دولـة الـغـزو

نشرت صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية في العاشر من يناير خبراً مفاده أن (الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض) برئاسة الأمير سلمان بن عبد العزيز تسعى إلى تحويل منطقة الدرعية التاريخية إلى مركز ثقافي، وسياحي على المستوى الوطني وفقا لخصائصها التاريخية، والثقافية، والعمرانية، والبيئية. وتقضي الخطة، بحسب عبد اللطيف آل الشيخ عضو الهيئة، ترميم المواقع، والمنشآت الأثرية، وإعادة تأهيلها، وإنشاء المؤسسات الثقافية التراثية. وتشمل إستهدافات الخطة، تحويل حي الطريف إلى متحف مفتوح من خلال تأهيل المنشآت الأثرية في الحي، بعد توثيقها وترميمها، وتوظيف أبرز المنشآت المعمارية لاستيعاب مؤسسات ثقافية متحفية، أو أنشطة وفعاليات ثقافية تراثية، وتوثيق العناصر المعمارية في حي الطريف بصرياً ومساحياً وأثرياً، كما تم تنفيذ أعمال التوثيق للعناصر المعمارية في الحي، ضمن ثلاث مراحل تشمل المرحلة الأولى، جامع الإمام محمد بن سعود، وقصر سلوى، وتتضمّن المرحلة الثانية قصر إبراهيم بن سعود، وقصر فهد بن سعود، أما المرحلة الثالثة فتضم قصر فرحان بن سعود، وقصر مشاري بن سعود، وقصر تركي بن سعود، و(قوع) الشريعة (الساحة الشرقية لقصر سلوى). وسيتم عرض جوانب الحياة اليومية في فترة الدولة السعودية الأولى في متاحف عامة، ضمن مجموعة من المباني الأثرية التي بدأ ترميمها في حي الطريف، وإنشاء أربعة متاحف متخصصة في حي الطريف تشمل متحف الحياة الإجتماعية، ومتحف الحرب والدفاع، ومتحف الخيل، ومتحف التجارة والمال..

يثير هذا الخبر قضيتين كبريين، الأولى الآثار التاريخية في الديار المقدّسة بصورة خاصة والجزيرة العربية الواقعة ضمن حدود الدولة السعودية بصورة عامة. الثانية: الهوية، على أساس أن إحياء التراث يمثل جزءً جوهرياً من تمظهرات الهوية الوطنية في أي بلد.

في الحديث عن القضية الأولى، تبرز أمامنا تحقيقات المعماريين الحجازيين مثل سامي عنقاوي الذين تحدثّوا عن زوال أكثر من 90 بالمئة من الآثار التاريخية في المدينتين المقدّستين، في عملية تدمير متسلسل أفضى إلى محو شامل للمشهد التاريخي وعبق الرسالة الذي كانت تعكسه بيوتات النبي صلى الله عليه وسلم وأهله بيته وزوجاته وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين.

نداءات ومناشدات متواترة صدرت عن علماء المسلمين والآثار للحكومة السعودية، من أجل رفع معاول الهدم عن آثار الاسلام في الديار المقدّسة..فقد كانت عقيدة الردم تتوسّل بقوة الدولة، فما أبقت أثراً خالداً، ولا معلماً سامقاً إلا كانا هدفاً للزوال، لتنهض مكانها عمارات ناطحة للسحاب، ومراكز تجارية، ومواقف للسيارات، تعود ملكيتها لأمراء من العائلة المالكة..

آثار تاريخية موغلة في القدم وجليلة في القدر حضنتها الجزيرة العربية، ولكنها زالت بفعل فاعل، أو جهل الغالب، والنتيجة واحدة. فقد كانت هذه البلاد من كل زواياها متاحف أثرية مفتوحة، ولا غرابة في ذلك، فقد كانت محضناً لحضارات وأديان العالم، وتركت بصماتها وآثارها في بقاع مختلفة من هذه البلاد. فهل آثار الدرعية أشدّ أهمية من آثار مكة المكرّمة والمدينة المنورة، حتى تحوز الأولى على هذه الأهمية الإستثنائية، أم أن للأمر بعداً آخر؟

أما القضية الثانية، أي الهوية، فإن نقطة الإنطلاق الأولى فيها تبدأ من تحديد مواصفات الدولة السعودية، إن كانت وطنية أم فئوية. فمن بدهيات الهوية، أن تخليقها يتوقّف على طبيعة العناصر الضالعة في تكوينها، وكل ذلك يعتمد على السؤال التالي: أي هوية نريد، وطنية أم مناطقية؟ وبات معلوماً أن الهوية الوطنية تتشكّل من مشتركات عامة بين فئات المجتمع، ولا يمكن لمكوّن خاص أن يحوز على دمغة الوطنية، ما لم يكن جزءً من ذاكرة وتراث المجتمع بأطيافه كافة. فما بالك إذا كان المكوّن للهوية ينطوي على عنصر إستفزاز، ويستدعي ذكريات مؤلمة للمناطق والفئات الأخرى.. فثمة أماكن ليست محايدة في هذا البلد، بخلاف أمكنة مثل مكة المكرمة والمدينة المنورة التي تمثّل مكوّنات في الهوية الإسلامية والوطنية والإنسانية، فليس هناك خلاف على كونهما كذلك.

أما الدرعية، فهي بلا ريب مكان غير محايد، فقد مثّلت قاعدة إنطلاق للغزو على المناطق الأخرى، ومنها تحرّك الجيش العقائدي لآل سعود، وأحدثوا المجازر والقتل في سكّان المناطق الأخرى..من الدرعية انطلق الجيش نحو الطائف وزرع الموت في أرجائها، وأخرج النساء والأطفال من البيوت وأذاقهم الجوع والعطش، وأحرق المكتبات العامة، وردم الآبار، وقتل العلماء.. وتكرّر المشهد الدموي في مناطق أخرى من الحجاز، وعسير والأحساء، تمهيداً لإقامة دولة، ولكن بهوية سلفية.

في الدرعية ظهرت فكرة تكفير المجتمعات، ومنها إنطلفت شرارة الحروب على المناطق والدول المجاورة، وعلى ترابها تبرعمت نواة دولة الغزو، وبذلك ارتبطت الدرعية في ذاكرة غالبية السكّان بالقتل والسبي والسلب، ما يجعلها عنصراً تقسيمياً وليس توحيدياً، ومناطقياً وليس وطنياً.

من حق أولئك الذين بنوا مجدهم على الغزو والإستعمال المفرط للقوة والقسوة، أن يفخروا بـ (الدرعية)، ولكنه ليس حقاً ملزماً للضحايا، الذين لا يجدون فيها ما يجلب الفخر بالنسبة لهم، وإلا خانوا دماء آبائهم وأجداهم وكرامتهم، وفوق ذلك كله، ليس في الدرعية ما يحسب مشتركاً وطنياً، فهي منطقة خاصة، تحتفظ بتراث خاص، وتشكّل ذاكرة خاصة لفئة خاصة، ولا شأن للآخرين أن يقيموا وزناً لما يُضفِى عليها، فهي، بالتأكيد، ليست ذات صفة وطنية، لأن ذلك خلاف الحقائق التاريخية والسياسية والثقافية، وأيضاً النفسية، فالدرعية كانت قاعدة لدولة الغزو، ومنها تنُسج هويتها.

الصفحة السابقة