بيان فتنوي جديد

السلفيون مستاؤون من التقارب بين المسلمين

ناصر عنقاوي

لم تكد تنتهي الزوبعة العابرة بين العالم الكبير الشيخ يوسف القرضاوي وعدد من علماء الشيعة بعد مؤتمر مناصرة القدس الذي عقد في العاصمة القطرية، الدوحة، في الثالث عشر من أكتوبر الماضي والذي كان من ثماره إحتواء الأزمة الطارئة بين الشيخ القرضاوي وعدد من علماء الشيعة، حتى برز من لم يرق لهم التقارب بين المسلمين فأرادوها فتنة عمياء تعمّ بلاد المسلمين. فقد أبى بعض السلفيين الموتورين إلا إضرام نارها، وإبقاءها مشتعلة، ولأنه مذهب قائم على المناكفة وتفجير الخصومات، فقد هاله أن تنتهي الزوبعة ولمّا يقطف ثمارها، فتصنّعوا الحرص على موقع الشيخ القرضاوي، وطالبوا بما لم يطالب به لنفسه، ونسي هؤلاء أن ما قاله بعض عتاة السلفيين في الشيخ القرضاوي لم يقله أي منهم في اليهود. فهل بدأوا بأنفسهم وأحرقوا التراث الشتائمي السلفي ضد الشيخ القرضاوي، هذا التراث مازال يحضر على مائدته كل من أصيب في روحه وعقله وضميره.

العوّا.. قامة اسلامية شامخة

صحيفة (الوطن) الكويتية نشرت في 31 أكتوبر الماضي بياناً مشتركاً بعنوان (نصرة القرضاوي) وقّعه 29 عالماً سلفياً وأستاذاً تابعاً لهم بغير إحسان من الكويت والسعودية ومصر والسودان والأردن وتونس، نصف الموقعين كويتيون ولكّنهم جميعاً يتلقون تعليماتهم العقدية من المركز السلفي في نجد. العريضة تستنكر بحسب زعم الموقّعين ما تعرّض له الشيخ القرضاوي من إتهامات بالماسونية والصهيونية وغير ذلك، معتبرين أن توجيه السيد محمد المهري الكويتي هذا الإتهام له هو إباحة لدمه وزعم بكفره.

الموقّعون شدّدوا على حاجة الأمة في هذا العصر على ما يجمع كلمتها ويوحّدها على الحق، مشدّدين على أن الشيخ د.يوسف القرضاوي من الرافضين لنشر ثقافة الكراهية والوقيعة. وتساءل الموقعون عن اسباب هذا الموقف المجحف والاقصائي والعدائي ضد الدكتور القرضاوي.

ودعا الموقعون وكالة الانباء الايرانية ووكلاء المراجع الى سحب أي فتوى بكفر الشيخ القرضاوي ووصمه بأنه ناصبي، مع التوقف الفوري عن الشتائم والسباب وإعلان اعتذار رسمي للشيخ القرضاوي، ووقف كافة النشاطات المغذية للفرقة بين المسلمين، ووقف الكثير من الأنشطة المرفوضة التي تنطلق من قنوات فضائية ومواقع انترنت ووسائل إعلامية أخرى أغلبها تنطلق من إيران.

وعاتب الموقعون على البيان بعض تلاميذ وأصحاب الشيخ القرضاوي الذين (خذلوه..وقعدوا عن نصرة الحق ووقفوا مع ايران ضد شيخهم).. حيث طالب الموقعون هؤلاء كذلك بالاعتذار عن موقفهم (المشين).

من بين الموقّعين على البيان، عضو سابق في اللجنة الدائمة للإفتاء عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، الذي كان قد أعطى رأيه في الشيخ القرضاوي بلهجة موتورة. وقد أوردنا في العدد السابق بعضاً مما قاله وكتبه الوهابيون في الشيخ القرضاوي. ونعيد هناك ما قاله الشيخ إبن جبرين في الشيخ القرضاوي (لا شك أن هذا الرجل معه هذا التساهل. سبب ذلك أنه يريد أن يكون محبوباً عند عامة الناس. حتى يقولوا أنه يسهل على الناس، وأنه يتبع الرخص ويتبع اليسر. هذه فكرته. فإذا رأى أكثرية الناس يميلون إلى سماع الغناء قال: إنه ليس بحرام. وإذا رأى أن أكثر الناس يميلون إلى إباحة كشف المرأة وجهها، قال: إن هذا ليس بحرام، أنه يجوز لها كشف وجهها عند الأجانب. وهكذا فلأجل ذلك صار يتساهل حتى يرضي أكثرية الناس. فنقول لك لا تستمع إلى فتاواه، وعليك أن تحذرها وأن تتمسك بالحق وتعرفه. والحق – والحمد لله – واضح والأدلة عليه كثيرة. وكون هؤلاء – هو أو غيره – يسعون في التقريب مع الرافضة، ومع المبتدعة، حتى مع الكفار كالنصارى واليهود، هذا من زلاتهم، ولا يجوز أن نقلدهم في خطاياهم وزلاتهم).

