الهيئة: يد القمع الممدودة للمجتمع

عبدالحميد قدس

حين يجتمع رجلا الأمن والعقيدة تصبح القضية أكثر من كونها ضبط أوضاع أمنية أو رصد لمخالفات عقدية، فالقضية تتصل حينئذ بمنظومة متكاملة يتداخل فيها الديني بالسياسي والأمني بالأيديولوجي. إنها، بكلمات أخرى، ترسيخ لأسس الإستبداد السياسي والديني القائم على توظيف كل عناصر القوة الغاشمة، وتثبيت نزعة الواحدية المتفشية في ذهنية الديني والسياسي على السواء.

لا يكترث السياسي الرسمي بالإنتقادات الموجّهة للديني المعاضد لسلطته، فكلاهما يمارسان عملاً تكاملياً في خدمة أغراض مشتركة، وكلّ منهما يعكس صورة الآخر في شموليته، وواحديته، واستئصاليته. إذ لا يمكن تحميل المسؤولية لطرف دون الآخر، فالقسمة المفتعلة في الأدوار ليست سوى مجرد توهيم للضحايا، في مسعى لشق درب الهروب من الحقيقة، وتصنّع النزاهة..

الأمن والعقيدة في هذه الديار عقدا زواجاً عرفياً، تعكسه المماهاة الراسخة في التحديّات الموجّهة لأي منهما، فلا ينبري أحدهما في المواجهات دون الآخر، فرجل الأمن يقف في خط المجابهة جنباً إلى جنب مع رجل العقيدة. إن مجرد اختلاف الأزياء التي يرتديها السياسي والديني، أو بالأحرى الأمني والعقدي، لا يحدث أدنى تغيير في جوهر الوظيفة النهائية لكل منهما، فكلاهما يلتقيان عند نقطة الدفاع عن السلطة في شكليها السياسي والديني.

منذ سنوات وملف (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) مازال مفتوحاً في الداخل والخارج على انتقادات شديدة اللهجة، كرد فعل على تجاوزات لم يعد ممكناً السكوت عنها، كونها خرجت من سياق الدور الإرشادي الدعوي، وأنيطت بها مهمات تستوعب اختصاصات أمنية وثقافية واقتصادية..

لم يغيّر التعديل الإداري الجديد الذي أعلن عنه الملك عبد الله في طبيعة مهمات (الهيئة)، التي حافظت على كثافة حضورها في يوميات الناس. فالاعتدال المزعوم لرئيس الهيئة الجديدة الشيخ عبد العزيز الحمين، لم ينعكس في أداء رجال الهيئة، ولم يطلق بشارة من أي نوع في اتجاه وقف التجاوزات على حقوق وحريات الأفراد والجماعات. ربما أنست حوادث المدينة المنورة الشهر الفائت بعض ما خفي عن أداء رجال الهيئة في أجزاء أخرى من هذا البلد، فيما صعّدت تلك الحوادث من نبرة الانتقادات لدى الضحايا والمتضرّرين من تجاوزات (الهيئة)، وهي تجاوزات في الأصل موصولة بالسلطة السياسية..

في المعرض الدولي للكتاب الذي يقام سنوياً في الرياض، تصبح (الهيئة) والثقافة في مواجهة مباشرة، وتمارس الأولى دور الرقيب الثقافي والإعلامي وإن تزعّمت مهمة أخلاقية بطابع إرشادي. في الرابع من مارس، قامت كتيبة من رجال (الهيئة) بمنع الشاعرة حليمة مظفر من توقيع كتابها للرجال، ووضعت حراسة على مدخل جناح الطفل الذي توجد فيه صالة التوقيع منعاً لوصول الراغبين في اقتناء الكتاب، عدا النساء. واقتادت (الهيئة) الروائي عبده خال والناقد معجب الزهراني والشاعر عبد الله ثابت، الذين حاولوا الحصول على توقيع الشاعرة مظفر، (بحجة أنهم يتحدثون إلى إمرأة أجنبية وهذا لا يليق بالمسلمين) حسب ما نقلته صحيفة (الحياة) في 5 مارس. وصف الثلاثة ما أقدمت عليه (الهيئة) بـ (العمل غير المنطقي الذي لا ينسجم مع مناسبة وطنية وحدث ثقافي كبير).

