الإنكشاف الوهابي بسبب الحرب في لبنان

الوهابية.. بدأت وحيدة وانتهت وحيدة

الوهابية لا تسعفها نصوصها العقدية لتتسامح مع محيطها الإسلامي وتتماهى معه. وهي إن فعلت فهذا يعني نهايتها أصلاً، إذ لا مقام لها بدون تميّز عن الآخر، ولا يوجد تميّز للوهابية إلا: تكفير الآخر. فمنه تستمد مشروعيتها وتميّزها وزخم عدوانها

فعلاً.. بدأت الوهابية وحيدة غريبة في محيطها الإسلامي والعربي.

هي بالأساس رفضت الإعتراف بإسلامية من هم حولها عداها، وكانت تعتبرهم هدفاً لعدوانها بعد أن نزعت عنهم الصفة الإسلامية، فكانوا بنظرها مجرد كفرة مشركين، تحلّ دماؤهم وأموالهم وأعراضهم. وقد طبّق الوهابيون ذلك فعلاً في كل أرض وصلوها، من أعماق الجزيرة العربية (اليمن وعمان، الى شمالها في العمق العراقي والسوري).

وكان الوهابيون يضعون أنفسهم مصداقاً للحديث الشريف الذي يقول بأن الإسلام بدأ غريباً وسينتهي غريباً فطوبى للغرباء.. ويعتبرون أنفسهم الثلّة المؤمنة والفرقة الناجية والفئة القليلة التي تغلب الفئة الكثيرة بإذن الله، وأنها الفئة المهاجرة المجاهدة، ولازالوا يعتقدون بأن نهضة الوهابية في أواخر القرن الثامن عشر كما في القرن العشرين متشابهة مع ما قام به رسول الله: الهجرة، القتال للكفار ـ الجهاد، ثم الإنتصار.

وسيوف الوهابية لم تطحن في تاريخها القديم والحديث (اللهم إلا بشكل عرضي) إلا رقاب المسلمين في الحجاز وعمان واليمن والعراق والشام وغيرها، إضافة الى باقي مناطق الجزيرة العربية. ولهذا السبب، ارتأى الكثيرون بأنها حركة مريبة في أهدافها ومشاريعها، خاصة في نهوضها الثاني في القرن العشرين الميلادية على يد الملك عبد العزيز، الذي جنّدها لخدمة أغراضه السياسية وبتمويل وغطاء سياسي بريطاني. وهذا ما أثار انتباه الباحثين والمراقبين: فكيف بحركة دينية تكفر عموم المسلمين، ولا ترى إلا نفسها مسلمة، تجد ذلك ـ كما يقول الريحاني الذي قابل أعضاءها في العشرينيات الميلادية من القرن الماضي ـ في سلام أفرادها على بعضهم البعض: السلام على المسلمين، حيا الله المسلمين، مؤكداً على تكفيرهم لغيرهم.. كيف لحركة كهذه تدعي الطهرانية، في حين لم يشهد لها تاريخها الدموي إلا القتل في المسلمين ولم تتتعرض للبريطانيين مطلقاً، بل لم تعترض على المعاهدات البريطانية مع ابن سعود التي رهنت البلاد لهم آنئذ، ونخص بالذكر معاهدة دارين 1915، ومعاهدة العقير 1922، وغيرهما.

ولو جاز لنا استحضار التاريخ، فإننا نذكر بأن عبد العزيز قاتل الى جانب البريطانيين في حربهم ضد الدولة العثمانية، وساعد على تقويض نفوذها في العراق.. وحين احتل الإنجليز البصرة كان عبد العزيز يحط في احدى قواعدهم ويمنح من ضباطها وساماً بريطانياً، وقد صوّروه بذلك الوسام، ولازالت الصور تعرض حتى يومنا هذا كجزء من ذلك التاريخ النضالي!.

بعد أن تحقق نصر الوهابية المبين باحتلال الحجاز كاملاً عام 1926، بدعم الإنجليز طبعاً، كانت الوهابية بحاجة الى مصالحة مع محيطها الإسلامي ـ السنّي على الأقل ـ خاصة في مصر والشام. بيد أن الأيديولوجيا الوهابية في تصنيف المسلمين جميعاً على أنهم كفار، لا تستطيع ولا تمتلك التسامح لكي تعترف بإسلامية الآخر، والتماهي معه. وهي إن فعلت فهذا يعني نهاية الوهابية أصلاً، إذ لا مقام للوهابية بدون تميّز عن الآخر، ولا يوجد تميّز للوهابية إلا: تكفير الآخر. فمن هذا التكفير تستمد مشروعيتها، ومنه تستمد تميّزها، ومنه تستمد زخم عدوانها، وبه يكون سلاح سياسييها من آل سعود الذين يوظفونه ضد أعدائهم.

