أين الخلل؟

(لجنة المناصحة) تسرّح، وخلايا التطرّف تتكاثر

ناصر عنقاوي

نشرت صحيفة (الحياة) اللندنية في الخامس من ديسمبر خبراً مفاده أن وزارة الداخلية البريطانية تقدّمت بطلب الى الحكومة السعودية للإستعانة بخبرات (لجنة المناصحة) التي تأسست سنة 2004، والتابعة لوزارة الداخلية السعودية بهدف إعادة تأهيل شبابها، وإقناعهم بعدم القيام بهجمات. ونقلت الصحيفة عن القنصل العام البريطاني في جدة قوله: أن وزارة الداخلية لدينا مهتّمة بنشاط لجنة المناصحة، وقررت تصميم برنامج مشابه للتعامل مع الشباب المتعاطفين مع فكرة تنفيذ هجمات، عبر برنامج يحمل عنوان كيف نحمي الشباب. هذا الطلب جاء على خلفية إعلان لجنة المناصحة عن الإفراج عن 1500 شخص ممن تبنوا (الفكر التكفيري الجهادي). وكان عضو لجنة المناصحة التابعة لوزارة الداخلية الشيخ محمد النجيمي قد صرّح لصحيفة (عكاظ) في العاشر من فبراير أن (دولاً كبيرة في مقدمتها بريطانيا واليابان أبدوا إعجابهم الشديد بفكرة لجنة المناصحة).

الشيخ النجيمي: أية مصالحة؟

ما لم يفصح عنه طلب وزارة الداخلية البريطانية، أن من تستهدفه الأخيرة في برنامج الحماية هم من تشرّبوا أفكاراً في التطرف من مصادر سلفية وهابية، وبالتالي فإن الإستعانة بلجنة المناصحة يعني البحث عن معالجة من سنخ المرض، إذ ليس من المنطقي أن تستعين وزارة الداخلية بعلماء من الأزهر أو الزيتونة أو حتى من الآستانة لمعالجة تطرّف ديني يدرك الجميع بأن مصادره تقبع في نجد، وينتجها علماء يتحدّرون من المدرسة السلفية الوهابية.

وعلى قاعدة (من كسرها فليجبرها)، فإن البريطانيين يدركون بأن علاجاً للتطرف الديني في ديارهم لن يحقق نتائجه المأمولة ما لم يضطلع من صنّعوه وصدّروه بمهمة التعامل معه بخطة مضادة، تكون بمثابة إعلان براءة أعضاء من (لجنة المناصحة) عن أفكار كانوا هم من أشاعوها على الملأ، ويراد منهم الآن أن يقنعوا أنصارهم المتمسّكين بالنسخة القديمة من تلك الأفكار، بأنها لم تعد صالحة للإستعمال الآدمي.

لجنة المناصحة التي تضم مشايخ سلفيين عرفوا سابقاً ومازالوا الى حد ما بمشايخ الصحوة عقب نشاطات إحتجاجية غير مسبوقة منذ حرب الخليج الثانية في 1991 لتعميم معتقدات شديدة التطرف، تنطوي على تكفير المجتمع والدولة، وتدعو لإعادة إحياء عقيدة الجهاد، كتلك التي حملها الشيخ سفر الحوالي. ففي كتابه (كشف الغمة عن علماء) الصادر سنة 199، أرجع الحوالي في (ص 61 ومابعدها) سبب أزمة الخليج إلى (..ما كسبت أيدينا واقترفنا من ذنوب وعصيان، وخروج عن شرع الله، ومجاهرة بما حرم الله، وموالاة أعداء الله، وتهاون في حق الله، وتقصير في دعوة الله، اشترك في ذلك الحاكم والمحكوم والعالم والجاهل والصغير والكبير والذكر والأنثى على تفاوت فيما بينهم..)، منتهياً الى خلاصة نصّها (لقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا وفشا المنكر في نوادينا ودُعي إلى الزنا في إذاعتنا وتلفزيوننا واستبحنا الربا حتى أن بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام إلا خطوات معدودات)، ليصل في نهاية المطاف للقول (أما التحاكم إلى الشرع ـ تلك الدعوى القديمة ـ فالحق أنه لم يبق للشريعة عندنا إلا ما يُسميه أصحاب الطاغوت الوضعي الأحوال الشخصية وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن (ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منهم عن حد أقيم)، ومع ذلك وضعنا الأغلال الثقيلة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصفدنا الدعوة والموعظة بالقيود المحكمة، وهذا من استحكام الخذلان وشدة الهوان ومن يُهِن الله فما له من مُكرِم). ولذلك فرّق الشيخ الحوالي بين مبدئين متناقضين للدولة، وهما مصدر الأزمة: (مبدأ دولة العقيدة التي تجعل الجهاد غايتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفتها، ومبدأ دولة الرفاهية التي تجعل الشهوات الدنيوية غايتها والتغريب وسيلتها). وقد نسج مشايخ آخرون مثل الشيخ سلمان العودة في سلسلة محاضرات منها (ويل للعرب من شر قد اقترب)، والشيخ ناصر العمر الذي بقي متمسّكاً بموقفه المتشدد حتى النهاية.

