أزمة الهوية في السعودية

المواطنة في مجتمع تعددي

هاشم عبد الستار

واجهت المواطنة دائماً إشكالية مركّبة تتصل بتكوين المجتمعات التي يراد تحويلها بما يتناسب وطبيعة الدولة الوطنية، إذ لا يمكن لمواطنة أن تُنتَج في مجتمعات تتوزّعها خطوط إجتماعية وثقافية وانتماءات مذهبية ومناطقية متعددة بكل ما تختزنه من تراث ثقافي، وذاكرة تاريخية، ومنظومة قيم وعادات ومسالك متنوعة. وينبغي الفات النظر ابتداءً الى الدين كمكّون رئيسي وتاريخي لنشأة الأمم الكبرى في التاريخ البشري، والذي أصبح منغرساً في سياق إشكالية الدولة الحديثة المؤسسة على مفاهيم ذات طبيعة علمانية، من بينها المواطنة كمبدأ أساسي لهوية وتشكيل المجتمعات الحديثة.

وينبعث الجدل دائماً بين علماء الإجتماع والسياسة حول إمكانية تحقق المواطنة الكاملة في مجتمعات ذات طابع تعددي، ناظرين الى سياقات تاريخية محددة، كان فيها السعي الحثيث من قبل دول عديدة لجهة وضع حد أو تقليص للفواصل والإختلاف بين مجتمعات يراد إيصالها إلى درجة الإنصهار الداخلي كمقدّمة لتحقيق الوحدة الداخلية والإنسجام تعزيزاً لقواعد الإستقرار السياسي..

وقد حاول الباحثون وعلماء الأديان والإجتماع والسياسة ردحاً من الزمن التفتيش عن بدائل فاعلة تعين على تضييق الفوارق بين المجتمعات، فيما كانت الأخيرة تسير على عكس رغبة الدول، فقد كانت المجتمعات قادرة بدرجة كبيرة على إنتاج المزيد من الفوارق. وساد إعتقاد لزمن طويل بأن التحديث سيكون الوصفة السحرية التي ستقضي على الفوارق بين المجتمعات وستغير وجه الأخيرة وتحدث ما عجزت الدول بأدواتها التقليدية عن تحقيقه، وستنتقل المجتمعات الى مرحلة تكون فيها وقد ألقت وراءها إرثها التاريخي وثقافتها الخاصة ومنظومة قيمها وعاداتها وبالتالي ستنفر من هوية طالما أثقلت كاهلها لجهة هوية جديدة تربطة بالمستقبل وبحقائق العصر وثقافة السوق. وجاءت النتيجة صادمة لهذا الفريق من العلماء، فقد استعملت أدوات التحديث من أجل تعزيز الهوية الخاصة.

هذه المقدمة تسعف في الدخول الى موضوعة المواطنة في مجتمع تعددي كالسعودية مثالاً حيث الرهان الدائم على تصنيع هوية عليا في مقابل هويات فرعية. والهوية العليا كانت على الدوام المطلب الأقصى للدولة السعودية كيما تحقق ضمانات بقائها واستقرارها الداخلي وإجماع القاطنين داخل حدودها بأهلية السلطة السياسية فيها للحكم. والعقيدة المركزية في المواطنة تتمحور حول آلية إنتاج الهوية العليا لمجموع المواطنين، وما يمكن أن تضفيه هذه الهوية من قيمة عليا لمواطنين تحتويهم الإنشدادات القبلية والمناطقية والدينية/المذهبية بما يقلل الحاجة والرغبة الى هوية عليا هي في الأساس تنشد إستقرار الدولة ونظام الحكم في نهاية الأمر، ما لم تكن هذه الهوية قادرة على التعويض عن مكتسبات الهويات الفرعية.

بالنسبة للسعودية، كانت النظرة العامة لدى المتضررين من سياسات الدولة القائمة على التمايز والتمييز، أن الدولة تمثل بالنسبة لكل هؤلاء أو للغالبية العظمى منهم طرفاً رئيسياً في فرض هذه السياسة ورعايتها إن لم يكن حمايتها. فالدولة بما هي أداة لتحقيق إجماع وطني لم تتحقق في السعودية، بل إن سلطة الهيمنة فيها تكاد تكون لصالح جماعة معينة وقاهرة لجماعات أخرى، فهي، أي السلطة، طرف في النزاع بل قد يقال انها م4ولّد له وأحد مصادره الرئيسية. ويصعب في حال كهذا، الحديث عن هوية وطنية عليا حيث سياسات الدولة لا تتجه إلى إنتاج هذه الهوية المنشودة، القائمة على أساس وجود ثقافة وطنية مخلّقة لمبدأ المواطنة الذي يكون الأساس المشترك بين قاطني الدولة.

