مكة المكرمة: قلب الأمّة الإسلامية

د. مي يماني

مكة، عاصمة المسلمين كافة، ليست مقتصرة على الحج والصلاة، ولكنها أيضاً محور للتبادل الثقافي، للمقايضة المشتركة، وللتعايش السلمي لفئات مختلفة. وهذه المدينة الاممية، كتقليد مفتوح كان ثابتاً لأكثر من ألف عام، حتى الالحاق القسري لمكة، عاصمة مملكة الحجاز، من قبل الحكام السعوديين وشركائهم الوهابيين العام 1932. إن إضطهاد الحجاز والنموذج الثقافي الحجازي، أصبح مباشرة في أولوية الجهود السعودية ـ الوهابية لفرض الارثوذكسية التقليدية على المسلمين في كل مكان.

من الجدير إعادة إحياء ما تم فقده. فحتى بداية القرن العشرين، إحتضن المسجد الكبير في مكة (دوائر المعرفة) التي وفّرت فرصة فريدة للحوار بين المسلمين من خلفيات إثنية مختلفة ومن فروع متباينة في الاسلام سواء من مواطني آسيا الوسطى، أو الاندونيسيين، والماليزييين، والهنود، والفرس، والمصريين، الأتراك وكل هؤلاء، في واقع الأمر، الذين يمثلون الأمة، مجتمع المسلمين في كل أنحاء العالم جاءوا ليس لأداء فريضة الحج فحسب، ولكن كطلاب ومدرّسين في البحث عن المعرفة. فقد كانت مكة المكان الذي جدّد وأثرى فيه الاسلام نفسه.

لقد اعتبر الغزاة السعوديون الوهابيون الجدد هذا التنوع الثقافي الديني فوضوياً، عقيماً، وهرطقياً، وقاموا في مقابل ذلك بفرض رؤيتهم الضيقة للاسلام بإسم الوحدة الوطنية والتطهير الديني. لقد أخذت المصالح السياسية للنظام أولوية على الأهمية الحيوية للأمة. في الحقيقة، إن الرغبة النهائية للقادة السعوديين الوهابيين كانت فرض أيديولوجيتهم السياسية الدينية الدغمائية الواحدية على العالم الاسلامي كافة. وبعد غزو مكة، كان النظام واثقاً بأنه قادر على إعادة تشكيل الاسلام وفق صورته.

وأكثر من ذلك، فقد أصبحت الايديولوجية السعودية الوهابية مدعومة بالمال النفطي. فقد تلقّت المدارس والمساجد حول العالم، من كوسوفو الى جاكرتا تبرعات سعودية سخيّة وأصبحت مطيعة لقيادات الوهابية. وفيما يبدو فإن تنامي الطلب العالمي على النفط والعلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة ساهما في إيصال الهيمنة الايديولوجية الى ذروتها.

ولكن الاحداث منذ بداية القرن الحادي والعشرين قد بدأت بتكسير تلك الصخرة. فالهجمات على الولايات المتحدة في سبتمبر 2001 عرّفت الوهابية بعدمية إرهابية وأطلقت غضب أميركا، وفي الغالب بدون تمييز على البلدان الاسلامية.

بالطبع، فإن الولايات المتحدة غطّت رد فعلها العسكري بغرض رفيع ـ الحاجة الى زرع الديمقراطية، أو الحرية في الشرق الأوسط المسلم. ولكن الناتج غير المعلن عنه بالنسبة للهجوم الأميركي المسعور كان بدلاً عن ذلك تقوية المسلمين الشيعة، حيث سقط أولاً حكام طالبان السنة في أفغانستان، وأعقبهم سقوط نظام صدام حسين السني في العراق، فيما حصد حلفاء شيعة ايران نفوذا سياسياً مهماً. لقد أنجز حليف ايران في لبنان، حزب الله لحظة تتويج في هذه العملية مع هزيمة بالغة لأهداف إسرائيل في لبنان.

لقد تم اضعاف مؤسسات النظام السعودي الوهابي السني، التي كانت في يوم ما بقبضة قوية، على المستويين الدولي والمحلي. وفيما انتقدت السعودية، إضافة الى انظمة سنيّة في مصر والاردن، حزب الله لاشعال الحرب مع اسرائيل، ولكن هذا الموقف أصبح على الفور ضعيفاً حيث عانى المدنيون اللبنانيون، وأن حزب الله بالرغم من الخسائر الفادحة في الرجال والعتاد، صمد في وجه العدوان الاسرائيلي. في حقيقة الأمر، إن (انتصار) حزب الله صنع منه طليعة إثبات الذات الاسلامية، فيما تقهقر الوهابيون الى الوراء، مثيرين الشكاوى المذهبية التي لم يستمع اليها أحد.

على النقيض من ذلك، فإن الاهمية الجديدة لحزب الله عبر العالم العربي تفيد بأنه، على الضد من النظرة التقليدية، فإن السياسة في الاسلام لا يمكن أن تفهم بمجرد شروط ميزان القوى بين الشيعة والسنة. على النقيض، فإنه بالرغم من أن التمايز الثقافي مازال يلعب دوراً هاماً، فإن الاختلاف المذهبي في العالم الاسلامي يتم التعبير عنه بصورة أكبر من قبل الحكومات والجماعات المسلّحة أكثر منه على المستوى الشعبي. لقد حصل الحكام السعوديون على نقاطاً سمراء مع الولايات المتحدة في معارضة حزب الله، ولكن حساب ذلك لا شيء. إن النموذج السعودي الوهابي للسياسة السلبية والمذهبية التي عكست نفسها في إدانة حزب الله كشيعة، قد تبدد بموجة الرأي الاسلامي الذي غمر المنطقة، وفي الحقيقة، العالم الاسلامي.