طيلة ثمانين عاماً تقريباً، والوهابية تحاول ان تكيّف نفسها مع محيطها الإسلامي (السنّي) الذي لم تعترف بإسلامه، وهو أيضاً، اي المحيط المسلم، وكرد فعل، شكك في أبعادها الإسلامية أيضاً، الى حد أن الدكتور محمد سعيد البوطي أشار الى أن إسلاماً جديداً يستنبت من نجد. وفي هذا الإطار يمكن التذكير بالحملة الإعلامية العثمانية ـ العربية ـ الإسلامية ضد سياسة التكفير الوهابية، فقد كان المطروح ان آل سعود في أصولهم يعودون الى (يهود الدونمة) بل أن الوهابية نفسها ربطت باليهودية، الى حد ان أحد شيوخ الأزهر ألف كتاباً بعد سقوط الحجاز بيد الوهابيين أسماه (يهوداً لا حنابلة). وهذا ما دفع بال سعود أن يظهروا عدّة تلفيقات بنسبهم، بعضها أوصلهم الى النبي محمد ـ أي آل البيت ـ وبعضها ربطهم بقبيلة (عنزة). لكن الملك فيصل جمع من حوله بعض مستشاريه العرب ليتحقق من الأمر، فأوصلوه الى نتيجة حقيقية تتعلق بنسب آل سعود اليهودي. وأن جدّ آل سعود (مرخان) لم يكن إلا (مردخاي)!

الشيخ ابن جبرين: حزب الله كافر لا تجوز نصرته

الوهابية والمصالحة مع محيطها السنّي

أياً تكن الحال، فالوهابيون وبعد ثمانين سنة لم يتصالحوا بعد مع محيطهم السنّي، فضلاً عن المذاهب الإسلامية الأخرى في الجزيرة العربية (الأباضية، الزيدية، الشيعة الجعفرية، الصوفية، الإسماعيلية). ولازالوا يكفرونهم بصدق، وإن كانوا لا يظهرون ذلك. المسألة أن الوهابية أخذت تمارس (التقية) رغم إدانتها لها، وتعيير من يقول بها ولو نظرياً.

كيف قبلت الوهابية ظاهراً بإسلام محيطها ولماذا؟

كدولة ناشئة وجد عبد العزيز صعوبة في الإستمرار بتكفير الجيران السياسيين. فغرض التكفير كان بالتحديد (شرعنة) الحرب الوهابية و(توسعة) رقعة سلطان الدولة السعودية. فالتوسع والإمتداد من نجد جاء على خلفية أن تلك المناطق مشركة وأهلها مشركون وأن الهدف من الإحتلال هو (أسلمتهم) وتخليصهم من الشرك! ليدخلوا في رحاب (التوحيد الوهابي).

الآن وبعد احتلال الحجاز، انتهت المساحة المسموح باحتلالها سعودياً، ولم يعد السعوديون يتمتعون بغطاء سياسي بريطاني لمهاجمة دول الجوار، خاصة وأن أكثرها يقع تحت نفوذ بريطانيا المباشر. فماذا يصنع الملك السعودي؟

لا بد وأن يتخلّى عن الجهاد!، جهاد المشركين والكفار العرب في الجوار!

ولا يمكن اقناع الجيش الوهابي بالتخلي عن الجهاد المزعوم، إلا بالتخلّي عن تكفير دول الجوار!

الجيش الوهابي رفض، فتمت تصفيته عام 1930م في معارك دموية معروفة.

المشايخ الوهابيون رفضوا أيضاً ولازالوا، ولكنهم قبلوا التخلي عن الجهاد المزعوم ضد المشركين إذا ما كانت تلك رغبة ورؤية (ولي الأمر السعودي) إذ ـ حسب رأيهم ـ لا جهاد دون إذن الإمام!

ولكن الملك يريد منهم التخلي عن فكرة تكفير المحيط العربي، فالدولة لا تستطيع العيش في محيط معاد. والوهابيون أنفسهم يريدون التبشير بمذهبهم. فجرى ما يشبه (النفاق) في تسوية غير مرئية ولكنها واضحة لمن يراقب المسار السعودي الوهابي: أن لا يتم تكفير المسلمين السنّة علناً، واعتبارهم ضمن (عامة المسلمين)، والعمل على (أسلمتهم) جيداً وفق العقائد الوهابية. أي انه اذا توقف التبشير عبر السلاح والغزو والإحتلال والضم، فإن التبشير بالعقائد الوهابية من خلال الإعتراف الضمني بإسلام (السنّة) هو البديل عن الإحتلال والأسلمة العنيفة!