ثمة مقاربات جوهرية لتصحيح علاقة الدولة بالدين تصلح أساساً للتناظر حول ما يمكن أن تفسحه العلاقة في المجال لولادة مفهوم المواطنة كرابط أساسي في علاقة المجتمع بالسلطة لا على أساس ديني بل على أساس مدني، فيما يكون للدين مدخلية في شأن المجتمع وليس في وظيفية الدولة.

وهناك من يرى بأن تصحيح العلاقة بين المجتمع والدولة يتطلب تمدين الأخيرة، وهذه المقاربة تستحضر وبصورة متكررة وفاعلة تجربة الكنيسة في أوروبا ونقيضها الموضوعي أي الدولة. فقد وجدت شعوب أوروبا أن الصراع بين الدين ممثلاً في الكنيسة والدولة لا يتم حسمه إلا بتبني خيار الدولة المدنية بمضمونها العلماني، وتحويل الدين إلى شأن فردي. ويمتد خيار العلمنة إلى كافة مجالات المجتمع بما في ذلك القوانين الخاصة بالزواج والإرث والطلاق وغيرها، وبهذا تكون الدولة كمرجعية نهائية سياسية وقانونية الخيار الأمثل لوأد تداعيات الفوارق داخل الجماعات سواء على قاعدة دينية، إثنية، أو ثقافية، فالدولة بما تفرضه من سطوة قهرية ونظام إداري وسلطة قانونية هي مرجعية عليا لمجمل مواطنيها بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية أو متبنياتهم العقدية. يرى هؤلاء الباحثون بأن ثمة نجاحاً باهراً حققه هذا الخيار في عدد كبير من دول أوروبا معزّزاً باستجابة الجماعات المنضوية داخل حدود هذه الدولة لخيار العلمنة واحتساب الدين شأناً قابلاً للتخفيض عند مستوى الممارسات الطقسية الفردية وغير المتعارض مع صيرورة وسيرورة الدولة بمضونها العلماني.

خيار علمنة الدولة السعودية أو الدعوة اليها وردت في أكثر من موقع حواري سعودي على الإنترنت، كما تحدث عنها أكثر من مثقف سعودي بصورة ضمنية واعتبروها المعبر الآمن نحو وطن بلا توتر. وهذا الخيار من شأنه تفكيك العلاقة المعقدة بين الدولة والمؤسسة الدينية وثقل التحالف التاريخي بين الطرفين والذي فقد ـ حسب هذا الفريق ـ مبرر استمراره بعد قيام الدولة ووجود جماعات متعددة غير متصالحة مع المذهب الرسمي الذي يرى في هذه الجماعات أطرافاً خارجة عن الإسلام، ولكن بالتأكيد ليست خارجة عن الدولة، ما يفرض على الأخيرة تخفيض العامل الديني في إدارة الدولة والإنتقال الى مرحلة تسود فيها القوانين المدنية الخاصة بالدولة كدولة وليس كممثلة لجماعة دينية محددة.

مقاربة أخرى، على خلاف المقاربة الأولى، تقرر سلفاً حق كل الجماعات الدينية في إجراء وتطبيق أحكامها الدينية وفق معتقداتها سواء كانت الأخيرة تنتمي إلى أديان متعدّدة أو داخل الدين الواحد. ويمثّل إحترام الخصوصية الدينية للجماعات موضوعاً مصعّداً وبصورة مستمرة كونه يمثل خياراً مقبولاً لجماعات دينية في كل ارجاء العالم.

فاحترام الخصوصية الدينية لكل جماعة داخل الدولة تلزم الأخيرة بالتنازل عن جزء من سلطانها القانوني بوجه خاص لحساب الجماعات الدينية بداخلها كيما تطبّق أحكامها في الزواج والميراث والطلاق وغيرها. وبطبيعة الحال، فهناك من يقول باختلال المواطنة في حالات كهذه حيث تكون فيها الجماعات منقطعة عن السلطة القانونية الكلية للدولة. بيد أن المتحمّسين للخيار الآخر يرون بأن احترام الخصوصية الدينية للمواطنين تشكّل حافزاً على تطوير مفهوم المواطنة متجاوزة الحدود الضيّقة لمعنى المواطنة كما يرسمها الفريق الداعي إلى إضفاء سلطة شمولية ومطلقة على الدولة، وهذا الخيار بلا شك يتطلب فك الطبقة الحاكمة عن متعلقاتها الاجتماعية وانشداداتها الدينية والثقافية وتحويلها الى مجرد جهاز إداري صرف لا صلة مباشرة له بالتنوع العقدي والإثني. وهذا الخيار إن صدق في مناطق معينة فانه لا يصدق على مناطق كثيرة بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط حيث السلطة السياسية هي جهاز تمثيلي لطبقة أو لجماعة دينية أو سياسية معينة.

