراثها التاريخي والفولوكلوري، وحتى أعلامها، كما في بريطانيا حيث لكل مقاطعة خصائصها التي تحظى بالاحترام والتبجيل تحت التاج البريطاني.

في تجربة الدولة السعودية، كما هو شأن تجارب دول أخرى في العالم، جرت عملية تغييب متعمدة ومبرمجة لكل ماهو مشترك وجامع، وقد جاء التغليب الثقافي كتعبير تلقائي عن التغليب السياسي، عن طريق تعميم الرأسمال الرمزي والثقافي للفئة الغالبة والمهيمنة على بقية فئات المجتمع، فأصبح لدينا ثقافات فرعية مقهورة وثقافة فرعية قاهرة، فيما أصبحت الثقافة الوطنية المشتركة عنصراً غائباً، بل هناك إرادة قائمة على الاسترسال في ذات الطريق الذي يعمّق أزمة الدولة ويزيد المجتمع تشظياً.

وفي حقيقة الأمر، أن غياب الثقافة الوطنية المشتركة يعكسه غياب أشكال متعددة من الانسجام الداخلي بين المجتمع وبين الاخير والسلطة، حيث تسود مشاعر الاغتراب بين الافراد بمجرد إنتقالهم من منطقة لأخرى، وهي حالة نشأت كرد فعل على هيمنة ثقافية وسياسية، أفضت الى مزيد من القطيعة بين فئات المجتمع، أي أن الدولة كانت تسير على عكس إتجاه الوطن، الذي لم ينجز حتى اللحظة.

أزمة الهوية الوطنية، كأحد تمظهرات أزمة تكوين الدولة، بدأت منذ ولادة الدولة نفسها عام 1932، حين أتمّ الملك ابن سعود مهمة إقامة سلطة بحجم دولة، وفق شروط سياسية وإجتماعية وثقافية وأغراض شديدة الخصوصية. لم يتنبّه المؤسس ولا أعقابه الى أن الوطن يمثل الحاضنة النموذجية للدولة، إذ لا يمكن ضمان إستقرارها بمعزل عن مشروع بناء الروح الوطنية المشتركة. في واقع الأمر، أن تمييزاً بين الاستقرار والاستمرار لم يكن حاضراً في التفكير الاستراتيجي للدولة، فطالما أن القبضة على السلطة ممسوكة بإحكام، بحسب عقيدة العائلة المالكة، فلا يضرَّها التفجرّات الكامنة التي تقع بين فترة وأخرى، وهو ما أدركت العائلة المالكة خطورته متأخراً، ولكن قاربته بطريقة خاطئة.

وفيما يبدو، لم يتم إستيعاب موضوعة الهوية الوطنية المخلّقة من مشتركات ثقافية وتاريخية ونفسية، فما جرى بعد حرب الخليج الثانية عام 1991 أن صحوة متأخرة بدأت لدى العائلة المالكة من أجل البدء بتنمية المشاعر الوطنية بين السكان الاصليين بعد أن ظهرت هشاشة الروح الوطنية والوهن الشديد في روابط الانتماء للدولة. ومن المؤسف، أن تلك الصحوة جاءت بالغة التشوّه، حين اعتقدت العائلة المالكة بأن الروح الوطنية يمكن لها أن تُنمَّى بإقرار مادة (الثقافة الوطنية) في مناهج التعليم الرسمية، التي أنجبت مسخاً ثقافياً وخليطاً مفجعاً من المواد التعليمية المستمدة من الثقافة الغالبة. فقد ألبست حروب ابن سعود ضد المناطق التي غزاها وقتل رجالها وسبى نساءها وصادر أملاكها ثوباً وطنياً، كما ألبست العقيدة الوهابية التي كفّرت سكّان تلك المناطق وشرعنت حروب ابن سعود زيّاً وطنياً، ولم يجد معدّو تلك المادة ضيراً في أن يذّكروا أبناء المناطق الأخرى ما فُعِلَ بمناطقهم وآبائهم من قتل ودمار وسبي ونهب.