هنا ابتدأت معاقل الوهابية تنشأ في أكثر من بلد، لتوظف في النهاية لصالح السياسة الخارجية السعودية، ولم يكن الوهابيون يتعاملون أو يقبلون التعامل مع اتباع المذاهب السنيّة الأخرى كنظراء. هم لا يعترفون بالأزهر ولا يقيمون له وزناً، بل أكثر من هذا هم يكررون دائماً في مواضع الذم بأنهم ليسوا شيوخ أزهر. وهم أيضاً لا يعترفون بأي مرجعية دينية أيّاً كانت سواء داخل المملكة او خارجها غيرهم.

لكن في نفس الوقت يجب الإنتباه الى حقيقة بالغة الأهمية وهي: إن الوهابية (الآن) ترتعد فرائصها من مجرد فكرة عزلها أنها مذهباً مستقلاً بذاته، أي مذهباً غير سنّي. ومع أن الوهابيين ومشائخهم يعتقدون أنهم (وحدهم) يمثلون (أهل السنّة والجماعة) وأن البقية مجرد (أشاعرة) و(مارتريديون) مشركون ضالّون، أو روافض وصوفيون.. مع هذا هم في حقيقة الأمر يشعرون بالخوف بمجرد إخراجهم من البحر السنّي (الذي لا يعترفون بإسلامه في الأصل) لأنه يقضي على أحلام توسعهم العقدي من جهة، ولأنهم في نهاية الأمر لا يستطيعون أن يزعموا تمثيل المسلمين، بل قد يؤدي الأمر الى سحب مشروعية سيادتهم على الأماكن المقدسة.. فضلاً عن ذلك الآثار ما يترتب على الأمر من مضار سياسية قاتلة للدولة السعودية نفسها والتي توظف المذهب الوهابي في سياساتها الخارجية، وتستخدمه كمصدر لشرعية نظام الحكم نفسه والذي لا يمثل ـ حتى في المملكة ـ سوى أقليّة، إذ أن أكثر سكان المملكة هم غير وهابيين.

هذا الخوف وتلك الخشية عبّر عنها بصراحة في أجوبة سئل عنها عدد من كبار علماء الوهابية، وفي مقدمتهم الشيخ عبد العزيز بن باز المفتي السابق. ويمكن العودة الى موقع الشيخ بن باز على الإنترنت للتأكد من هذه الحقيقة.

ناصر العمر: حزب الله عدو مثل اسرائيل وأمريكا

الوهابية وحزب الله

المخزون العقدي الوهابي لا يساعدها ولا يمكنها بأيّ حال التسامح لا مع الشيعة ولا مع غيرهم. ولكن موضوع حزب الله وحربه مع إسرائيل كان له وقع القنبلة النووية على الوهابيين في السعودية.

أولاً ـ أن الأساس العقدي الأيديولوجي للعداء في أكثره تساقط في حرب حزب الله لإسرائيل. فكل التراث السلفي الذي يستند إليه الوهابيون يقول بتحليل نمطي أساسه الزعم بأن الروافض (الشيعة) أعداء للإسلام وأمة الإسلام. وأنهم (لم) و(لا) يقاتلون النصارى واليهود بل هم حلفاء لهم على الدوام يرومون طعن الإسلام وأهله. وأن ابن تيمية قال بأن اليهود سيتحالفون مع الروافض في حال قامت لهم دولة في العراق. وبالرغم من أن هذه الإتهامات النمطية لا تصمد أمام حقائق التاريخ، وبعضه منشور في السعودية نفسها، إلا أن التيار الوهابي مقتنع بها أشدّ الإقتناع، ولازالت الفئة الأكبر تؤمن بذلك، وهي مستعدة لتصديق نصوص ابن تيمية عن أن تصدق عينيها في المعركة التي تشهدها اليوم حيّة على شاشات التلفزيون.