ولا ريب أن دولة دينية مثل السعودية، كنموذج يتبنى وبصورة علنية الإسلام (بحسب تفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب) كمصدر تشريعي وأيديولوجية شرعنة لدى الدولة، فإن احترام الخصوصيات الدينية فضلاً عن خيار العلمنة الشاملة للدولة يبدو مستحيلاً كونه يتطلب إعادة بناء الأساس الأيديولوجي للدولة وربما استبدال مصادر مشروعيتها.

فالمواطنة في دولة دينية كهذه تصبح عرضة للتفسيرات المتضاربة والمتنوعة، وقد تتحول في أحيان كثيرة نقيضاً موضوعياً لمبدأ الدين، بالنظر الى المكونات الرئيسية لمبدأ المواطنة بما يتطلبه من تحقيق العدل والمساواة وتكافؤ الفرص والتمثيل السياسي المتكافىء، فيما تصبح التفسيرات الدينية الخارجة عن إطار التفسير الرسمي للدين متنافرة مع مبدأ المواطنة كما تراها الطبقة الحاكمة.

لا شك أن اختلال المواطنة ينعكس بصورة مباشرة على درجة الولاء السياسي للدولة، وإذا ما تم فحص الولاء في تجارب الدولة الريعية، حيث الولاء بقدر العطاء، فإن النتيجة النهائية تكون غالباً سالبة، إذ يكون الولاء بهذا التحديد قائماً على معادلة المصالح المتبادلة، وليس على قاعدة قناعات فكرية، مع ضرورة التذكير دائماً بأن الولاء الحقيقي ليس ذي طبيعة إقتصادية، وهو ما لحظنا تجاربه الكارثية الأخيرة في رومانيا تشوشيسكو، وعراق صدام حسين، وربما ينطبق على كثير من الدول الريعية ذات الطبيعة الشمولية، وقد قدّم لنا تاريخ الدول نتيجة إرشادية بأن تأسيس الولاء على قاعدة نفعية يجعل الدولة عرضة لأي تصدّع في القاعدة، وأن الولاء يضعف حين تكف الدولة أو تقصر عن ضمان منافع لمن وهبها ولاءً مشروطاً، وأنّ من تعوّدوا على رهان المنافع في الولاءات يكونون على استعداد لنقل ولاءهم لمن يضمن لهم منافع أكبر، بل قد يتحوّلوا الى الأداة التي تطيح النظام الذي يعجز أو يحجم عن ضمان مصالح من يشترطها كجزء من التعالق مع الدولة. وحال كهذا يجعل الولاء مسلوب الروح، فهو ولاء مصلحة، وخضوع إضطرار، ومحبة مصطنعة، وبالتالي فهو ليس بديلاً عن الولاء الحقيقي القائم على أساس جدارة الدولة عبر تطبيق القانون، وتحكيم المساواة بين المواطنين، وصوغ سياسات التنمية المتكافئة.

بالتأكيد هناك من بين الطبقة الحاكمة من يرى في التقليد القبلي القائم على التضامن المصلحي بين الأفراد وزعيم العشيرة، مرشداً وجيهاً لتصنيع ولاء من نوع الولاءات القبلية، وقد يعود السبب في رسوخ هذه القناعة الى كون الولاء المستمد من مفاهيم الدولة الحديثة، غير مدرك في التفكير السياسي لدى الطبقة الحاكمة. ولذلك، تكتفي الأخيرة بمجرد الولاء الظاهري الذي يوفّر إستقرار السلطة وتماسكها، رغم أن هذا النوع من الولاء ينطوي على خلل خطير في العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهو ما يزيد في تقسيم المجتمع على أساس القرب والبعد من المصالح وليس الوطن، الذي يكفل لأبنائه حقوقاً متكافئة ومصالح متوازنة.