وفي رد فعلها على تصرّف (الهيئة) كتبت الشاعرة حليمة مظفر مقالاً في صحيفة (اليوم) في 7 مارس بعنوان (أين حسن الظن..يا معالي رئيس الهيئة!؟) قالت فيه (تعرضت لمضايقات سيئة من بعض منسوبي الهيئة، حيث أتيتُ منصة التوقيع، وفوجئت حين وصولي برجلين من الهيئة ينتظران قدومي، واقترب أحدهما ليحدثني أن ألتزم بالحجاب لكوني كاشفة الوجه، وهو مما اختلفت فيه المذاهب الفقهية) وتضيف (ورغم شكري لهما على النصح، إلا أنهما أزعجاني باستفزازي خلال ساعتين من الزمن، لإجباري على الانسحاب، إذ فوجئت بإحضارهم حرس الأمن ورصهم كجدار أمام منصة التوقيع ومنعي الخروج منها، ومنع زوار المعرض الاقتراب بطريقة مزعجة وتخصيص التوقيع للنساء فقط، والنتيجة أن النساء أهابهن منظر وجود خمسة من حرس الأمن، وستة جنود تقريباً فيما يقف رجلان من الهيئة بوجوه متجهمة، كل ذلك لأني أوقع كتابا ولم أكن أرتدي حزاما ناسفا؟!).

وتعرّضت حليمة لحادث اقتياد خال والزهراني وثابث من قبل الهيئة، وقالت (فوجئوا بما شاهدوه من مضايقة لي، وانتظروا مشكورين توقيعي، وحين تقدمت بالكتاب لإعطاء الزميل عبد الله ثابت اعترض طريقي حرس الأمن ورجل الهيئة ليزجرني بلهجة آمرة أن لا أعطيه الكتاب، وتساءلت: لماذا!!، فكرر زجره بلغة تهديدية ثم طلب مناولته للحارس، وتساءلت مندهشة: أهذا رجل وحارس الأمن لا؟! فسحب مني الكتاب بطريقة فظة أمام الجميع ثم ناول الحارس الكتاب، وما كان من الزملاء إلا قولهم: شكرا، لأفاجأ بأن الهيئة تقتادهم وهم الأدباء المعروفون بطريقة غير لائقة إلى مركز الهيئة بحجة تحدثهم معي كوني امرأة أجنبية، فقط لقول: شكراً!!).

ثم وجّهت حليمة كلامها الى رئيس الهيئة الجديد الشيخ الحمين في ضوء تصريحاته بأن (مبدأ جهازه في التعامل مع الناس سيقوم على حسن الظن) وتساءلت (فأين حسن الظن فيما فعلوه! وهم يتعاملون بفظاظة مع المثقفين وتعاملوا معي كامرأة بدونية دون احترام لي ولما أقدمه كمثقفة، ولأن ما حدث هو تعد علينا نتيجة إساءة الظن، أضم صوتي لصوتهم والمطالبة باعتذار رسمي من جهاز الهيئة لما حدث، وإلا سيستمر إحراج ثقافتنا وإحراج الهيئة بأخطاء منسوبيها، وسيستمر من يقتدي بمثل هذا التطرف بالاعتداء على المثقفين في المنابر واللقاءات الثقافية وقد تتجاوز لحدود غير مرغوب فيها!!).

من جانبهما، طالب الروائيان عبد خال وعبد الله ثابت (الهيئة) باعتذار رسمي لما حدث في معرض الرياض الدولي للكتاب، ووصف الروائي عبد الله ثابت ما حدث له بقوله (هل أصبحت يد المثقف عورة ويد رجل الأمن ليست عورة؟) حينما أراد توقيع الكتاب من الشاعرة حليمة مظفر، حسب ما نقلت (الوطن) في 6 مارس. فيما علّق عبده خال قائلاَ (يبدو أن العلاقة بين الهيئة والمثقفين استعداء وعداء.. ولعل المضحك أن التهمة التي وجهتها الهيئة لنا كانت إلقاء التحية على امرأة أجنبية).