في تلك السنوات التسعينية ولد شعار (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) الذي تبنّته شبكة تنظيم القاعدة ورفعه أعضاؤها شعاراً في غزواتهم الداخلية ضد الأجانب (الصليبيين كما يحلو للغة السلفية الجهادية أن تدمغها)، وهناك أيضاً، أي في التسعينيات، تشكّل خطاب السلفية الجهادية المتطرّفة، حيث شكّلت (مذكرة النصيحة) في تقييمها لدينية الدولة السعودية الأساس الأيديولوجي لتنظيمات جهادية تلتقي تحت عنوان (القاعدة).

لم يصدر عن أي من روّاد الصحوة السلفية الجديدة مراجعات أو تراجعات فكرية، رغم أن الزي السياسي الجديد بات واضحاً في إقتراب كثير منهم من البلاط الذي هم أنفسهم حاربوه، ووصموا خصومهم السابقين بـ (علماء البلاط)، فقد تحوّلوا الى بلاطيين بامتياز، ويديرون الآن نشاطات (لجنة المناصحة) تحت عباءة وزار الداخلية التي طالما حذّر الصحويون من الوقوع في أفخاخها كما في محاضرة الشيخ العودة (أخي رجل الأمن).

هي ذات الأفكار، إذاً، التي يكافح اليوم صانعوها الأصليون عن إزالتها من أذهان أنصارهم الحاليين، الذين أبى كثير منهم التخلي عما كان قد أفنى بعضهم عمره من أجل تطبيقها. هؤلاء لم يصلهم خبر انسحاب مرشديهم الروحيين وقادتهم العقائديين من الساحة التي أشبعوها من أفكار في الجهاد والقتال، وإن لم يرفقوا إنسحابهم ببيان رسمي يقضي بسحب تلك الأفكار من التداول الشعبي، فقضوا نحبهم على ذمة الرواية الأولى. أما البعض الآخر فحالفه الحظ فوقع أو إستوقع به فصار في عهدة (لجنة المناصحة) المؤلفة من الصحويين السابقين بوجه جديد، فخضعوا تحت تأثير دورة عقدية مكثّفة من أجل تطهير أذهانهم من أفكار في التكفير والولاء والبراء.

في الخامس والعشرين من نوفمبر الماضي، نشرت صحيفة (الوطن) السعودية نبأ الإفراج عن 1500 شخص رجعوا عن (فكرهم التكفيري المتشدد) والدعوة الى (الجهاد وتكفير حكام المسلمين وعلمائهم وعامة الناس، والمطالبة بدولة إسلامية واحدة). ونقل الصحيفة عن الشيخ محمد النجيمي، عضو اللجنة أن المفرج عنهم (تمت مناصحتهم وثبت لدى اللجنة عودتهم عن الأفكار التي اعتقلوا بسببها).