وقد بات واضحاً أن غالبية السكان تشعر بأنها تخضع تحت تأثير سياسات ظالمة وغير وطنية، كون الدولة تتمسك بسياسات تمييز على أساس الانتماءات التقليدية القبلية والمناطقية والدينية. وإزاء هذا الإحساس المتصاعد بالغبن، يضعف الإحساس بالوطن وربما في مرحلة ما بالحاجة إليه أيضاً، فيما يتزايد النزوع نحو ترسيخ الأطر التقليدية للإنتماء، خصوصاً حين تتجاوز درجة الخطر الذي يواجه الجماعات المغبونة الخطوط الحمراء، بما يعيد بعث الهويات الفرعية ويحيلها الى إطارات إنتماء نهائية، وقد تحمّل في طيّاتها عناصر تدمير وحدة الدولة. وهنا يعاد طرح السؤال مجدداً، لماذا أخفق التحديث في تخفيض التأثيرات السياسية للهويات الفرعية، فضلاً عن إخمادها أو حتى كبتها، لصالح تشييد بنى هوية وطنية كلية. ولماذا، في الأصل، ترجع الجماعات المغلوبة الى الخلفية الثقافية والسياسية والدينية لإعادة الحياة لهوياتها الفرعية، وما هي تمظهراتها وهل لذلك علاقة بإخفاق الدولة في إنتاج هوية من سنخها، وليس من سنخ الطبقة الحاكمة فيها، وبالتالي ماهي ردود الفعل المتوقعة من الجماعات القاطنة خارج تصنيف الحلفاء من وجهة نظر الدولة الريعية، أي الجماعات التي لم تحظ بقدر مقبول من ريع الدولة غير الوطنية، أو التي مسّها الضر من سياسات تمييز دفعها الى شحن مخيالها القبلي والمناطقي والمذهبي، وتوظيفه في مشاريع غير وطنية كرد فعل على دولة غير وطنية؟.

أنظمة الحكم العربية، والسعودية واحدة منها، تمسّكت بمفهوم غير وطني للوطنية، حيث أسبغت عليه طابعاً فئوياً بأشكال متنوعة: حزبية، طبقية، عائلية، وجعلت من المفهوم نفسه، أي الوطنية، أداة قمعية وقهرية وتهديدية، فبإسم الوطنية تمّت تصفية الخصوم المحليين، وبإسمها لجأت الدولة الى سياسات قهرية من أجل إخضاع المجتمع، وبإسمها أيضاً تم تخويف الرعايا من الإعتراض على فساد وجبروت الطبقة الحاكمة، وقد لحظنا كيف لجأت الأخيرة الى تهم العمالة، وتهديد الوحدة الوطنية، والإستعانة بقوى خارجية، وكلها تندرج في سياق مضادات الوطنية، ولذلك فقد تحوّلت الأخيرة إلى سلاح بيد الأنظمة الشمولية، بل كل مازادت هذه الأنظمة طغياناً صعّدت في التلويح بالوطنية كجزء من معركتها ضد خصومها المحليين بدرجة أساسية، لما للعمالة والخيانة والتواطىء مع العدو من معانِ مخزية في التراث العربي الشرقي.

يحمّل البعض مسؤولية غياب الثقافة الوطنية وخصوصاً تلك الثقافة المتعلّقة بمفهوم المواطنة أو الوطن الى الإنسان القاطن على تراب الدولة، وكأنه المسؤول عن إنتاج وتطوير الهوية الوطنية وليس الدولة نفسها المسؤولة عن تعميم تلك الثقافة الوطنية والمؤسسة على مبادىء عملانية في الوطنية منها اعتماد المساواة، وتكافؤ الفرص، وتقاسم الثروة بصورة عادلة، واحترام الخصوصيات الثقافية لكل جماعة، وترسيخ قيم الحرية والعدالة..وهذه لا يصنعها الأفراد وإنما الدولة، تماماً كما أنها المسؤولة عن تفجّر الهويات الفرعية والانتماءات الجزئية كرد فعل على إخفاق الدولة في سياساتها الوطنية. ومن المستغرب أن يخطأ البعض في تشخيص أزمة الهوية الوطنية في السعودية حين يفترض أن هذه الهوية تولد من ثقافة المجتمع المنقسم على ذاته الى مجتمعات فرعية بهويات خاصة وتقليدية، وليس من الدولة التي يراد لها التحوّل إلى وطن وأمة، وهي وحدها المسؤولة عن تنشئة ثقافة وطنية عبر مناهج التعليم، والسياسات التنموية، وتوزيع الخدمات، وتقاسم الثروة والسلطة.. كتب علي العمري مقالاً في موقع (إيلاف) في 27 نوفمبر بعنوان (الهوية الوطنية..السعودية نموذجاً) جاء فيه: (في بلد كالمملكة العربية السعودية يمكن ملاحظة أن ثمة غياباً لأي رؤية واضحة لدى الإنسان هنا لمفهوم المواطنة أو الوطن في مقابل الشعور القوي بالإنتماء للقبيلة أو الطائفة أو المنطقة، مما أضطر المؤسسة الرسمية إلى محاولة إدراج مادة لدى طلاب المدارس الابتدائية تحت مسمى الوطنية!). مثل هذا التشخيص يبطن تبرئة لدور الدولة في أزمة الهوية الوطنية، وتحميل مسؤولية بزوغ الإنتماءات الفرعية إلى السكّان، ما اضطر الدولة، بحسب وجهة نظره، الى إقرار مادة الوطنية، وكأن الأمر جاء رد فعل على فشل السكان في تخليق وعي وطني وليس نتيجة لفشل سياسات الدولة غير الوطنية. مع أن الكاتب العمري إستدرك لاحقاً من خلال تسليط الضوء على واحدة من جنبات مشكلة غياب الهوية الوطنية، حين ذكر (أن السعودية كبلد حديث النشأة لم يصل حتى الآن لا رسمياً ولا شعبياً لمفهوم محدد للوطن خارج الانتماء للأسرة الحاكمة. كما أن الخطاب الديني الرسمي لا يشجع أي مفاهيم دنيوية كالوطنية بل ويشجب أفكاراً كالقومية في حين ينظِّر للهوية الإسلامية، ومن المعروف أن السياسة السعودية في مناهضتها للمشروع القومي الناصري طرحت مفهوم الهوية الإسلامية).