فهل تنبّه الموقّعون إلى ما يقوله سادتهم وكهّانهم قبل أن يطلقوا موقفاً يناقض ما يعتقدوه بل وما أفصحوا عنه، حتى لا يصدق عليهم قول الله عزّ وجل (يا أيها الذين آمنوا لما تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون).

في المقابل كان للعقلاء موقف آخر، ينأى عن الغرائزية غير النزيهة التي تنضح بالغيض لكل تقارب بين المسلمين أو لخمود نار الفتنة أرادوا أن تكون لهم رضى ولله فيها غضب وعقاب، وقد وجّه سبحانه دعوة للمؤمنين بالاعتصام بحبل الله (واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا..)، فبأي حديث بعد حبل الله الذي هو عاصم من كل فتنة يؤمنون.

هويدي: وحدة الأمة أولاً

لقد سعى الثالوث الفتنوي (قناة العربية وصحيفة الشرق الأوسط وموقع إيلاف الالكتروني) في اختراق حريم التقارب بين العلماء وتأجيج الفتنة بينهم. فحين لم تتوقف أقلام الفتنة في صحيفة (الشرق الأوسط)، كانت معاول الهدم تعمل من قبل شياطين (العربية)، وحاولوا تحريك الفتنة عبر مقاربات ملغومة لما جرى في الدوحة من لقاء بين مبعوث الشيخ علي الخامنئي الدكتور علي ولايتي والشيخ الجليل يوسف القرضاوي، وتعمّدوا اقتناص فقرات من هناك وهناك في كلمات المشاركين في مؤتمري الدوحة وطرابلس الغرب كيما تكون زيتاً يسكب على نار الفتنة التي خمدت، ولكن العقلاء تنبّهوا لذلك كله، فقد اعتبر الأستاذ فهمي هويدي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن ما قاله رئيس مجمع التقريب بين المذاهب في طهران الشيخ محمد علي التسخيري في مؤتمر (الدعوة عند الله الإسلام) الذي عقد في طرابلس الغرب في ليبيا في 30 أكتوبر الماضي بأنه ليس جارحاً، بل إن التسخيري اعتبر (ما حدث مع الشيخ القرضاوي هو مجرد سحابة صيف مضت إلى غبر رجعة). وأكد أن إيران ترحب بزيارة القرضاوي في أي وقت، وقال: (إنها بلده دائماً ولا يمكن أن تكون غير ذلك).

أما المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد سليم العوا فقد تأوّل حديث التسخيري بخصوص الدولة الفاطمية ووجد فيه ما يفوّت الفرصة على صنّاع الفتن، فقال إنها ـ أي الدولة الفاطمية ـ هي ( الدولة التي تجمع السنة والشيعة، بهدف ترسيخ الوحدة الاسلامية باعتبار أن السيدة فاطمة هي محل إجماع المسلمين).

ولكن (العربية) سيئ مقامها إزاء هذه التصريحات الكبيرة في معانيها ومعاني أصحابها، فلم تجد ما تنقله من كلمات المشاركين في مؤتمري الدوحة وطرابلس الغرب، فيما غابت الرياض عن هذه المحافل التقريبية والحوارية، وهي التي أنفقت مالاً كثيراً على مؤتمر علماء المسلمين في مكة كي تكتسب شرعية لمؤتمر لاحق هو مؤتمر مدريد (وليس الرياض) للحوار بين الأديان، يكوناً مدخلاً للتطبيع مع الدولة العبرية.

الدكتور العوا قال بأن (هناك اتفاقا جرى تدشينه في مؤتمر علماء المسلمين الذي عقد مؤخرا في الدوحة، بأن تصفية الخلافات يجب أن تتم في جلسات العلماء وليس عبر وسائل الإعلام). في إشارة لافتة إلى أن الإعلام (وأي إعلام) كان اللاعب الرئيسي في حلبة الخلافات بين علماء المسلمين. وكما خسرت السعودية في لبنان وربحت قطر، فقد ربحت قطر وليبيا في موضوع التقريب وتسوية الخلاف السني والشيعي، فيما تنشغل السعودية ومفاتنوها بالقضايا الخلافية التي بدا تصميم كبار الفريقين من السن والشيعة على مقاربتها بطريقة هادئة وبعيداً عن مهاترات الإعلام وأغراض أصحابها غير النزيهة.