وقال النجيمي في استعراضه لدور اللجنة منذ إنشائها قبل ثلاث سنوات، أن الأخيرة عقدت أكثر من 5000 جلسة لما يقرب من 3200 شخص إشتبه في اعتناقهم الفكر التكفيري. ولم يوضّح النجيمي ما إذا كان تكفيريون آخرون رفضوا التراجع عن أفكارهم المتشددة الداعية الى تظافر جهود (أخوة السلاح والجهاد) من أجل قلب الأنظمة وإعادة إحياء (دولة العقيدة).

الصحيفة ذكرت بأن هؤلاء المفرج عنهم نبذوا أيضاً دعوة زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الى (إخراج المشركين من جزيرة العرب)، رغم أن نسبة الدعوة الى إبن لادن تفتقر الدقة، فهي الدعوة التي حمل لواءها وبشّر بها أعضاء في (لجنة المناصحة)، وهم من طالبوا أيضاً بإعادة أسلمة الدولة على أساس تطبيق الشريعة والحدود وعقيدة الجهاد.

نشروا التطرف وصاروا مناصحين!

من الواضح، أن الموضوعات التي تشتغل عليها اللجنة هي ذاتها التي كانت نقاط ارتكاز في مشروع السلفية الجهادية الذي انطلق في مطلع التسعينيات على أيدي مشايخ الصحوة..مفاهيم (التكفير، الولاء والبراءة، الموالاة، طاعة ولي الأمر، مستلزمات البيعة، مظاهرة المشركين، إخراج المشركين من جزيرة العرب) كانت إشتغالات الصحويين في ذلك العقد. إن إعادة تفسير هذه المفاهيم من قبل مائة عضو على الأقل من المتخصصين في الشريعة والعلوم الحديثة مثل علم النفس، وعلم الاجتماع وغيرهما يأخذ طابعاً مدرسياً محض، حيث تخضع العناصر التكفيرية إلى دورة تعليمية تدور حول الموضوعات الإشكالية، وتستمر لمدة خمسة أسابيع تنتهي بإجراء إمتحانات ومنح شهادات براءة.

لن نقلل من أهمية نشاط اللجنة، وإن كان تحت إدارة الدولة وخدمة لأهدافها الخاصة، خصوصاً وقد تحوّلت سهام كثير من التكفيريين في السنوات الأخيرة إليها، فهي مسؤولية شرعية وإنسانية تقع على عاتق من تورّط سابقاً في تعميم أفكار تكفيرية مازالت آثارها واضحة حتى اليوم، ولكن ثمة ثغرات كبرى تعترض هذه اللجنة. فالمناصحة التي يخضع لها المعتقلون على خلفية حوادث أمنية، تغفل الحاجة الى مراجعة فكرية شاملة ليس داخل جدران المعتقلات ومراكز التأهيل الأيديلوجي التابعة لوزارة الداخلية، بل في الهواء الطلق وخصوصاً أمام المجتمع السلفي الكبير الذي مازال يتلقّى الأفكار ذاتها بصيغ مختلفة وربما بلغة مخففة، ولكن مع الإحتفاظ بالمضمون. ولذلك، يبقى السؤال مطروحاً: ماهو السبب في اعتناق الآلاف من الشباب في السعودية الفكر التكفيري؟ ولماذا لم تتوقف قافلة المقاتلين السلفيين المنطلقين من (ديار التوحيد) الى العراق ولبنان بعد ثلاث سنوات من تشكيل لجنة المناصحة؟ ولماذا تم اكتشاف بعض التائبين في مخيم نهر البارد، وفي المشاريع الإنتحارية في العراق؟ ولماذا مازال التمثيل السعودي في قوائم المقاتلين الأجانب هو الأعلى، وأن بعضهم دخل الى العراق خلال السنوات الثلاث الماضية؟

أسئلة تنتجها حقائق على الأرض، حيث شبكات تجنيد الشباب تعمل بلا هوادة وتحقق نجاحات باهرة في توسعة قاعدة انتشارها التنظيمي، فمازالت مضخّات الدعوة السلفية قادرة على صنع خطاب تعبوي تفيد منه التنظيمات المسلّحة في الداخل والخارج، وهي تقطف ثمار ما يشيعه المشايخ في المساجد، والمراكز الدعوية، والكتب الشعبية، والمواقع الشخصية للعلماء والدعاة على شبكة الإنترنت من أفكار متطرفة، وفتاوى تكفيرية، ورسائل تحريضية غير مباشرة.