إن سياسة القاعدة تنبع من الخطاب التقسيمي الاصلي للوهابية. وكنتيجة، فإن التغيير في ميزان القوى في العالم الاسلامي قد ترك أثره ليس على الوهابية الرسمية فحسب، ولكن أيضاً على مخلوقها المشوّه. إن العنف المنفلت من عقاله والاجندة المتناقضة لدى القاعدة، كما يرى في حربها الطائفية ضد الشيعة في العراق، قد تركها عاجزة عن بناء دعم شعبي. وفيما يقتصر التأييد للهجة القاعدة على السنة الغاضبين والمعزولين في العراق وأماكن أخرى، فإن نموذج حزب الله المحسوب بدقة والمعقّد، والذي بناء عليه يعمل كحزب سياسي، ومنظمة عسكرية، ومؤسسة رعاية اجتماعية، قد نجح في جذب وتوحيد الشارع العربي.

إن الضعف المنظور للنظام السياسي السعودي الوهابي يؤدي الى اطلاق الطاقات الاجتماعية المكبوتة داخل سكان السعودية، والتي قد تؤدي الى أشكال غير متوقعة للفعالية السياسية. وفيما يحاول النظام ترسيخ نفسه في الحواضن الوهابية وتضييق القواعد الشعبية لمشروعيته، فإن النزعات تجاه التأكيد الشعبي للتمايز الثقافي قد اصبح لافتاً بصورة أكبر. فالقمع لم يعد ضامناً للنظام، وأن تجديد الشرعية يمكن أن تتم فقط عبر تبني إصلاحات دينية وكذلك سياسية.

في لحظات تاريخية كما هي الآن، فإن الجماعات الجديدة ستظهر فيما يتحلل النظام القديم. إن قمع القيادة التقليدية المعروفة تدشّن لظهور جيل جديد، يكون منافساً وخلاّقاً. ومع ضعف الوهابية، فإن آل سعود قد يستغلون الفرصة إما لادحاض الوهابية بوصفها الايديولوجية الوحيدة للدولة أو تصحيح الايديولوجية من أجل جعلها متناسبة مع قبول التنوع الديني في السعودية وخارجها.

ومهما تكن نظرة أي شخص للقوة السياسية لحزب الله، فإن رمزيته التي تعالت بصورة دراماتيكية تفيد بأن التقليد الاممي لمكة المكرمة تترك صدى أكبر بالنسبة للعرب والمسلمين من الايديولوجيات المذهبية لحكامها. وربما تمثّل هذه اللحظة نداءً الى مكة، عاصمة الاسلام، لتجديد التقليد المنفتح والاستيعابي للحجاز.

لقد نال النظام السعودي فرصة لاعادة إحياء دوره القيادي في العالم الاسلام من خلال إعادة تأسيس (دوائر المعرفة) في المسجد الكبير وتقوية مكانة مكة. بعد كل ذلك، فإن الحكام السعوديين ـ الوهابيين هم أقلية في بلادهم وكذلك في العالم الاسلامي الكبير. فهم بحاجة للتحرك من استراتيجية البقاء والتطلّع نحو دور لقيادة أصلية. إعادة بناء المؤسسات السياسية والدينية في السعودية هي عنصر جوهري في حال أريد إستيعاب التباين الحقيقي.

إن انقاذ التقاليد المفقودة في مكة سيرتبط بلا مناص بتغيير داخلي حيوي. إن على أئمة المساجد داخل السعودية أن يصبحوا ممثلين عن الامة. كما أن النظام التعليمي الديني بوصورة كلية يجب أن يفتح ليشمل كل المدارس الفكرية الاسلامية وكذلك ثقافة التسامح والابداع. وكونهم ممثلين في المؤسسات الدينية فإنهم سيدعمون التمثيل السياسي المحلي مثل الحكام المحليين من قبل الحجازيين في مكة أو الشيعة في المنطقة الشرقية. إن إحتكار الامرء آل سعود يجب أن يتوقف. وهذا لا يعني بأن مكة قد تكون عاصمة سياسية، ولكن يجب أن تكون نموذجاً للاستيعاب الديني والثقافي.

في غضون ذلك، فإن الغرب يجب أن يراقب التطورات في (مهد الاسلام) بصورة وثيقة وأن يدعم النداءات المحلية للاصلاح. إن الاصلاحيين الذين يبقون في السجن أو يتم إسكاتهم لابد من أن تسمع اصواتهم. وعلى الغرب تشجيع آل سعود من أجل السماح لحرية التعبير والعبادة. وفيما يبدو فإن الغرب والعالم الاسلامي بصورة عامة قد نسوا أو تجاهلوا مساهمة مكة في الحضارة.

عن: www.opendemocracy.net

نشر في 6/9/2006

الصفحة السابقة