وكتب د. علي بن حمزة العمري في صحيفة (المدينة) في 7 مارس مقالاً بعنوان (انطباعاتي عن معرض الكتاب) لفت إلى مشكلة متكررة في معرض الرياض الدولي للكتاب وهي (أن بعض من يلبسون اللباس الأمني ( أمن المعرض ـ سكورتي- يتدخلون بطريقة فجّة مع أصحاب الدور). يصف تجربة شخصية حصلت له وهو يتفاوض مع دار نشر بقوله (فمرّ عليّ وأنا أتفاوض مع صاحب المعرض رجل أمن كأنه رأى صفقة مخدرات كما عبّر عن ذلك بائع المعرض!، فقال رجل الأمن: لماذا البيع و الشراء قبل البدء بيوم، فأخبرته بأننا نتفاوض والمبلغ المطلوب عال جداً، و أنا لا أملكه حالياً، إننا نفاوض فقط، و هو يسجل أسماء الكتب، فطلب الورقة بعد قطعها وذهب للإدارة كأنه كسب غنيمة ومخالفة! فأفهمت أحد المسؤولين الإداريين أن هذا الأسلوب غير حضاري، وأن عالم الثقافة له احترامه خاصة من رجل جاء من آخر بلاد العالم ليثقف أبناءنا، و لم يخلّ بالنظام!).

هاتان الصورتان تعكسان، بجلاء، تجليّات الغريزة الدفاعية عن الكيان الذي يمثّله جهازا (الهيئة) و(الأمن)، فهما ينخرطان في مجال غير ذي اختصاص، ولكنهما يحققان هدفاً واحداً، أي ترسيخ السلطة الشمولية.

وكتب أحدهم بإسم زبن عمير في 28 فبراير مقالاً بعنوان (معاً ضد الهيئة) نشر في موقع (وئام) الالكترونية، في سياق الدفاع عن الهيئة بوصفها أحد تمظهرات الدولة السعودية، وتساءل ماهي الهيئة؟ ليختم بالسؤال الأخير الحميمي بينها وبين الدولة: أليست هذه المملكة العربية السعودية؟ ويشرح ذلك بالقول: أليست هي من قامت على عهد ديني حفظ الله به كرامة الأمة لأسرة حكمت أكثر من ثلاثة قرون بالله وثم بالعهد الديني وبعده بالرجال المخلصين .. وأليست هذه الجزيرة العربية التي لا يجتمع بها دينان..) ليخلص في المقالة إلى ضرورة وجودها (صامدةً ضد تيارٍ يحاول أن يجعل صوته الأقوى..).

رئيس الهيئة الجديد!

تزايد انتقادات الهيئة

لم يعد مطلب حل الهيئة مقتصراً على فئة دون سواها، لأن تجاوزات الهيئة طالت الجميع، وحسب يحي الأمير في صحيفة (الوطن) في 24 فبراير الماضي (لا توجد عائلة سعودية ليس لدى أحد أفرادها قصة مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تكتظ المجالس والأحاديث بالكثير من القصص التي تحولت إلى حكايات كلها تكاد تجمع على صورة واحدة وهي أن هناك علاقة متوترة بين الناس وبين جهاز الهيئة، وهو توتر قلما يتكرر بين الناس وبين أي جهاز حكومي وبهذه الكثافة).

