الـد ولـة المــُضـارِبـَة

من سيئات الدول الريعية أنها تتجاوز، في بعض الاحيان، دور جامع المحصول الذي يعيد توزيعه لاحقاً بأشكال عدة على الشعب، معززاً دورها كمراكز تجميع القوة الموزّعة بين مجمل الفئات المنضوية داخل مجالات سيادتها. ونقصد بتجاوز هذه الدول، حين تتحول الاخيرة الى أطراف مزاحمة في العملية الاقتصادية المرتبطة بالمجتمع، الأمر الذي يفقد الدولة دورها كراع وضابط وحافظ للمصالح العمومية، بل قد تصبح أحياناً غطاءً لأطراف يمارسون حروب النيابة (بروكسي) في المجالات التي لا تود الظهور فيها بهويتها الحقيقية.

في الدول الريعية تكون الحدود بين ماهو حقوق عامة وحقوق خاصة شبة معدومة أو بصورة أدق متداخلة، تماماً كما هي المهمات الموكلة لكل من الدولة والمجتمع. ويزداد الأمر سوءا في حال انعدام القانون أو عقم فعاليته، حيث تصبح إرادة الاشخاص النافذين متقدّمة على أي ضوابط قانونية. يبدو هذا الأمر جلياً، على سبيل المثال، في تدخّل الملك عبد الله في شهر مارس الماضي في وقف تدهور سوق الاسهم والذي أحدث تغييراً عكسياً لصالح صغار المستثمرين الذين تصل محافظهم الى ثلاثة ملايين محفظة، ويمثّلون نحو ثمانية ملايين فرداً.

وبالرغم من أن مبادرة الملك عبد الله بالتدخل لصالح المتضررين قد أنعش آمال شريحة واسعة من المضاربين الذين دخلوا في مغامرة خطرة داخل سوق غير محكوم لضوابط اقتصادية وقانونية، الا أنه أثبت، من جهة أخرى، العلاقة العضوية بين السوق كجزء من العملية الاقتصادية العامة والدولة، وفي ذلك دليل على إرتهان المجتمع للدولة.

في دول عديدة من العالم لا تتدخل الحكومة في سوق الاسهم الا من أجل تطبيق القانون في حال وجود عمليات تحايل وتلاعب في السوق بطريقة تنذر بكارثة إقتصادية تصيب قطاعاً كبيراً من المضاربين. على الضد في الدول الريعية والخليجية بخاصة، فإن الدولة باتت طرفاً في عملية المضاربة اليومية ليس من خلال امتلاكها حصص الاسد في الشركات الكبرى المهيمنة على حركة المؤشر فحسب، ولكن أيضاً من خلال النافذين الكبار في السوق والذين يمسكون بمناصب كبرى في السلطة، وهذا بدوره يهدم مصداقية الدولة بوصفها أداة لدرء المفاسد، بل قد تتحول هي، بهذه الطريقة، الى جزء من عملية الفساد والافساد من خلال إنغماسها المباشر عبر رجال السلطة أو غير المباشر عبر وكلاء عنهم في عمليات ملتبسة داخل السوق.

لا ريب أن إجتذاب قطاع واسع الى سوق المضاربات اليومية سهّل على السلطة تأكيد هيمنتها عليه وفصله عن الانشغالات السياسية والثقافية، ولكن هذه الهيمنة تنطوي على مخاطر مدركة لدى السلطة، حيث أن مغنطة السوق وحدها الكفيلة ببقاء هيمنة السلطة.

لقد بدا واضحاً خلال العامين الماضيين، أن العائلة المالكة متمسّكة بعقيدة رعوية لا ترى في غيرها خياراً يمكن أن يبقي على تماسك ووحدة سلطتها، وبالتالي فإن العامل الاقتصادي وحده الآن مصدر الاستقرار الوحيد، بل يمكن الزعم بأن هذا العامل أصبح الآن المصدر الاساسي لمشروعيتها، بعد أن تآكلت الايديولوجية الدينية المشرعنة لها. وبالتالي فإن الرهان الرئيسي قائم على أساس ربط مصالح الافراد وجوداً وعدماً ببقاء الدولة، الامر الذي يملي على الاخيرة توفير أوضاع إقتصادية مؤاتية لتمتين الرابطة بين المجتمع والسلطة.

ولكن العقيدة الرعوية لا تحتفظ بالضرورة بقسط وافر من النزاهة، فشراهة المتنفّذين الكبار تجنح الى اقتطاع حصة كبيرة من الرأسمال الرعوي الذي تضخّه الدولة في السوق، عبر تمويل مشاريع استثمارية، والتي من شأنها زيادة وتيرة الحركة الاقتصادية المنعكسة إيجابياً على أداء سوق الاسهم. ليس أخطر من ذلك، لعبة التجاذبات لجهة ترجيح مناقصات معينة بهدف إرسائها على أطراف وثيقة الصلة بالمتنفّذين الكبار.

كشفت تقارير نشرت مؤخراً عن حجم حصة الدولة في الشركات والبنوك الكبرى المدرجة على قائمة سوق المضاربات اليومية، بما يخبر بوضوح عن هيمنة الدولة على السوق. لقد أوحت ضخامة حصة الدولة الى غالبية صغار المستثمرين بأن مفاتيح السوق وأقفالها باتت بيد الدولة، وأن ما يصيب السوق من إنهيارات يقع على عاتق الدولة، بما يضع الاخيرة امام تحديات خطيرة، ولا مهرب أمامها سوى مواجهتها أو الاصطدام مع القطاع الأكبر من المتضررين الذين قد يخرجون من السوق لا يلوون على شيء من حطامها، فحينئذ تتهيأ ظروف المصادمة الكبرى بين الدولة والمجتمع.

تكتنف مضاربة الدولة مخاطر جمّة، وإن بدت في المرحلة الراهنة المستفيد الأكبر بفعل الانفراج الاقتصادي المرتبط بارتفاع أسعار النفط، في غياب قاعدة إقتصادية صلبة تقوم على إستراتيجية تنويع مصادر الدخل، ومشاريع إنتاجية أساسية، يكون سوق الاسهم عاكساً حقيقياً وأميناً لها.

المشهد السائد الآن يخبر عن أن السعودية هي بمثابة سوق مضاربات ضخمة، نهبت إهتمامات الافراد والجماعات وكادت تستوعب مؤسسات الدولة بكالمها، دع عنك الانعكاسات الخطيرة التي أحدثها الانثيال الجماعي على السوق في المستويات الاجتماعية والنفسية والثقافية والاقتصادية. التفكك الاسري، انخفاض المعدل الانتاجي للفرد، تردي أداء المؤسسات العامة، التسيّب في الاعمال، وهدر الوقت والجهد..هذه وغيرها من الآثار الجانبية والخطيرة لانقطاع عدد كبير من الافراد عن دورة الحياة المنتظمة والمستقرة، بفعل الانحباس التام داخل دوامة السوق.

تتحمل الدولة دون أدنى ريب تبعات ما سينجم من عواقب الافراط في تشجيع عمليات المضاربة اليومية كمصدر دخل شديد الجاذبية والسرعة لشريحة كبيرة من المجتمع على حساب العملية التنموية والانتاجية الشاملة التي من شأنها إستثمار الحجم الكبير من الرساميل المتداولة في سوق الاسهم في مشاريع إنتاجية، بدلاً من تحويل الافراد الى مضاربين في دولة مضاربة.

الصفحة السابقة