ملف الإنتهاكات كبير، والسعودية لا تهتم بتضخمه

قويّة في الداخل على شعبها.. ضعيفة في الخارج أمام خصومها

يحـي مفـتي

محليّاً، تبدو الحكومة السعودية ـ في هذه الحقبة من التاريخ ـ نافخة عضلاتها بهرمونات مصنّعة في مواجهتها مع شعبها. ويسود الأمراء شعورٌ مغالى فيه من الإعتزاز بقوّة الذات في مقابل دعاة الإصلاح وبرنامج الإصلاح السياسي المزعوم الذي توارى ومات حتف أنفه منذ ثلاث سنوات على الأقل. ومقابل (العنترة) الحكومية داخلياً، تبدو السعودية مهلهلة سياسياً على الصعيد الخارجي، فمكانتها وسمعتها في محيطيها العربي والإقليمي وصلت الى الحضيض بسبب العديد من الإنتكاسات في السياسة الخارجية أشرنا إليها في هذا العدد كما العديد من المقالات في أعداد كثيرة من هذه المجلّة.

لماذا تبدو الحكومة السعودية مفتولة العضلات داخلياً، خاوية خارجياً؟ ما هي الاستراتيجية التي تنتهجها العائلة المالكة في التعاطي مع موضوعات الإصلاح الداخلي ومنظمات حقوق الإنسان الخارجية، بما فيها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والذي أصبحت فيه السعودية عضواً؟

تبدو السعودية اليوم ـ أكثر من أيّ وقت مضى في تاريخها الحديث، أي منذ تأسيسها ـ غير عابئة لا بالإعلام الخارجي، ولا بالبيانات والتنديدات بممارساتها المنتهكة لحقوق مواطنيها كما حقوق المقيمين العرب والأجانب، وكأنها امتلكت حصانة تجاه هذه المسائل لم تكن مألوفة من قبل.

السعودية التي كانت في يوم ما تستفزّ لمجرد نشر خبر صغير في صحيفة في آخر بقاع العالم، هي ليست السعودية اليوم، التي صار (جلدها خشناً) جعلها عديمة الإحساس أو قليلته.

إن محور عمل العائلة المالكة هو البقاء في السلطة. وكانت الإنبعاثة التي حدثت على الصعيد الداخلي بدايات 2002م، وتصاعد المطالبة بالإصلاح السياسي وغيره، ألجم العائلة المالكة لفترة من الزمن. والسبب ليس ضعف قوة النظام داخلياً، بقدر ما هو انتظار لنضج الأوضاع الإقليمية والدوليّة. فالعائلة المالكة، تعتقد صادقة أو واهمة، أن الداخل ـ مهما بلغت قواه ـ لا يشكل خطراً على سيطرتها ما لم يتمدّد بعوامل الوضع الإقليمي والدولي، وأن خشية تلك العائلة بالذات تأتي من جهة واحدة، هي ذات الجهة التي تقوم بحماية النظام السعودي نفسه: أميركا والغرب. في تلك الفترة، شعرت العائلة المالكة أن يدها مقبوضة، وأن الولايات المتحدة شديدة الغضب عليها بسبب مشاركة السعوديين فكراً ومالاً ورجالاً في تفجيرات نيويورك وواشنطن. لهذا لم تكن العائلة المالكة يومئذ في وارد حسم الوضع الداخلي إن كان ذاك يؤثر على جهودها الحثيثة لإعادة ترطيب علاقاتها مع واشنطن.

المفتي: المزيد من السلطات

بدا للبعض حينها أن الأمراء قد اختلفوا فيما إذا كانت حلحلة الوضع الداخلي مفيدة في تجسير العلاقة مع واشنطن، أو أنها تؤدي الى انهيارات في النظام. حينها بدا وكأنّ هناك أمراء حمائم (الملك الحالي عبدالله) مقابل فريق الصقور الأكثر قوة ونفوذاً (السديريين).. ولكن مع الزمن تبيّن أن الجميع صقور فيما يتعلق بالإصلاح الداخلي. فبمجرد أن تغيّر الوضع الإقليمي في العراق، وبدت الإنتكاسة الأميركية واضحة ـ ساهم فيها السعوديون أنفسهم عبر وهابييهم ـ حتى غيّرت واشنطن استراتيجيتها بشأن مزاعمها بنشر الديمقراطية.. بمجرد أن حدث ذلك، تنمّرت العائلة المالكة، فقد وجدت أن واشنطن بحاجة اليها سياسياً ومالياً لترتيب اوضاع الهزيمة الأميركية بل هزيمة الحلف الأميركي ـ العربي الذي تشارك فيه ما يسمى قوى الإعتدال (مصر والأردن وحكومة عباس والسعودية).