هؤلاء الذين يجهرون بتوبة مجّانية داخل الغرف المغلقة، ليسوا هم أنفسهم حين يخرجون منها، فبعضهم بقي وفيّاً لذاكرته القتالية، وقد لا يتطلب الأمر بجماعات منهم جهداً كبيراً كيما يستعيد ذكرياته جنباً الى جنب رفاق دربه، بل بعضهم يعتبر التخلي عن السلاح، خيانة للعهد الذي قطعه على نفسه حين بدأ هجرته الأولى الى أفغانستان بتشجيع من العلماء والأمراء.

ليس الأمر متعلقاً بقناعة ظرفية تزول بزوال المؤثر، ولا هو متوقفاً على نجاح لعبة الإغراء مع من زهدوا في الدنيا وآثروا الموت قتلاً في سبيل عقائدهم، وإن نجح الأسلوب مع بعض من دارت عليه الدوائر، فلم يجد غير القبول بالمثلث المعيشي: الوظيفة، البيت، الزوجة، كخيار قهري يستدرج هؤلاء للذوبان في المجتمع. لا، ليس الأمر على هذا النحو، فبعض من يخرج من السجن يعود الى صفوف المجموعات التي أخرج منها، وبعضهم يعود إلى حيث سوح الجهاد مفتوحة للقتل والقتال، وحيث لا سلطة عليهم سوى سلطة (أمير الجهاد) مجهول الهوية غالباً.

من حق أولئك الذين يتمسّكون بالحاجة الى إستراتيجية دينية شاملة، أن يتوجسوا خيفة من الأخطاء المغفول عنها من قبل (لجنة المناصحة)، إذ لا يمكن لشباب تربى على عقائد متطرّفة في الولاء والبراء وتكفير الآخر لسنوات طويلة، ثم إذا بهم في زمن قياسي يكفرون بما آمنوا به، وترسّب في قعر ذهنياتهم، وترجموه الى أعمال ميدانية ودموية، فلو صدقوا لقتل بعضهم بعضاً، لأنهم لابد أن يكتشفوا طعم الخديعة التي ذاقوها طيلة سنوات ماضية.

ثم أليس مستغرباً أن يتوب عشرة في السر، وتكشف التقارير سواء في الخارج أو الداخل عن مئات يتم القبض عليهم أو تتم ملاحقتهم في العلن، فأين الخلل؟، وماهي المصادر التي غذّت الأجيال الجديدة بأفكار الولاء والبراء والتكفير، فهل يعقل أن التنظيمات السريّة تملك قدرة أسطورية تفوق بمرات قدرات وإمكانيات المؤسسة الدينية الرسمية وقنوات الدعوة الفضائية والإلكترونية، بحيث تعجز عن القيام بعشر ما تقوم به تنظيمات سريّة تعمل تحت الأرض وتفتقر الى وسائل التعبئة العلنية.

أليس ما يدعونا ذلك لوقفة مع التواشج المريب بين مصادر التعبئة الدعوية من جهة والعناصر المسلّحة من جهة ثانية، إذ لا يمكن أن نبحث في مكان آخر كيما نجد تفسيراً منطقياً لهذا التدفق المتواصل لعناصر قتالية للخارج، ثم نبحث عن جهة ما تسللت للداخل كيما تقنعهم بالخروج، فيما نعلم يقيناً بأن بضاعة التكفير محليّة الصنع، وأن مجرد تصديرها للخارج لا يلغي هويتها ولا يغير في شهادة منشأها.