ثم ان الوهابية لا تميّز في العداء، وكما قال ناصر العمر على شاشة الجزيرة الفضائية، أنه ـ وبالضرورة (هم) أي أولئك المشايخ الصامتون ـ لا يفرق بين أمريكا واسرائيل وحزب الله وإيران في العداء، فكلهم أعداء: كفار. وعموماً فإن الكافر أو المشرك لا يمكن أن يأتي منه خير للإسلام، فضلاً عن أن ينال شرف مجاهدة الصهاينة، وبالتالي فإن ما يجري صار مجرد (تمثيلية) ستنكشف عمّا قريب، كما انكشف غيرها، كما يقول العمر.

ثانياً ـ لقد سببت أزمة الحرب في لبنان غضباً وهابياً لا يمكن وصفه بكلمات ضد حزب الله. ولم تنل اسرائيل معشار الشتائم والتهم التي تكال للحزب وقائده حتى الآن. وكلما حقق الحزب نصراً في المعركة، أو نصراً في الإعلام، أو تعاطفاً من الجمهور العربي والمسلم، كلما زاد جنون الوهابية. ومواقع الوهابية تفيض من ذلك الجنون الأعمى الذي يقرأه الناس جميعاً وهو بمتناولهم. والعتب يوجه دائماً لبقية المسلمين بأنهم جهلة بالموقف الشرعي والعقدي، وجهلة بما يبيته الروافض من شرور للإسلام، وأن بقية العرب والمسلمين وهم الأكثرية الكاثرة مجرد عوام ببغاوات، وأن علماء الإسلام في كل مكان الذين وقفوا أمام الوهابية ومشايخ تكفيرها وطائفييها ليسوا ـ من وجهة نظر الوهابيين ـ بعلماء حقيقيين صادقين.

ثالثاً ـ لقد أدى ما جرى الى إعادة الوهابية الى حجمها الطبيعي، الى شذوذها القديم، والى إبعاد أتباعها عن الجسد الإسلامي العام، رغم التحريض الطائفي، ورغم الدفع السياسي السعودي للمواجهة الطائفية. وهنا شعرت القيادات الوهابية بعمق الأزمة الداخلية، فحاول بعضهم تلطيف الموقف الذي جاء به ابن جبرين من حزب الله، والتفريق بين الخلاف الحالي مع اسرائيل والخلاف المذهبي الذي يجب أن يستمر في المرحلة الآتية! أي تأجيل الصراع.

الوهابية ترفض الإعتراف بأن الشيعة ومقاتلي حزب الله وزعيمه مسلمون، فقط مسلمون لا يريدون من الوهابية دعماً ولا صوتاً. لم يعترف أي من علماء الوهابية بذلك حتى الآن، الأمر الذي أدى الى مسألة في غاية الخطورة، وهو الإنشقاق الداخلي في الجسد الشعبي الوهابي في السعودية. فالموقف غير مبرر، والأكاذيب القديمة والنمطية لم تعد صحيحة كلما طالت الحرب، وتوضح أن الحرب جادة وليست مسرحية، وأن العداء مع اليهود لا يفرق بين شيعة وسنة. وقد وصلت الأزمة الى راديكاليي القاعدة انفسهم، فقبل بضعة أشهر كان الزرقاوي يكفر حسن نصر الله ويعتبره حامي حمى إسرائيل، ولكن الظواهري جاء الآن ليعبر عن موقف (معدّل) فهو لم يذكر حزب الله في خطابه الذي بثته قناة الجزيرة، ولم يعترف بإسلامه، وإنما شمله بـ (المستضعفين) الذين يمكن التحالف (الآني) معهم لقتال العدو المشترك.

وهكذا.. عادت الوهابية كما بدأت حركة تكفيرية معزولة في العالم الإسلامي، بعيدة عن قيم التسامح بين المسلمين، قريبة من العدو ومواقفه، متآمرة مع النظام السعودي المموّل لها ضد قضايا الأمة في فلسطين ولبنان وغيرهما.

تعود الوهابية اليوم الى معاقلها القديمة غريبة عن الحق، وعن الجمهور، وعن قيادات الرأي والفكر والفقه في العالم الإسلامي. تعود الى مواقعها لتثبت أنها حركة جاهلة عنيفة مدمرة لا تدرك فقه الواقع، ولا تنشغل إلا بتأجيج الفتنة في كل بقعة وصلت اليها، كما يقول الشيخ البوطي. الوهابية التي أدهشت الناس بموقفها من حزب الله، هي نفسها التي وقفت في فتوى من الشيخ بن باز ضد العمليات الإستشهادية في الأرض المحتلة. لكنها هي نفسها لم تدن ـ ويا للغرابة ـ قتل المدنيين العراقيين في الأسواق والمساجد والمدارس!

الصفحة السابقة