الدولـة المخـطـوفـة

من منظور العلوم السياسية، فإن الدولة السعودية تشهد تحوّلاً دراماتيكياً من المحافظة الى البراغماتية، وهو تحوّل يبطن مخاطر جمة على الكيان السعودي الجيوبوليتيكي. فثمة تحرر من الثوابت السياسية والايديولوجية التقليدية بهدف تعزيز النزعة الواقعية التي يتم عبرها ازالة التابوات، والاعراف السياسية الموروثة والمشدودة الى اعتبارات دينية واجتماعية وتاريخية،

ويمكن للمراقب أن يلحظ توجّهاً داخل العائلة المالكة بدأ يتبرعم في بداية التسعينات ويميل الى التخلّص من أعباء داخلية وخارجية لجهة تحرير الارادة السياسية. وأخذ هذا التوجّه بالتقدّم بخطى حثيثة بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر وتنامي الاحساس بالخطر إزاء ما يمكن أن يؤدي اليه تصدّع التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. ولذلك، كان ترميم التحالف يتأسس على قاعدة الانعتاق من المنظومة الاخلاقية والايديولوجية التي طبعت سياسات الدولة السعودية منذ عقود.

وقد أملت النزعة البراغماتية بأن تخوض العائلة المالكة معارك مفتوحة وعلنية في الداخل والخارج، من أجل إعادة إعمار التحالف الاستراتيجي مع الغرب. في الداخل، واجهت العائلة المالكة حليفها التقليدي وسدّدت اليه ضربات موجعة أمنية وأيديولوجية، دون أن تؤدي الى تحطيمه، طمعاً في إعادة تشكيله كيما يكون صالحاً للاضطلاع بدور الحليف، والاحتفاظ به كمصدر ديني لمشروعية للدولة. القرارات الخاصة بالمرأة، والانفتاح الثقافي والاجتماعي في نطاق محدود، والتشريعات التجارية الخاصة بالاستثمارات الاجنبية، كانت تمثّل جزءً من الميل البراغماتي الذي يفضي في تسلسله الى تطويع الرؤية المحافظة لخدمة النهج البراغماتي.

في الخارج، أصيبت السياسة السعودية على مدار أربع سنوات منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر بشلل شبه تام، فيما كان فريق العلاقات العامة مستنفراً من أجل إعادة الحياة الى العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب عموماً. كانت العائلة المالكة تشعر، خلال تلك السنوات، بأن التاريخ قد فتح أبوابه فجأة وقد يقفلها عليها، وكان لابد لمعجزة أن تقع من أجل إنقاذ مصيرها، خصوصاً وأن ثمة تلويحاً أميركياً وغربياً بأن قاطرة الدمقرطة شرق الأوسطية ستتجه الى حدودها. ولكن المعضلة السياسية التي فغرت فاهها في السعودية قد أغلقت بعد أن إستعاد النفط عزّته وكرامته وتدفق النفط بغزارة على الاسواق الأميركية والغربية، فيما تخلّت العائلة المالكة عن مثلها الدينية والاجتماعية، وأصبحت تتعاطى السياسة من منظور مصلحي محض، وفق قاعدة (الصداقات المتغيرة والمصالح الثابتة) بصرف النظر عمن تنطبق عليه القاعدة سواءً عربياً أو اسلامياً أو غربياً أو حتى إسرائيلياً.

التوجه البرغماتي لدى العائلة المالكة بدا في مستهّل العمل على أساسه مستهجناً وربما مفاجئاً لدى من تعوّد أن يرى في السياسة السعودية ذلك الهدوء وإن خلا من العقل، والصمت وإن خلا من الحكمة، ولكنه يبقى مؤنساً في المناخات السياسية الصاخبة. فقد كانت العائلة المالكة تلوذ بالتروّي في التعبير عن رؤاها السياسية، وبالعمومية في الافصاح عن مواقفها حيال الاحداث الجارية، وبالتصالحية في ترجمة وجهات نظرها في الخصومات السياسية. الآن، لم يعد الأمر كذلك، فقد نزع الجناح الفاعل في العائلة المالكة رداء المحافظة السياسية، ومنح لنفسه الحق المطلق في أن يكون له مواقف شبه علنية بصرف النظر عن تداعياتها وارتداداتها السياسية والاجتماعية والدينية. هكذا كان الحال، حين وقفت الحكومة السعودية في وجه حركة حماس الفلسطينية المنتخبة ديمقراطياً، وتواطأت مع المتواطئين العرب والغربيين في سياسة تجويع الشعب الفلسطيني، وشاركت في حرمانه من مجرد الحصول على لقمة العيش، عبر منع وصول الاموال والمساعدات اليه من أشقائه العرب والمسلمين، بل ورفضت حتى مجرد استقبال رئيس الحكومة الفلسطينية إسماعيل هنية خلال جولته العربية والاسلامية في ديسمبر الماضي. وكذا كان الحال، حين أصدرت الحكومة السعودية بيانها ـ الفضيحة في اليوم الأول للعدوان الاسرائيلي على لبنان في يوليو 2006، والذي اعتبرته الدولة العبرية بمثابة تأييداً لها في عدوانها. وتكرر المشهد في مواقفها المتشددة من سوريا الى حد الاصطفاف بجانب واشنطن وباريس في مخطط ضرب سوريا وحصارها، وكذلك في موقفها من ايران، والتنسيق المتواصل مع اميركا وبريطانيا واسرائيل للتحضير لإشعال حرب إقليمية ضد ايران، والتي ستشمل، لا قدر الله، سوريا ولبنان.

البراغماتية السعودية وفق هذا المسار غير الرشيد تنطوي على مغامرات بالغة الخطورة وستكون الدولة السعودية أول من يدفع ثمنها، خصوصاً وأن صورتها ومصداقيتها منذ أن أصبحت القطب الرئيسي في محور الاعتدال الاميركي، وبالتالي فهي كما هو شأن شركائها الآخرين: الاردن ومصر وحكومة فؤاد السنيورة وفريق الرئيس الفلسطيني محمود عباس، تراهن على مشروع أميركي لم يعد يملك من أدوات الحسم أكثر مما استهلكه في العراق. إن ما قاله الرئيس الاميركي بوش لمصر والاردن ودول الخليج بأن فشل الاميركيين في العراق سينعكس على أمن واستقرار هذه الدول صحيح تماماً، ولكن ليس على قاعدة تصحيح الخطأ الاميركي الفادح في العراق، وإنما لأن هذه الأطراف مجتمعة رهنت مصيرها السياسي بالمشروع الاميركي في المنطقة، وبالتالي فهذه الدول حرقت اوراقها وخياراتها، وأصبحت مسألة حياة أو موت، بسبب فقدانها للقواعد الشعبية التي تمثّل الضمانة الحقيقية لاستقرار هذه الانظمة.

البراغماتية السعودية ذات الطابع الراديكالي تبدو مخطوفة لجهة غير معلومة، وهي غير مؤسسة على قواعد صلبة فضلاً عن كونها غير منسجمة مع طبيعة الدولة وسيرورتها التقليدية، وما تنطوي عليه من مخاطر على الكيان السياسي للدولة، بالنظر الى المشاريع الاميركية المعلنة حول إعادة تشكيل الشرق الاوسط، وهو ما يشعر الفريق المحافظ في العائلة المالكة بالهلع من تصرفات الاتجاه البراغماتي الذي يقوده بندر بالنيابة عن الجناح السديري وآخرين في الدولة السعودية.

الصفحة السابقة