كان بإمكان منظّري الثقافة الوطنية أن يعيدوا رسم صورة الملك عبد العزيز، إن أرادوا ذلك، فيقدِّموه رمزاً وطنياً وقائد دولة، بإبراز مواقف مغفول عنها، إن وجدت، بدلاً من تعزيز صورته كمحارب ومقاتل مسؤول عن سفك دماء الابرياء وسبي النساء ومصادرة الممتلكات، وكان بإمكانهم أيضاً، إن أدركوا ذلك، أن يقدِّموا العقيدة الوهابية باعتبارها طريقة في تطهير المجتمع من الخرافة والبدع والتسامح مع عباد الله عز وجل، بدلاً من تقديمها كعامل تقسيم وكتيبة قتالية تشيع الهلع والفزع بلا ورع من دين ولا رادع من ضمير، تشهر سلاح التكفير في وجه كل مخالف، وترى نحره وسحله من أقرب القربات الى الله.

مايلفت حقاً، وهذا مما يؤسف له، أن إدراك العائلة المالكة مؤخراً لخطورة غياب الروح الوطنية المشتركة بين سكان المملكة، لم ينعكس في ذهنية وسلوك الملك والأمراء الكبار، وهذا ما يجعل نقطة البداية مفقودة، فتشخيص المرض شرط أولي لوضع خطة المعالجة. يبدو واضحاً، أن العائلة المالكة تنزع للاعتقاد بأن الهوية الوطنية قابلة للتشكّل عبر تعميم الرموز الثقافية والطقوس الفولوكورية ذات الطابع النجدي، ولذلك لحظنا خلال العقدين الماضيين أن تركيزاً مبالغاً كان ينصب على إبراز الرأسمال الرمزي والثقافي النجدي في هيئة متاحف تاريخية، ومهرجانات شعبية، وإعادة إنتاج ثقافي واسع ونشط خاص بالتراث النجدي إجتماعياً ودينياً وتاريخياً. ومن المفارقات المثيرة للسخرية، فيما تشهد نجد إنبعاثاً ثقافياً وتراثياً ورمزياً، كانت المعاول تهوي على آثار الاسلام والتراث الثقافي والتاريخي والاجتماعي في الحجاز، الذي يمثل جزءا عزيزاً ومقدّساً من تراث سكان هذا البلد فضلاً عن كونه يمثل مصدر إلهام لمليار ونصف المليار مسلم في العالم.

هذه المفارقات تبقى حاضرة بصورة دائمة لدى الفئات المتضررة من عملية محو لتراثها الثقافي الذي يمثّل مصدر فخرها وأهم مفاعيل هويتها، القابلة للاستثمار في صياغة هوية وطنية عامة. وكما نعلم فإن الهويات العليا تكون أسهل في الولادة حين تتلاقح عناصر ثقافية مشتركة، ولا يمكن لعنصر خاص ممثلٍ عن فئة أن يقوم بهذه المهمة الكبرى، وإن إدَّعى تمثيل باقي الفئات ما لم يفنيهم بيولوجياً أو يصهرهم في داخله أو يتعايش معهم، والتعايش إنما يتم بالانسجام، والانسجام يتم بصهر مشتركات في نظام واحد يجسّد إرادة الجميع.

قرار الملك عبد الله بتدريس (العرضة) لطلاب المدارس ليس معزولاً عن التفكير التقليدي الذي حكم العائلة المالكة طيلة العقود الماضية، بل هو نتاج لطبيعة السلطة القهرية التي تقضي بأن تكون ثقافة الغالب أولى بالنشر، وطريقته أولى بالاتبّاع. وبعيداً عن حالة الهيام العرضي التي يعيشها الملك عبد الله مع هذا الطقس الفولوكلوري، الذي إعتاد الملوك والأمراء على أدائه موسمياً، وبما يمثل من دلالات نفسية وثقافية واجتماعية وترمز الى التأهب القتالي بتلويحات السيوف الممدودة للمبارزة في الحرب وتعبيرات النصر التي تغمر المتراصيّن في إشكال متماسكة تلهب الحماس وتشحن النفوس على القتال والمقاومة.. نقول بعيداً عن ذلك كله، فإنها بالتأكيد لا تعكس سوى رمزاً ثقافياً شديد الخصوصة، ولذلك عرّفت بـ (العرضة النجدية). ومن المفارقات اللافتة أن الاحتفال بـ (العرضة النجديّة) يتم ضمن نشاطات (المهرجان الوطني للتراث والثقافة) الذي يجري كل عام، حيث يصبح النجدي والوطني متماهياً بما يجعل أحدهما ممثلاً للآخر. نشير الى أن السفارات السعودية في الخارج تحتفل بالعرضة النجدية في اليوم الوطني أيضاً، بما يجعل التنجيد خاصية ثقافية في هذا اليوم.