بالنسبة لأولئك الذين يحاولون تمرير موقف نقدي ناعم، للحيولة دون الإصابة بتهمة الوقوف ضد المؤسسة الدينية، يلجؤون إلى مطلب تنظيم نشاطات (هيئة). كتب أحمد الحناكي في 3 مارس مقالاً في صحيفة (المدينة) بعنوان (هيئة الأمر بالمعروف والتنظيم المطلوب) إنتقد فيه من ينافح، وهم كثر (عن الهيئة بحماس مبالغ به مطالبين ألاَّ يمسّها أي إجراء، أو عقاب، أو غيره من أمور يرون أنها تطال هيبة واحترام رجال الهيئة..)، وذلكّ بوقوع حالات كثيرة (لا يتم فيها تطبيق الشريعة من بعض أفراد الهيئة بافتراضهم سوء النية، أو أن المتّهم مذنب حتى تثبت براءته)، مدلّلاً على ذلك بشواهد عديدة منها: إيقاف رجل مع إمرأة يتسوّقان واستجوابهما..و..مطاردة سيارة للاشتباه في خلوة غير شرعية، أو اقتحام منازل، أو استراحات..)، وصولاً إلى (مصادرة مجلات أو كتب تملك فسحًا من وزارة الثقافة والإعلام، أو منع ورود حمراء بحكم أنها ستستخدم هدايا في مناسبة (عيد الحب)، وهو منع ذو تبرير ساذج.. فحسب هذا المنطق يجب منع الكؤوس بأنواعها؛ لأنها قد تستخدم لشرب الكحول، أو منع بعض الفواكه؛ لأنها قد تُستخدم من البعض بصنع الكحول).

من طرائف المناظرة حول مصير الهيئة، أن بعض المواقع وضعت استفتاءً في هيئة سؤال: هل تؤيد المطالبة بإلغاء الهيئة؟ لتفتح باب التنافس بين المؤيدين والمعارضين، مع إلفات الانتباه الى رغبة المواقع في جذب المزيد من المرتادين، الأمر الذي يعني بأن مسألة بقاء وزوال الهيئة باتت مطروحة وتحظى بأهمية خاصة ومتميّزة لدى كثير من الأفراد.

نسج الإعلامي بدر كريم في مقاله (الإعلام والهيئة: قارب واحد) في صحيفة (عكاظ) في 5 مارس طالب فيه (بإعادة النظر في نظامها، ووظائفها في ضوء مستجدات العصر، والبحث عن أدوات ووسائل إيجابية، تجعل منها مؤسسة تطبق بالفعل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأسلوب (إدفع بالتي هي أحسن) وبمبدأ (إنزال العقاب بلا داع هو: تعد على رحمة الله)، كما طالب بمصالحة بين (الهيئة) و(الكتّاب) الداعين بالإصلاح، على حد قوله.

إن المصالحة المطلوبة بين الفريقين، يستدعي رؤية جديد، بل مصالحة مبدئية بين الهيئة والثقافة بصورة عامة، ويكفي للوقوف على معدّلات التأخر الثقافي والتعليمي السؤال عن الرجال القائمين على المؤسسات الثقافية والتعليمية في هذا البلد. والأمر ليس مقتصراً على شكليات أو مظاهر يراد تديينها، فيما سبل التغيير والدعوة تتصادم مع المبادىء الأساسية للموعظة الدينية.

في الاسبوع الأخير من فبراير الماضي، أي بعد إعلان الملك عبد الله عن تعديلاته الوزارية والإدارية في الدولة، قامت مجموعة من المتشدّدين المقرّبين من (الهيئة) بجولة داخل أروقة وزارة الثقافة والإعلام السعودية لإنكار تبرّج النساء والمخالفات الشرعية التي وضعها بتصرف مدير القناة الثانية محمد باريان أثناء مقابلتهم له بعد إخفاقهم في العثور على مدير القناة الإخبارية والرياضية، حيث لم يجدوا أمامهم سوى مدير القناة السعودية الثانية الناطقة باللغة الإنجليزية. وأعرب أفراد المجموعة عن إنكارهم جلوس المذيع إلى جانب المذيعة في برامج القناة.

