من مكة الى مدريد

قطار الحوار بلا سكة محلية

محمد السباعي

إنتهى في مكة المكرمة في السادس من يونيو الماضي (المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار) بإيحاءاته المواربة، ببيان وصفه مشاركون بأنه (ختم المصادقة) على مؤتمر (حوار الأديان) في مدريد. وبحسب أحد المشاركين، أن مؤتمر مكة لم يكن سوى ظاهرة إستعراضية خلت من أي جدول أعمال أو توصيات عملية لاحقة، وكأن المنظّمين أرادوا حشد تأييد واسع للخطوة اللاحقة، أي حوار الأديان.

لم يطل الوقت على جدل مضطرد بشأن مكان إنعقاد المؤتمر، بعد أن أثارت أنباء (الدعوات) التي بعثها المفتي العام الى خامات يهود لحضور مؤتمر (حوار الأديان)، وتصاعد نبرة الغضب في الوسط السلفي من خطوة كهذه تأتي في سياق تقارير متوالية عن علاقات سريّة بين الرياض وتل أبيب، ما يجعل السعودية هدفاً لحليفها الديني الذي يحاول درء عار (العلاقة مع اليهود والنصارى)، الذي طالما رمت به خصومها، وهدفاً أيضاً لضحايا السعودية في مواقع عديدة حيث يتسقطون الدليل الدامغ لتقويض دعاوى النقاء الديني والرمزية السياسية للعرب والمسلمين.

على أية حال، تلقّت العائلة المالكة الرسالة في مرحلة مبكرة، ووجدت أن إدارة حوار بهذا الحجم في محيط رفع أهله شعار (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ليست ممكنة، وقرّرت الذهاب الى منتصف الطريق حيث تلتقي مع هدف طموح عجزت عن أن تحققه بصورة منفردة وعلى أراضيها، فاختارت تقاسم الجائزة مع مدريد، ولعل في ذلك تذكير بماضٍ تليد يجعله حاضراً في الحفلة الحوارية.

بالمناسبة، ليس حوار الأديان إبتكاراً سعودياً، فقد سبقت الإعلان عنه سلسلة مؤتمرات بهذا العنوان كانت تعقد في العاصمة القطرية، الدوحة، وإلى ما قبل شهرين كانت الأخيرة تحتضن مؤتمر حوار الأديان الخامس في قطر بعنوان (القيم الروحية والسلام العالمي)، والذي ناقش إشكالية الحوار بين الأديان والبعد الروحي المشترك وأثره في التعايش السلمي والتواصل بين الأديان، واختتم المؤتمر أعماله بالإعلان عن تأسيس مركز قطر الدولي لحوار الأديان بإشراف جامعة قطر، كما تم الإتفاق على وضع هيكلية للمؤتمر تتألف من مجلس إداري وآخر إستشاري، تتمثل فيه الديانات السماوية الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية.

السعودية التي (تكافح) من أجل تحسين صورتها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وتقديم نفسها بوصفها راعية للتعايش والحوار والسلم الدولي، تواجه صعوبات جديّة في الداخل، حيث لا بنية ثقافية تحتية صلبة تؤهّلها للعب دور من هذا القبيل، ما لم تدخل في مواجهة مفتوحة مع حليفها الديني أو تجترح إستراتيجية جديدة تقوم على تعديلات جوهرية في أيديولوجيتها الدينية ومناهج التعليم الرسمي، ما يؤسس لثقافة تربوية تقوم على حرية الإعتقاد والتعايش السلمي بين المعتقدات، وحق المؤمنين بالأديان السماوية بكل فروعها في ممارسة شعائرهم في الأرض التي يعيشون عليها، بما في ذلك الجزيرة العربية، أسوة بما قامت به دولة قطر والإمارات والكويت والبحرين وغيرها. بكلمات أخرى، أن تسن الحكومة السعودية تشريعات تجيز للمسيحيين المقيمين في المملكة بممارسة شعائرهم في دور عبادة (كنائس) خاصة بهم، وهو ما يتنبّه له رجال الدين السلفيين الذين يرون في (حوار الأديان) مقدمة لاستحققات دينية مكلفة تجعلهم يخوضون منازلة الدفاع عن الذات وعقيدة (الولاء والبراء)، إذ ليس مقبولاً من وجهة النظر السلفية أن تكون الجزيرة العربية حاضنة لغير دين الإسلام.