حسنا، إذاً لم تكن مشكلة مواطن بل مشكلة وطن فرّطت الدولة في تسهيل ولادته، وتظافر جهد السياسي والديني على تأخير إن لم يكن إجهاض هذا الجنين. ولا يجب تحميل عامل الإستعمار من أجل توليد مشاعر جمعية تصلح لتنسيج هوية وطنية تقوم على المقاومة الجماعية للإستعمار، فهذا العامل ليس بالضرورة العصا السحرية الذي يبطل مفعول التمزّقات الداخلية وينجب الهوية الوطنية، فثمة سياسات مطلوبة من الدولة إقتفاؤها من أجل تحقيق هذا المنجز الكبير، فليس الوطن ومتوالياته ينشق فجأة من أرض ليست مؤهلة بدرجة كافية لاستيعابها مجتمعياً. بل لا تكون للولاءات الفرعية اليد العليا في دولة يمارس فيها السياسي والديني دور الهادم لأسس الوطنية ويعتبرها رجساً من عمل الشيطان بالمفهوم الديني وارتكاساً للسلطة المركزية من وجهة نظر العائلة المالكة.

كاتب آخر، توفيق السيف في مقالته (حول الهوية الجامعة والهويات الفرعية ومفهوم الوطن) بتاريخ 29 نوفمبر، ينطلق من فرضية وجود هوية وطنية قائمة ويطالب بـ (احتواء الهويات الفرعية، ومنها القبلية في الإطار الاوسع للهوية الوطنية)، وهي فرضية يمدّها بقدر كبير من الزخم الجدلي النظري في سياق العثور على مفصل مشترك لعلاقة بين الهويات الفرعية والهوية الوطنية. ويفترض السيف بأن التراب هو نقطة إرتكاز مشترك في مسيرة بناء الوطن والهوية الوطنية، ويصيغ تلك الفكرة بقدر مبالغ من الرومانسية بما نصه (أن مجموع المواطنين مالكون لمجموع البلد ملكية أصلية غير قابلة للنزع أو التنازل).

في المقابل، يمكن المجادلة على هذا النحو: إن مجرد دعوى الشراكة الترابية لا تحيل السكان الى مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات كما يفترض السيف، فالأمر أشد تعقيداً من هذا التبسيط النظري. فهل مجرد القول بالشراكة الترابية يحيل السكان لمالكين، ولو كان الأمر يعالج بهذه البساطة لما تفجّرت النزاعات الدموية على نطاق واسع في بقاع عديدة من العالم، ولما تطلّب الأمر الى محاكم دولية لتسوية المشاكل الحدودية، ولما اندلعت الإضطرابات الأمنية داخل وخارج تخوم بلدان العالم. فالإحساس بالشراكة الترابية لا يولد وطناً ولا يولد هوية، ما لم يكن متعاضداً مع عناصر أخرى ثقافية وإجتماعية وسياسية وأخلاقية وقانونية.

الصفحة السابقة