الجدير بالذكر، أن المجموعة قامت بالجولة داخل مبنى التلفزيون، الذي يشبّه الحصن المنيع، دون أن تثير إنتباه الموظفّين. ونقل أحد موظفي القناة السعودية الثانية لموقع على شبكة الإنترنت في 3 مارس بأن (هناك من سهل لهم دخولهم للمبنى من خلال تصاريح أصدرها لهم عند البوابة ومن ثم دخلوا متجولين في المبنى بحثاً عن مدراء القنوات) وقال الموظف (إستوقفوا أحد الزملاء أمامي وسألوه عن مدير القناة الإخبارية مجري القحطاني وعن نائب مدير القناة الإخبارية سابقاً جاسر الجاسر دون علم منهم بخروجه وانتقاله لمحطة أخرى وحين لم يجدوا هؤلاء توجهوا للسؤال عن مدير القناة السعودية الثانية، ثم توجّهوا لمكتب الدكتور محمد باريان وقاموا بتوجيه النصائح إليه ومطالبته بتقوى الله ثم بدأوا بمطالبته بمنع الإختلاط الذي يحدث في بعض البرامج وخصوصاً الصباحية من ظهور للمذيع والمذيعة سوياً). وعلّق الموظّف باستغراب (هناك متعاونون مع المتشددين في الوزارة، يسربون لهم الخطابات ويسهلون دخولهم إلى المبنى وأنا متأكد أن الوزارة مخترقة من قبلهم وإلا كيف استطاعوا الدخول إلى المبنى بالرغم من وجود الحرس الوطني في جميع البوابات؟).

وتعتبر هذه الحادثة الأولى من قبل متشددين سلفيين في عهد وزير الثقافة والإعلام الجديد الدكتور عبدالعزيز خوجة والذي يتوقع البعض أنه سيواجه خلال الأيام القادمة مواجهات إلكترونية أو على أرض الواقع قد يقوم بها متطرفون سعوديون.

من جهة ثانية، نقل موقع (نور الإسلام) الذي يشرف عليه الشيخ محمد الهبدان في 2 مارس تصريحات لعضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض الدكتور يوسف الأحمد طالب فيها بإحالة (إحالة الوليد وآل ابراهيم للقضاء فخطرهم لا يقل عن خطر مروجي المخدرات). وقال الأحمد بأن (السينما تعد وسيلة من وسائل المنافقين في تحقيق المشروع التغريبي وإفساد المجتمع وإبعاده عن شريعة الله تعالى)، وأن (الأفلام السينمائية تعد أكثر فحشا وتعرياً وخلاعة من غيرها).

وفي ردّه على سؤال حول ما ذكره الوليد بن طلال عن عزمه دعم السينما في السعودية قال الأحمد: (ليس بغريب أن يصدر هذا الكلام من الأمير الوليد بن طلال صاحب القنوات المنحطة التي تشيع الفاحشة في الذين آمنوا (روتانا) وسعيه المستمر في إهانة المرأة وإذلالها بتعمد إبرازها سافرة متبرجة وخصوصا إذا كانت من بلاد الحرمين). وأضاف (أما تقييده (بالضوابط الشرعية السمحة) فأخشى أن يكون من الإستهزاء بدين الله تعالى؛ فأين الضوابط الشرعية مع أفلام التعري والرقص والمجون وشرب الخمر التي ينتجها أو ينشرها.) وزاد على ذلك بالقول (الواجب عليه التوبة إلى الله تعالى من جنايته في حق الأمة، وأن لا تأخذه العزة بالإثم، والواجب على الدولة منع السينما حتى لا يتمكن العلمانيون والليبراليون (المنافقون) من تحقيق مشروعهم الإفسادي في بلادنا كما أفتى بذلك علماؤنا..) وختم بالقول (الواجب أيضاً إحالته وأمثاله كالوليد البراهيم (صاحب قناة mbcإلى القضاء الشرعي فخطرهم على المسلمين لا يقل عن خطر مروجي المخدرات).

من المفارقات الهامة أن تصبح (الهيئة) التي يعوّل عليها في الحفاظ على الأخلاق العامة، وحراسة القيم العليا للمجتمع تتحوّل هي ذاتها إلى مركز استهداف لكل التجاوزات ذات الطبيعة العمومية. في فبراير الماضي أصدرت (الهيئة) بيانات عدّة تنفي صلة أفرادها بتجاوزات وقعت في مهرجانات أقيمت في بعض مناطق المملكة مثل مهرجان الربيع في جدة، ومسرحية الإكليل في الرياض، أو حتى الإعتداءات على الفرق الفنيّة في مهرجان شرورة. هذه البيانات تدّل بوضوح أن كثافة عدد التجاوزات لرجال الهيئة جعل كل تجاوز مرتبطاً بهذا الجهاز. لاشك أن دعوات من قبل بعض العلماء وفتاوى القتل التي تصدر بحق بعض الأشخاص من بينهم ملاّك الفضائيات أو الكتّاب يغذي هواجس الناس من أن مهمة الحسبة باتت مفتوحة على آفاق منفلتة، وتشجّع أشخاصاً كثر على الدخول على خط الحسبة بصورة غير رسمية..إنها عملية تحريض تصدر عن مرجعيات دينية رسمية وشبه رسمية على الاشتباك مع المجتمع بكل فئاته.