يستحضر علماء الدين في الخط السلفي موقف الداعية الكبير الشيخ يوسف القرضاوي من مؤتمر (حوار الأديان) في قطر، ليس على قاعدة رفض الحوار بين الأديان، ولكن على قاعدة موقف سياسي من المشروع الصهيوني، ودور بعض علماء اليهود في إسباغ مشروعية عليه. نشير الى أن الشيخ القرضاوي عقد لقاءً مع بعض الخامات اليهود المعارضين للصهيونية، والذين يطلقون على أنفسهم اليهود الربانيين، الأمر الذي دفع بهم الى تعليق شارة مكتوب عليها (أنا يهودي ولست صهيونياً). بل أعطى الشيخ إشارات إيجابية بقوله (إن اليهود المتمسّكين بدينهم وبالتوراة غير المحرّفة قريبون جداً من المسلمين)، كما أشاد بموقف بعض اليهود المتضامنين معه سنة 2004 خلال زيارته الى لندن، وهؤلاء من اليهود غير الصهاينة.

تدرك السعودية بأن مبادرة حوارية من النوع الذي يستوعب الأديان السماوية الثلاثة غير قابلة للتسويق مالم يتم حشد أكبر قدر ممكن من المؤيدين في الداخل الإسلامي، وهو بالتحديد ما تم التخطيط له في مؤتمر علماء المسلمين في مكة. مشارك في المؤتمر نقل أجواء اليوم الأخير حيث تلى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الشيخ عبد الله التركي البيان الختامي، حين أكّد على إجماع المشاركين من العلماء على بنود الحوار واتفاقهم على موضوعة حوار الأديان، دون مجرد التصويت الشكلي على البيان بل اعتبر حضور المشاركين والاستماع لتلاوة البيان كافٍ لتسجيل الاجماع!. اللافت أن البيانات اللاحقة أكّدت على (رعاية) سعودية لحوار تعقده الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، و(استجابة) لـ (نداء علماء الأمة الإسلامية بعقد مذتمر عالمي لحوار يدعى له المعنيون بالحوار من مختلفة أتباع الرسالات الإلهية والثقافات). ثمة تأكيد متكرر من جانب الشيخ التركي على (إجماع إسلامي) على مبادرة الملك عبد الله، من خلال (نداء مكة المكرمة الذي أصدره علماء ومفكرو الأمة مؤخراً).

إذاً، لم يكن مؤتمر مكة مطلوباً لذاته، بل لم يستطع منظّمو المؤتمر ورعاته إخفاء الهدف من ورائه، فثمة عجز حواري داخلي يراد تغطيته عبر إستدانة خارجية من خلال حشد أكبر من المشاركين من علماء الأمة الإسلامية من المذاهب كافة كيما يوفّر مظلة واسعة لمبادرة الملك عبد الله في (حوار الأديان).

مع ذلك، جاء القرار المفاجىء بنقل مكان الحوار الى خارج المملكة، في إعلان مشترك سعودي ـ إسباني بإجراء حوار الأديان في مدريد في شهر يوليو الحالي. وبهذا جاءت الاستجابة السعودية لنداء علماء المسلمين ناقصة وتنطوي على أسئلة كبرى حول قرار نقل الحوار الى خارج الحدود.

يستدعي القرار السعودي الجديد ما طرأ قبل يوم من انعقاد مؤتمر مكة حين أصدر إثنان وعشرون عالماً سلفياً بياناً لاهباً ضد الشيعة والى حد ما الصوفية، الأمر الذي فسّره مراقبون بأنه رد فوري وصريح على أي مبادرة حوارية في الدائرة الإسلامية، وسيكون الأمر بالغ الصعوبة فيما لو قرر هؤلاء إصدار بيان مماثل يشنّون فيها حملة كراهية ضد اليهودية والمسيحية، بما يفسد الطبخة الحوارية السعودية، ويفتح ملف التشدد الديني المحصّن رسمياً، وقد يدفع حكومات ومؤسسات غربية لجهة تشديد الضغوطات على الحكومة السعودية من أجل الالتزام باستحقاقات الحوار بين الأديان.

