دولـة الأقـلـيّات

في منظور الإجتماع السياسي، وعلم الإثنيات أن معظم مجتمعات العالم اليوم هي (مجتمعات تعددية)، بمعنى وجود جماعات إجتماعية متعددة مستقلة تشكّل وحدات ثقافية وسياسية مؤثّرة داخل المجتمع الواحد، وتعتنق مطالب ثقافية وإقتصادية وسياسية مؤسسة على هوية كل جماعة. بطبيعة الحال، فإن هذه الوجودات تمظهر نفسها في أشكال متفاوتة، وتتخذ أيضاً وسائل متباينة في التعبير عن الذات الجمعية، فأحياناً تنزع هذه الوجودات الإجتماعية نحو المباشرة، وأخرى قد تتموضع بصورة بدائية، وبعضها الآخر ينبثق من باطن الصراعات ذات الطابع الخصامي.

وفي معظم البلدان، وهذا ثابت تاريخياً أيضاً، فإن المجتمع التعددي هو نتاج فتح عسكري، حيث يتم إخضاع مجموعة أقليّات مختلفة عن طريق القوة وإدماجها في المجتمع الجديد. ثمة مثال إستثناء بطبيعة الحال: في أميركا الشمالية نشأ المجتمع التعددي الى حد كبير من خلال التصاهر الحر بين المجتمعات عبر الهجرة، بما في ذلك الهجرة القسرية التي مارسها تجّار الرقيق السود بالقهر.

وفي الغالب، ناضلت الأقليّات، في معظم مجتمعات العالم، من أجل درء سياسة الإخضاع القهري، وكانت تبتكر خيارات من أجل حفظ وحدتها وتماسكها الداخلي عبر إحياء ثقافي متواصل، وتعزيز لعادات إجتماعية مستقلة، وترسيخ لروابط تجارية وحرفية مميزة. وفي بعض الحالات ينتقل النضال الى درجة أعلى، حين تتعرض الأقليات الى قهر سياسي، حيث تستدرج الأقلية الغالبية باقي الأقليات الى الحلبة السياسية، كما جرى في جنوب أفريقيا. والسبب في ذلك، أن القهر السياسي يبطن تهديداً وجودياً للأقليات، فالسياسة هنا تختزن أبعاد التهديد الأخرى الثقافية والإجتماعية والإقتصادية بالنسبة للأقليات، وخصوصاً حين تعتمد آليات القهر والقمع، بخلاف ما يجري في الأبعاد الأخرى، ولأن السياسة تضع الأقلية الحاكمة في مواجهة مباشرة مع الأقليات المقهورة، وبالتالي فإن الشعور بالخطر يبدو مباشراً وجليّاً.

الدولة السعودية التي نشأت في العام 1932 هي مثال بارز لهيمنة أقلية على باقي الأقليات، حيث لا وجود حقيقي ومادي لمجتمع موحّد، فقد رسّخت الأقلية الغالبة ثقافة (أقلاوية) تمثّلها في كل حقول عمل الدولة، وسعت بقوة الأخيرة الى اختراق باقي الفئات الإجتماعية، ما جعل الأخيرة تلوذ برساميلها الثقافية من أجل تحصين وجودها أولاً، وتأكيد هويتها المستقلة ثانياً، والجهر بحقوقها الثقافية والإقتصادية والسياسية ثالثاً.

من الناحية العملية، قررت الدولة السعودية إفناء الروابط التقليدية كجزء من مهمة بناء الدولة، سعياً نحو إخضاع الفئات والمناطق كافة تحت سيطرتها، ونجحت الى حد ما في تحقيق هذا الهدف في المرحلة الأولى، على الأقل في مرحلة التأسيس حيث كانت القوة العسكرية وحدها وسيلة التوحيد السياسي. وبعد استكمال مهمة قيام الدولة وتجيهزاتها الأولية، بقي النهج نفسه ولكن بأدوات مختلفة، فسياسات التمييز ضد الأقليات كانت شاملة على أساس المنطقة، والقبيلة، والمذهب، وباتت كل جماعة تستشعر خطراً من نوع معين.