منذ ذلك الحين، والسعودية اعتبرت نفسها وكأنها قد حصلت على شيك مفتوح لتقوم بما تريد القيام به، محليّاً بالدرجة الأولى، وإقليميّاً. وإذا كانت اللعبة السياسية المحلية مفتوحة على آخرها لتقوم العائلة المالكة وحلفاؤها النجديون السلفيون/ الوهابيون بما يريدون، خاصة وأنهم يفعلون كل ما يريدون فعله تحت مظلّة الدولة التي يسيطرون عليها بالكامل.. إن تلك اللعبة نفسها لا يمكن للعائلة المالكة أن تتحرّك فيها بمرونة على الصعيد الإقليمي، كونها ترتبط بأقطاب سياسية تمثلها دول لا تستطيع الحكومة السعودية أن تمضي فيها بدون تعقّل، وإن كانت أبدت تغييراً كبيراً في سياساتها الخارجية حتى سميت بسياسة (البولدوزر).. بولدوزر بدون أسنان في حقيقة الأمر.

على الصعيد المحلّي، تصاعدت حدّة الإنتقادات لممارسات الحكومة في مجال انتهاكاتها العديدة والمستمرة بل وغير المسبوقة لحقوق مواطنيها. فمن حيث العدد لم يمر بالمملكة في تاريخها كلّه، أن واجهت سيلاً متواصلاً ومتصاعداً من الإنتقادات كما هي عليه اليوم، وبالخصوص خلال الأشهر الثلاثة الماضية. فمنظمة العفو الدولية، وهيومان رايتس ووتش، والمنظمة الدولية لمكافحة التعذيب، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ومؤسسات الأمم المتحدة بمن فيهم مقرر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أصدروا بيانات ودراسات ومناشدات ونداءات عاجلة ورسائل للملك والأمراء لوقف الإنتهاكات. ومع هذا لم تشهد المملكة أيضاً في تاريخها إهمالاً وتجاهلاً واستسخافاً لكلّ هذا.. حيث لم تستجب الحكومة السعودية لأيّة مناشدة، ولم ترد على أية رسالة، ولم تطلق معتقلاً واحداً جرى حشد الرأي العام الحقوقي العربي والدولي من أجله. وأدلنا على ذلك، المعتقلون قبل ما يقرب من العامين للإصلاحيين في جدّة، حيث لازالوا في السجن؛ فضلاً عن استمرار اعتقال مجموعة من النشطين سياسياً من الشيعة منذ عام 1986، تدخلت جهات دولية حقوقية عديدة ولم يطلق سراحهم، وهي أطول مدّة في تاريخ المملكة في ميدان الإعتقال السياسي.

ماذا يعني هذا؟

إنه لا يعني فقط الإستخفاف، بل يعني أيضاً عدم الإدراك الواعي لطبيعة السياسة الدولية. فإذا كان توثيق العلاقة مع الغرب يطلق يد العائلة المالكة اليوم لتفعل ما تريد وتتجاوز أبسط المفاهيم الحقوقية، فإن سجل السعودية غير محمي على صعيد الأمم المتحدة، ولا على الصعيد الشعبي الدولي كما على الصعيد الإعلامي. صحيح أن (جلد العائلة المالكة خشن) كما يقال، ولم يعد ذلك الجلد يتأثر كثيراً بالإعلام ولا ببيانات حقوق الإنسان ولا غيرها، ولكن هذا الجلد الخشن نفسه يعني (عدم الإحساس) بالخطأ وبالخطر الكامن.

الهم الأساس بعد أن سادت لغة الصقور وتصاعدت بين أمراء العائلة المالكة تمحور حول (إعادة السيطرة) على الوضع الداخلي.. أي إعادة المواطنين الذين انتعشوا في السنوات الأخيرة بسبب ضعف السلطة وتراجع واضح في شرعيتها ومكانتها، وقيامهم بـ (دفع) الخطوط الحمراء وتوسعة هامش الحركة والحرية في التعبير.. أرادت العائلة المالكة إعادة المواطنين الى المربع الأول، وطرق رؤوسهم برسالة واضحة: (آل سعود أقوياء ويمسكون بزمام الأمور، والمؤسسة الدينية السلفية رديف نستخدمها ككلب وعصا معاً في مواجهتكم، وأن من يطالب بحقوقه السياسية والمدنيّة ليس له إلا السيف).

نايف: المزيد من القمع

في هذا الإتجاه، كان لا بدّ للعائلة المالكة أن تستند على حليفها الديني/ الوهابي/ النجدي، لتحقيق تلك الغاية من أجل ديمومة السيطرة على البلاد وإدارتها حسب الأهواء كما هو واضح. وهذا هو تفسير (صعود نجم التيار الديني الوهابي) مكرراً خاصة منذ نحو عامين أو أكثر. فالوهابية المتهمة بتفريخ العنف المحلّي والدولي، تعرضت لضغوط بعيد أحداث سبتمبر، اضطرت العائلة المالكة الى تخفيفها الى أقصى حدّ ممكن، عبر إعطاء الوهابية باليد اليسرى ما تأخذه العائلة المالكة منها باليد اليمنى، إمعاناً في تضليل الرأي العام المحلي والدولي الناقم على المؤسسة الدينية الرسمية، في محاولة للظهور بمظهر المستجيب للضغوط الغربية وترقيع الهوّة مع واشنطن.