وفيما يبدو، فإن ثمة تسويّة تمت بين الجناح السلفي المتشدد وجناح الملك عبد الله، بأن يتم نقل موقع الحوار الى الخارج على أن يلتزم العلماء المتشدّدون الهدوء خلال فترة إنعقاد مؤتمر حوار الأديان. وبحسب مصادر مقرّبة من الملك عبد الله، فإن أوساط الأخير أبلغت رسالة واضحة لهؤلاء العلماء بأن بياناتهم قد تثير عليهم ردود فعل من الخارج ما يضطر الحكومة إلى اتخاذ إجراءات متشددة ضدهم من أجل تخفيف الضغوطات الواقعة على الملك عبد الله شخصياً، بوصفه راعياً للمبادرة. ونقل أحدهم عن الأخير قوله لهؤلاء (لا تحرجونا مع الناس) وطالبهم (بتقدير حساسية الموقف) وخصوصاً في ظل تواصل الإتهامات على السعودية بوصفها مركزاً للتطرف الديني.

البيان السعودي بشأن مؤتمر مدريد جاء عاماً ومفتوحاً على تفسيرات متعددة، حيث نقلت (واس) في العشرين من يونيو الماضي بأن المؤتمر ستشارك فيه (شخصيات بارزة من مختلف أتباع الرسالات الإلهية من المتخصصين في الحوار وموضوعاته التي تتصل بحياة المجتمعات الانسانية وبالتعاون الدولي وحقوق الانسان وقضايا الأمن والسلام ولتعايش المشترك في العالم). وتلفت عبارة (الرسالات الإلهية) الى أن ثمة حساسية من ذكر الأديان بأسمائها، ما يجعل إختيار عنوان عام ومرن.

وبالرغم من التزام الجانب الأسباني الصمت حيال الإتفاق مع السعودية بعقد المؤتمر في مدريد، رغم أن الرياض تكفّلت بنفقات المؤتمر بصورة كاملة، وقد تأتي ثمرة زيارة ولي العهد الأمير سلطان في يونيو الماضي، إلا أن الصمت الأسباني قد يكون مقصوداً لجهة إبقاء السعودية في صورة الحدث بوصفها الراعية الأساسية للمبادرة، على أن تكون مدريد مجرد موقع محايد.

وفيما لا مؤشرات حتى الآن على مشاركة دينية سعودية سواء من أتباع المذهب الوهابي أو من أتباع المذاهب الأخرى الصوفية أو الشيعة في مؤتمر مدريد، فإن الإنطباع السائد محلياً وخارجياً بأن (حوار الأديان) جزء من حملة علاقات عامة سعودية، لا شأن له بتطوير إستراتيجية حوارية، فتلك مهمة تتطلب إشراك رجال الدين السلفيين المنقسمين ليس على الحوار فحسب، بل وعلى الدولة نفسها التي ينظر إليها على أنها ذات ولاية أدنى من ولاية العلماء، وهم وحدهم المخوّلين بتصنيف الموضوعات الشرعية، وبالتأكيد فإن حوار الأديان يقع في صلب إشتغالات العالم السلفي.

في محاولة لصنع ذاكرة حوارية سعودية، تستعيد الصحافة السعودية إحضار محاولات مهملة أو هامشية في السابق. فقد أدرجت صحيفة (الوطن) في 18 أبريل الماضي، مبادرة الملك عبد الله في سياق مسيرة حوارية، بحسب وصف الصحيفة، التي بدأت في أوائل السبعينيات الميلادية. وترصد الصحيفة بعض الحوادث الحوارية من بينها ثلاث ندوات للحوار في مدينة الرياض نظّمته وزارة العدل السعودية في مارس 1972 مع وفد من كبار رجال القانون والفكر المسيحي في أوروبا، تبعه لقاء الوفد الإسلامي في مدينة الفاتيكان في أكتوبر 1974 أعقبته لقاءات في باريس وجنيف وستراسبورج. وتمضي الصحيفة في سردها، حيث ذكرت ندوات حوارية جرت في عام 1992 حيث توجّه وفد من رابطة العالم الإسلامي الى كل من باريس والفاتيكان ومدريد تخللها إجتماع أعضاء الوفد بالبابا يوحنا بولس الثاني. وفي عام 1995، زار وفد إسلامي عالمي، حسب وصف الصحيفة، الفاتيكان وانتهى الحوار بين الوفدين إلى إبرام إتفاقية مشتركة وتشكيل لجنة دائمة بين المسلمين والكاثوليك تحت مسمى (لجنة الإتصال الإسلامي الكاثوليكي).