لاشك أن وعي الأقليات بذواتها الثقافية والتاريخية يحكم إستجاباتها للتحديّات الموجّهة إليها، وتمارس الدولة غالباً دوراً رئيسياً في رفع وخفض مستوى الوعي لدى الأقليات من خلال سياساتها العامة. فقد يضمر رد الفعل الثقافي لدى أقلية ما حين لا تشعر بوجود خطر ثقافي، في حين يكون تعبير الأقلية عن ذاتها ياخذ شكله الإجتماعي أو الإقتصادي، وقد يضمر رد الفعل السياسي حين يكون مستوى وعي الأقلية بحقوقها السياسية منخفضاً.

في العقدين الأخيرين، بدا واضحاً أن الأقليات المنضوية تحت الدولة السعودية باتت على مقربة من مركز السياسة وإن نفذت إليه من أبواب عدة، ثقافية أو إعلامية أو إقتصادية، والسبب في ذلك أن الإحساس بالغبن السياسي بات ممتداً وعابراً لكل الجماعات، ولم يعد مقتصراً على جماعة دون أخرى، تماماً كما أن الوعي الحقوقي في بعده السياسي لدى أغلب الأقليات محرّكاً لمناشط جماعية وعلى امتداد الرقعة الجغرافية التي تستوعب الدولة.

قبل عقدين بدأت الأقليات تعبّر عن خصوصياتها الثقافية والتاريخية عبر مجموعة مؤلّفات عن قبائل، ومناطق، ومدن، ومذاهب، ومع بدء شبكة الإنترنت في منتصف التسعينيات أصبح الاشتغال على تأسيس مواقع خاصة بالمناطق، والقبائل، والمذاهب، بعناوين ثقافية وسياسية وإعلامية، ونشهد الآن إنفجار الفضائيات التي تعبّر عن كيانات مجتمعية ومناطقية، حيث تأخذ القنوات مسميّات ذات معانٍ خاصة. ولم يكن ذلك مجرد بروزات عفوية، ما لم نبحث عن تفسيرات علمية لها، فهذه القنوات هي تعبيرات جماعية عن خصوصية ثقافية وتاريخية، وهي في الوقت ذاته وسيلة إحتجاج غير مباشر على قمع الدولة لوجودات إجتماعية حرمت من حق التعبير عن نفسها لعقود عدة.

هذا التطوّر في وسائل التعبير لا يكشف عن مجرد وجود مجتمع تعددي فحسب، بل هو يفصح عن إحتجاجات جماعية على واقع بات مرفوضاً بصورة جماعية. وقد لا تعبّر الجماعات عن أهداف سياسية بصورة مباشرة وعلنية، ولكنها في مرحلة معينة قد تضطر بفعل الضغوطات الأمنية والسياسية إلى اعتماد لغة مختلفة، أو بتعبير جيمس سكوت سجّل خفي، وخصوصاً حين تكون الدولة قادرة على البطش، ولكن حين تصبح الدولة عاجزة عن قمع من خضعوا قهراً تحت سلطانها، تستعيد الأقليات زمام المبادرة في الإفصاح عن نفسها.

باختصار شديد، أن الدولة السعودية تحكم مجتمعاً تعددياً ينقسم بين أقلية غالبة وأقليات مغلوبة، وأن الأخيرة بدأت تمظهر هوياتها عبر وسائل تعبير مختلفة، وساهم تنامي وعي أفرادها في الإنتقال الى المعترك السياسي الذي في حال إخفاق الدولة عن إنتاج ثقافة وطنية إدماجية سيؤول الأمر الى عودة الكل إلى أجزائه الأولى.

الصفحة السابقة