العرضة، كموروث شعبي نجدي إرتبطت بمجموعة اكسسوارات تقليدية ترمز الى تراث نجد، من ملابس وخناجر وسيوف وطبول، بقيت في حدود نجد رغم محاولات تعميمها عن طريق القبائل النجدية التي انتقلت الى مناطق أخرى من المملكة، ثم ما لبثت أن إختفت بصورة شبه كاملة مع بدء التحديث حيث تحوّلت الى جزء من الذاكرة الثقافية النجدية التي أريد تنشيطها لاحقاً من قبل الأمراء عبر إحياء بعض الطقوس الفولوكورية، ولكنها بالتأكيد لم تشكّل موروثاً شعبياً في الجزيرة العربية كما ذهب الى ذلك بعض وسائل الاعلام الرسمية.

قرار الملك عبد الله بإدخال العرضة النجدية ضمن المناهج الرياضية في المدارس الرسمية في كل أنحاء المملكة ينبّه الى الاخفاق المتواصل في المشروع الوطني. وليس من المبالغة إعتماد إقرار العرضة كجزء من التعليم الرسمي كمؤشر على الاخفاق، إذ أنه يأتي في سياق نزوع متعاظم منذ سنوات عدة نحو إعادة انتاج الهوية النجدية للدولة، ويأتي كرد فعل على تنامي المشاعر الوطنية التي ولدت خارج رحم السلطة، وعبّرت عنها نشاطات التيار الاصلاحي، فقد أصلح الاخير ما أفسدته السلطة، وكأننا نشهد حالة تجاذب، يكون موضوعها الوطن، بين سلطة تزداد نجدية ومجتمع يحاول بناء وطنه الذي غُيِّب من قبل الدولة، ويكأن قدر الوطن أن يولد من المجتمع نفسه، الذي قسّمته السلطة، إبتغاء السيطرة عليه.

لقد باتت طريقة بناء الاوطان معروفة، وإن إختلفت في عناصر تشكيلها، وبالتالي فإن أهم مسلتزمات الوحدة الوطنية والهوية الوطنية هي الاندماج الثقافي والاقتصادي والشراكة السياسية. فبإمكان العائلة المالكة أن تبني سلطة قهرية ولكن يستحيل بناء الوطن بنفس الاداة، كما لا يمكن صناعة ثقافة وطنية مشتركة بالمزيد من التدجيج الثقافي النجدي، تبعاً لعمليات تدجيج نجدي أخرى سياسية واقتصادية.

لقد كنا نأمل في أن يرسي الملك عبد الله دعامة دولة وطنية حقيقية مستعبراً من إخفاقات الماضي ومستلهماً من تجارب الدول التي تجاوزت محن الانفلاشات الداخلية، عن طريق وضع خطة إدماج وطني وإتبّاع برامج إصلاحية فاعلة لسياسات وأجهزة الدولة. فليس بالعرضة يمكن زرع مشاعر وطنية جامعة، ولا بتلبيد الاجواء الثقافية بشعارات في الوطنية، فالوطن لا يهبط من السماء، بل ينبت من الارض التي يقيم الكيان السياسي عليها.

ندرك تماماً عمق أزمة الهوية الوطنية، بوصفها تعبيراً عن معضلات أخرى في كيانية الدولة، فتلك الأزمة دالّة على ضعف مستويات الاندماج الثقافي والسياسي والاقتصادي وضعف مستوى المشاركة السياسية، وضعف التلاحم الداخلي، وفي حال كهذه، يصبح الحديث عن هوية وطنية لغواً، لانعدام مكوّناتها.

الصفحة السابقة