تثير هذه الفعاليات ملاحظات جديّة: أن تلك الفعاليات لم تكن جزءً من فعل ثقافي حقيقي يتجاوز إطاره البروتوكولي المحض، ويدخل في إستراتيجية ثقافية عامة، بدليل أن لا البيانات الدينية ومناهج التعليم الديني مسّها بعض الوحي الحواري بما يحول دون وقف فتاوى تكفير الأديان الأخرى، والتحريض على الكراهية الدينية وقتل (اليهود والنصارى). من جهة أخرى، أن تلك الفعاليات لم تدخل في الذاكرة العامة الشعبية والرسمية، فلا رجل الدولة يستحضرها في سياق (مسيرة حوارية) كما تزعم الصحيفة، بحيث يبنى على الشيء مقتضاه، ولا رجل الشارع يستدعيها من ذاكرته الحوارية بحيث تصبح مبادرة الملك عبد الله الأخيرة إمتداداً أميناً لمسيرة حوارية، وتعبيراً صادقاً عن ثقافة أصيلة في هذا البلد.

ما يظهر بوضوح أن السعودية قررت إختطاف عدد من المبادرات الرائدة في المنطقة، مثل حوار الأديان القطري، وحوار الحضارات الإيراني (الذي أطلقه محمد خاتمي خلال فترة رئاسته)، وحتى عملية السلام في الشرق الأوسط صارت السعودية أباً لها، كيما تبدو أمام العالم بوصفها قائد قطار حوار الأديان الذي (يشق طريقه لنشر الخير في ربوع العالم)، بحسب صحيفة (الوطن) السعودية.

المشكلة تبقى دائماً حتى إشعار آخر، كامنة في عزلة المبادرات السعودية الحوارية والتعايشية، لأنها غير مؤّصلة ثقافياً ولا عقدياً، وكونها ـ أي المبادرات ـ تصدر عن حاجة خاصة بالسعودية تتمثل في محو صورة نمطية علقت بها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ويكفي القول بأن قرار عقد مؤتمر (حوار الأديان) في مدريد يكشف حقيقة أخرى وهي أن الملك والمناصرين لمبادرته هذه ليسوا على استعداد للدخول في مواجهة المجتمع الديني السلفي من أجل تثبيت معادلة جديدة تقوم على التعايش مع الآخر، والحوار معه، والإقرار بحقه في الاعتقاد، وبالتالي فإننا أمام مناسبة إحتفالية لا تهدف أكثر من تثبيت الصبغة وطلاء الوجه.

وإذا قدّر للجان حوارية مشتركة إسلامية ـ مسيحية مثل (اللجنة الدائمة للحوار بين الأديان في الأزهر الشريف)، و(المنتدى الإسلامي العالمي للحوار والفاتيكان)، و(لجنة الإتصال الإسلامي ـ الكاثوليكي)، وغيرها من اللجان أن تبقى ذات تأثيرات محدودة، بالرغم من إستنادها على قناعة فكرية صلبة، فإن أي كلام عن حوار أديان غير مؤسس لا على قناعة فكرية ولا ينطلق من بيئة صديقة لهذا النوع من الحوارات، فإن ما يمكن إستشرافه في المستقبل أن مبادرة الملك عبد الله ستكون كمبادرته في الحوار الوطني تزفّ بحملة دعائية واسعة ثم تتآكل تدريجياً إلى أن تصبح مجرد مناسبة روتينية مقطوعة الصلة بالواقع والثقافة السائدة.

الصفحة السابقة