وشدّد البيان الختامي للإجتماع على مطالب القرضاوي، حيث أكد أهمية وحدة الأمة الإسلامية بشتى مذاهبها، مطالباً في هذا الشأن بوجوب احترام أصحاب النبي صلى الله عليه
بن جبرين: شتام يطالب بعدم الشتم!
وسلم وعدم الطعن فيهم والكف عن أي محاولة للتبشير المذهبي. كما دعا البيان إيران إلى معاقبة وكالة أنباء (مهر) الإيرانية لإساءتها للعلامة الشيخ القرضاوي. وظهرت نبرة الحرص على عدم العودة بالأزمة إلى المربع الأول، في كلام د.محمد سليم العوا الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين ردا على تساؤل طرحته عليه (العربية.نت) بخصوص ما يمكن أن تثيره تصريحات الدولة الفاطمية من هواجس التمدد الشيعي. ولكن الدكتور العوا امتنع عن الاجابة وفضّل التريث حتى يقرأ البحث الذي قدّمه الى المؤتمر الباحث المصري د.على أبو الخير حول الدولة الفاطمية.

وأضاف: (أنصح بألا نفتح باب فتنة جديدة كالتي حصلت في الأسبوعين الماضيين من غير أن نعرف تفاصيل الموضوع). لكنه توقع أن (تستغل بعض المواقع المتشددة تصريحات التسخيري استغلالاً فظيعا).

في الإطار نفسه تحدث الكاتب الاسلامي فهمي هويدي، فقال لـ(العربية.نت) إن الشيخ التسخيري (تحدث عن مسألة تاريخية، فإيران كانت في الأصل دولة سنية ولم تتشيع إلا في القرن السادس عشر، والتاريخ حمّال أوجه، يقرأ من عدة صور. وعملياً أنا لا أرى فيما قاله شيئا جارحا، وأحسن الظن به). وأوضح الاستاذ هويدي أنه (يمكن النظر إلى فكرة الدولة الفاطمية بقراءة سياسية تهدف إلى دولة الوحدة الاسلامية التي نشأت في الزمن الفاطمي، والقذافي عندما دعا لتلك الدولة تبنى الموقف السياسي وليس المذهبي، ونحن نفهم ذلك لكونه زعيما سنيا).

وأشار هويدي إلى ما وصفه بالتباس حاصل حالياً في معنى التشيع (والأدق أن هناك تشيعاً سياسياً، كتأييدنا لحزب الله، وهذا لا يندرج في التشيع المذهبي الذي نرفضه). واعتبر أن أزمة تصريح القرضاوي عن التمدد الشيعي (ساكتة حالياً ولا يغذيها إلا الكتابات المتشددة في بعض المواقع، لكن الأطراف المعنية نفسها لم تعد تتكلم في الموضوع، وأنا شخصيا كتبت عمودين في البداية وتوقفت، أي لا توجد تداعيات ظاهرة).

وحول مدى اقتناع الشيخ القرضاوي بالتوقف عن اثارة قضية التمدد الشيعي في هذا الوقت، قال هويدي: (الشيخ مقتنع أن هذا الموضوع ينبغي أن يظل مفتوحاً في كل وقت، لكن الكلام الذي رجوته فيه، ألا يثار على صعيد الإعلام، وله أن يتناوله في مجلس أو مؤتمر أو ندوة، وقد تكلمنا بالفعل سابقا في ذلك، ولكن ليس عبر الجرائد، وأظن أنه ملتزم بهذا حتى الآن).

وعن فصل السلطات الايرانية للصحافي الذي وجه انتقادات حادة للقرضاوي في وكالة (مهر) شبه الرسمية قال هويدي: (أنا تمنيت على الشيخ أن يعفو عنه، فهو شاب عراقي كردي تحمس وكتب وأخطأ، لكن لا فائدة يجنيها أحد من فصله، لأن أسرته تضررت).

ليت علماء المدرسة السلفية الوهابية يقرأون ما قاله هؤلاء القامات الكبار في نفوسهم وآرائهم ومكارم أخلاقهم، فقد تأوّلوا بما فيه خير الأمة ووحدتها، ولم يفتهم حتى ما يغيب عن بال هؤلاء من لفتات إنسانية مجهولة بل ومنكرة في العقلية الوهابية، فطالبوا بتطويق الفتنة، وسحب ذيولها من الشارع ووسائل الإعلام ومحاصرتها داخل صالات المؤتمرات والندوات الخاصة المغلقة، لتفويت الفرصة على المغرضين، كما اكتفوا باجراءات تحفظ الوحدة والود في العلاقة بين المسلمين، دون افتئات طائفة على أخرى، بل وأكثر من ذلك وكما ينبىء عن ذلك الأستاذ هويدي حين تدخّل بطلب العفو على من أساء للشيخ القرضاوي وتأوّل أخطاءه وطالب بعدم فصله من عمله كيما لا يلحق الضرر عائلته. فهل وجد في الوهابية من يحمل تلك الروح الإسلامية العالية، وهل يكف أولئك الذين لم يجدوا في دين التوحيد سوى تقسيمه على أساس الإيمان والكفر بغياً بغير علم ولا كتاب منير، ونسي هؤلاء سر بعثة المصطفى عليه (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

الصفحة السابقة