يتفق المراقبون على أن المشكلة ليست محصورة في وجود عناصر متشدّدة، تحاول أن تشيع الموت في كل أرض يطأونها، ولكن المشكلة في الفكر المتطرف الذي لم تفتأ منابعه تفيض بغزارة في المناهج التعليمية، والخطب الدينية في المساجد والجوامع، وفي المساجلات العقدية على مواقع الإنترنت، وإن مجرد مطالعة سريعة في محتوياتها سيكتشف المرء خطورة المضمون التفجيري لتلك الأفكار التي لا ترى في الآخر إلا رجساً يجب زواله بكل الوسائل الممكنة، وفي الذات قداسة يجب أن تغمر العالم ولو بقوة السلاح وإفناء من يقف في طريق انتشارها.

ولذلك، من حق الخائفين من تسريح التائبين عن أفكار التطرّف أن يفصحوا عن تحفّظاتهم. أحدهم قال بأننا نخشى أن تكون هذه الطريقة الوحيدة لخروجهم من السجن، ثم يعودون لما عاهدوا أمراءهم عليه، فيقتِلون ويُقتَلون، فإن لم يجدوا من يحضنهم من رفاق الدرب في الداخل، حملوا أرواحهم على الأكف وقدّموها لمن ينتظرها منهم خلف الحدود، في العراق، أو أفغانستان، أو لبنان وغيرها من بقاع تصدق عليها (دار حرب وجهاد).

آخر تساءل عن سبب كثرة المتطرفين في السعودية، ولماذا يتم القبض على الغالبية منهم في الخارج، وألم يحذّر مسؤولون عراقيون من أن شباباً سعوديين من أتباع المذهب السلفي يتحولون الى قنابل بشرية، فلماذا بعد كل تلك التحذيرات مازال السعوديون هم الأكثر عدداً، والأسهل صيداً، والأسرع موتاً أو إعتقالاً؟.

الحوالي: السعودية بلد إلحاد وفساد

ماذا فعلت الحكومة؟

سؤال كان برسم وزارة الداخلية طيلة أربع سنوات خلت، ولابد أن يأتي يوم يتساءل فيه أهالي الضحايا قبل غيرهم عن سر موت أبنائهم دونما رقيب ولا حسيب، فهل عجزت أجهزة الرقابة عن صيانة أرواح من زعمت بأنها وجدت لحماية أرواح مواطنيها وسلامتهم، فلماذا بقي عدد السلفيين السعوديين مرتفعاً بل والأعلى بين المقاتلين الأجانب، فمن سهّل مهمة خروجهم، وماهي الأفكار التي هضموها وقذفت بهم خارج حدود الديار، وماهو دور (لجنة المناصحة) في الحد من ظاهرة هجرة السعوديين الى الخارج. فإذا كان العراق حالة خاصة، وأن المهاجرين الذين قدموا اليه إنما جاءوه في الفترة الأولى من سقوط بغداد تحت الإحتلال الأميركي في أبريل 2003، فما خبر لبنان، الذي تدفّق إليه بحسب أرقام خبراء القاعدة نحو 300 عنصراً جاءوا إليه عبر مطار بيروت الدولي في نهاية سنة 2006 ومن مطارات خليجية.

قررت الحكومة أن تبني جداراً إلكترونياً على الحدود مع العراق، ورصدت ميزانية ضخمة لإتمام المشروع، وفرضت تدابير صارمة على سفر الشباب الذين يغادرون ذهاباً دون عودة، ولاحقت الحسابات البنكية لعدد من الأشخاص والجمعيات الخيرية، ولكن السعودي السلفي مازال في رأس القائمة، لماذا؟

لابد هنا أن نلفت الى أن وزير الداخلية وفريقه لم يدركوا حجم الكارثة التي يمكن أن تلحقها عمليات التجييش المتواصلة للشباب كيما يموتوا فرادى أو جماعات أو يقعوا في قبضة أجهزة الأمن الخارجية: السورية، العراقية، اللبنانية، الى جانب أجهزة أمن دولية. لكن رسالة عوائل القتلى أو المعتقلين من أبنائهم والذين بلغوا أعداداً كبيرة ومقلقة قد أحدثت فزعاً مقلقاً لدى الحكومة السعودية، فليس من المنطقي ولا الإنساني أن يفنى المئات في مشاريع موت عبثية خدمة لأهداف مجهولة غير تلك التي مزقوا أجسادهم من أجلها. هؤلاء، أي عوائل القتلى والمعتقلين، هم من أثاروا مخاوف الحكومة وقد ينقلبوا عليها في أية لحظة، لأن هناك من تسلل إلى بيوتهم وسرق أبناءهم، وقد يكون المتسلل مرتبطاً بإحدى الجهات الحكومية.