الوهابية اليوم هي أقوى مما هي عليه في أي وقت مضى؛ فقد تصاعدت قوتها، ومنحت صلاحيات تجاوزت فيها قوانين الدولة، ويكفي أن نقرأ الصحافة المحليّة لنرى حجم التعديّات التي تقوم بها مختلف أجنحة التيار السلفي الرسمي، القضائية وهيئة الأمر بالمعروف ودعاة الوهابية وكتابها ومحرّضوها. لقد بلغ الإستهتار بالمواطنين حدّاً شكل مادة خصبة للإعلام المحلي وللمنظمات الدولية المتفاجئة من حجم التجاوزات في الأشهر الماضية بشكل خاص. والحقيقة هي أن العائلة المالكة ـ وكما كانت تفعل دائماً ـ تستخدم حليفها الديني في ضبط بقية المواطنين لصالح الحكومة بحجج دينية وبأدوات السلطة نفسها، لتعلن تلك السلطة براءتها من تجاوزات تلك المؤسسات الدينية، وتلقي بالتبعية عليها. إن تلك المؤسسات السلفية الرسمية المشرعنة من السلطة والمدعومة بأموال الدولة، وهي إذ ترى عجز الدولة، وترى تراخيها ـ من وجهة نظرها ـ في التعاطي مع الكفار والفاسقين والعلمانيين والصوفيين والروافض ودعاة الإلحاد ـ حسب التوصيفات الوهابية ـ أخذت موقع الدولة، وتصرفت ولاتزال كوكيل عمّا تريد الدولة/ العائلة المالكة تحقيقه.

إن ضبط الشارع وإشغاله بالتيار الوهابي المتطرف، وضرب القوى الإجتماعية بعضها البعض، كيما تستنجد جميعها بالعائلة الحاكمة كقاضي وحَكَمْ، يغيّر من طبيعة الصراع السياسي، من صراع مع السلطة على قاعدة الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين، الى صراع بين قوى تكفيرية متسلحة حتى الأسنان بدعم الدولة، وإصلاحية ضعيفة مهلهلة ترى العائلة المالكة أنها لا تشكل خطراً ويمكن التضحية بها لإشباع نهم الحليف المتوثّب لمعركة مع الخصوم المحليين.

باختصار السلفية الوهابية هي (كلب حراسة) للعائلة المالكة؛ وأداة لتحريف الصراع السياسي المحلي، كما أنها أداة تأديب من تريد العائلة تأديبهم على قاعدة دينية تفتعلها الوهابية كما هي العادة، وليس على قاعدة سياسية. فالإنشقاق السياسي لا يجري تفسيره سياسياً، بل يأتي الوهابيون لإعادته أو إحالته الى جذر ديني: صراع بين الإسلام والكفر.

ضمن هذه الأجواء، تستطيع العائلة المالكة ضرب من تريد، وسجن من تريد، وأغلب الضحايا هم من المواطنين العاديين الذين أصبحوا مادة الدرس الجديد الذي تريد الوهابية وآل سعود تلقين الناس إيّاه. أما الخارج بمعناه الحقوقي أو السياسي، فيمكن للعائلة المالكة ـ وهي تفعل ذلك دائماً ـ أن تزعم بأنها غير راضية عن ما يقوم به حليفها الديني، وأنها ستحقق في الأمر، الى غير ذلك من الكلام التضليلي. وبالنسبة للمنظمات الحقوقية، فإن أفضل وسيلة رأت العائلة المالكة انتهاجها معها فهي: التزام الصمت، فلا يرد على التساؤلات ولا على الرسائل ولا على أية قضيّة، وهو ما استفزّ ويستفزّ حتى مؤسسات الأمم المتحدة نفسها ومقررها في جنيف.

قد تكون هذه السياسة الحكومية عامل تدعيم داخلي لنظام الحكم، ولكنها في النهاية تجعل الإنشقاق السياسي/ المذهبي أكبر من أن يرقّع، وستنعكس تلك السياسة في المدى البعيد على بنيان الدولة ومستقبلها ككيان موحّد، فهناك مشاعر تتزايد باتجاه الإنفكاك عن الدولة. ملخص القول إن ما تقوم به الحكومة ناجح تكتيكياً، ولكنه مكلف استراتيجياً، وقد لا تشعر الحكومة ولا التيار السلفي (المتعنترين) بأنهما يخسران أرضاً، بل على العكس يعتقدان أنهما يعيدان تأكيد هيمنتهما. بيد أن هذا الشعور لا يلحظ وقائع التحوّل في مشروعية السلطة، كما مشروعية بقاء الدولة موحدة، وإنما فقط حجم القوة التي تمتلكها السلطة وحليفها، وهنا فإن أيّ تحول مستقبلي سيُبنى على حقيقة سقوط الدولة، والفئوية النجدية، من النفوس والعقول.. وبالتالي تطبيق ذلك السقوط على أرض الواقع.

العائلة المالكة لا تهتم كثيراً بما يقال في الخارج وإنما بمدى سيطرتها على الداخل. وهذا قصور في النظرة النهائية، لأن تجاوزاتها سيستخدمها المواطنون كما القوى الحليفة لآل سعود (اميركا) في أية مواجهة مستقبلية، أو إذا ما قررت واشنطن ابتزاز العائلة المالكة مالياً.

الصفحة السابقة