فقد بعثت قضية العجوز، سورية الجنسية البالغة من العمر 75 سنة والتي حكم عليها في قضية (خلوة غير شرعية) في الثاني من مارس بالسجن مدة 4 أشهر والجلد 40 جلدة قبل تسفيرها ومنعها من دخول البلاد في المستقبل، بعثت الهواجس مجدداً بعد مرحلة ترقّب عقب استبدال رئيس (الهيئة)، الذي بشّر بمبدأ (حسن الظن) في أداء رجال (الهيئة). المحكمة أيضاً حكمت على من أوصل الخبز الى العجوز بالسجن 6 أشهر و60 جلدة.

يرى شيتوي الغيثي في مقالته في صحيفة (الوطن) في 6 مارس بعنوان (الخطاب الحسبوي الجديد.. هل يكون متسامحاً..؟). بأن انتقال فكر الحسبة من حالة الرقابة على الغش لدى الباعة في السوق إلى التدخّل في شؤون الدولة في القرون المتأخرة، في العصور الإسلامية ينم عن تحوّل في البنية الفكرية لدى القائمين عن تغيير المنكر (إذ أصبح أقرب إلى صراع فكري وأيديولوجي بين التيارات الإسلامية أو المذاهب في ذلك العصر خاصة لدى أهل الرأي وأهل الحديث، أو القائلين بالعقل والقائلين بالنقل). وهذا ما انعكس في وظائف الحسبة فقد (انتقل بعض المحتسبين قبل ثلاثين سنة من الإقتصار على النصح والأمر بإقفال المحلات التجارية وقت الصلاة فقط إلى التدخل في شؤون الكثير من عمل المؤسسات وصياغتها بشكل محدد وصبغها صبغة إسلامية في أدق التفاصيل) من بينها الرقابة على المطبوعات (هذا غير الخطابات التحريضية التي كانت تموج تلك الفترة ضد الخطابات التي لاتتوافق مع خطاب الصحوة.. إلى أن وصل الحال خلال السنوات الأخيرة إلى التدخل في بعض المهرجانات الثقافية والملتقيات الفكرية والمسرحيات في بعض الجوامع بالمنع..). وبحكم السلطة الممنوحة لهذا الخطاب، بحسب الغيثي حاول أصحابه (فرض الرؤية الفكرية أحادية الجانب على كافة مستويات الحياة حتى أصبح المجتمع صبغة واحدة، ومن شذ عنها شذ في النار). وطالب الغيثي بأن يعضد التشكيل الإداري (تشكيل جديد على المستوى التنظيمي والتشريعي حتى لا تصبح الأمور مجرد تصرفات فردية لا نعرف كيف يتم التعامل معها، إذ ليست المسألة قاصرة على الأفراد العاملين في جهاز الهيئة، وإنما هي رؤية تصحيحية عامة في الهيئة كاملة..). وطالب أيضاً بوجوب (إعادة الرؤية للآخر المختلف سواء على المستوى المذهبي أو العقائدي).

ونلحظ في قراءة مسيرة عمل (الهيئة) في السنوات الخمس الماضية أنها بلغت حد افتعال المواجهات مع المجتمع، وبلغت التجاوزات مستوى خطيراً، ما بدفع بسؤال مركزي الى فضاء المناقشات العامة: إلى متى تبقى الهيئة صالحة كمؤسسة للبقاء على قيد الحياة، بعد أن فقدت وظائفها الدعوية والوعظية وتحوّلت إلى ما يشبه جهاز قمعي يمارس وظائف أمنية.

الصفحة السابقة