لا شك أن العائلة المالكة وخصوصاً الأمير نايف المسؤول الأمني الأول، لا ترغب في يوم ينتفض فيه المجتمع السلفي عليها، وهي، والكلام عن العائلة المالكة، التي ترى فيه الخزّان البشري الذي تعتمد عليه في تسوير سلطانها، ولكن كأي مجتمع لا يود أيضاً أن يكون وسيلة إبتزاز بيد أحد حتى لو كان من يغدق عليه المال والإعطيات. ولذلك ترى أجهزة الأمن تقبض وتبسط، فتبطش بيد وتربت بأخرى، ولم يكن مصادفة أن يكون الإعلان عن الكشف عن شبكة من عناصر (الفئة الضالة) يتزامن مع الإفراج عن دفعة من التائبين عن الأفكار المتطرفة، وكأنها تضطلع بمهمة تنظيم دورات متسلسلة للعناصر المتشددة المسجّلة في قوائم تنتظر موعدها تباعاً.

في ديسمبر 2005، أعلنت اللجنة عن الإفراج عن 400 عنصراً من الذين (عادوا الى جادة الصواب) حسب بيان اللجنة. والغريب بأن هذا الإفراج جاء في ظل مزاعم ساقها أعضاء بارزون في اللجنة ورددها ولي العهد الأمير سلطان على مدار سنة ونصف بأن (الفكر اضمحل بين هؤلاء الشباب بنسبة تصل إلى 80% أو أكثر، ولم يعد الفكر متمكناً من أغلبيتهم الساحقة، حيث أصبحوا ينظرون إلى المجتمع نظرة إيجابية وإلى الدولة أيضاً عكس السابق). ولكن جاءت المعطيات اللاحقة لتسقط صدقية المزاعم تلك، مع تزايد أعداد المعتقلين وتزايد المفرج عنها بما يخلف النسبة المذكور. ففي أكتوبر 2006، أعلن رئيس لجنة المناصحة في وزارة الداخلية سعود المصيبيح أنه جرى الإفراج عن أكثر من 700 موقوف ثبت خلال مناصحتهم على مدى السنوات الثلاث الأخيرة (من 2003 ـ 2006) (عدولهم عن الأفكار والمعتقدات الهدّامة الضارة بأمن وطنهم ومجتمعهم).

وفوجئنا في نوفمبر الماضي أن العدد تضاعف، حيث بلغ عدد المفرج عنهم 1500 عنصراً، تراجعوا عن الفكر التكفيري، فيما تزايد عدد المعتقلين من خلايا القاعدة التي تخطط لشن هجمات على منشئات نفطية واغتيال شخصية أمنية. فأيهم نصدّق، هل الأرقام المعلن عنها من قبل أعضاء (لجنة المناصحة)، أم مزاعم النجاح القياسي الذي حققته دونما دليل حتى من مصدرها غير المحايد.

أليس في ذلك كله توهين لعقول الناس، الذين انتظروا وقفة صدق مع قضية بالغة الخطورة ومن قبل لجنة يفترض امتثالها لتعليمات دين يحثّ على الصدق، ويعتبره سمة الإنسان المؤمن، فكيف يعوّل على لجنة تتوسل التضليل دليلاً والذريعة خماراً لكي تخفي ما أخفقت فيه، ولا يضر ذلك بجهد نزيه تبذله من أجل إنقاذ شباب غرر بهم من كان أولى بالنصح، حتى لا يخوضوا في دماء الأبرياء خوضاً، ولكيلا يقول من أراد بديننا سوءً إن نبيهم يأمر بقتل الأبرياء ويستهين بأرواح من لا ذنب لهم سوى أنهم من غير ملة.

الصفحة السابقة