تقارب..تعايش..تفاهم

الحوار المذهبي.. إلى أين؟

عبدالحميد قدس

ربما لم يكن ثمة سبب مباشر وراء انطلاق حوار مذهبي سني شيعي في الصحافة المحلية في الآونة الأخيرة، ولكن هناك أسباب كثيرة تدعو دائماً لفتح مثل هذا الحوار، بعد أن أخفقت سلسلة حوارات سابقة (الحوار الوطني، الحوار الإسلامي، الحوار بين الأديان) برعاية الدولة في أن تجعل من العلاقة بين المذاهب موضوعاً حوارياً وطنياً لناحية إرساء مقاربة جادة تفتح الطريق أمام معالجات مستقبلية لمشكلة عميقة الجذور، تلقي بظلالها بصورة مستمرة على مجمل الروابط المجتمعية المحلية.

وبعيداً عن المواقف القطعية التي عبّرت عنها مرجعيات دينية محلية (وسلفية في الغالب) باستحالة نجاح أي شكل من أشكال التفاهم بين السنة والشيعة في هذا البلد، على أساس أن عناصر الإختلاف تفوق كثيراً عناصر التوافق، فإن حواراً عفوياً وجد فرصته للإنطلاق من وحي مقالة كتبها الصحافي خالد عبد المشوح في صحيفة (الوطن) السعودية في 24 إبريل الماضي بعنوان (لا يوجد تقارب سني شيعي!)، إستهله بمقدّمة ذات طبيعة افتراقية مفادها أن الخلاف الشيعي السني ليس مقتصراً على البعد العقائدي بل تبطن موقفاً سياسياً تخوينياً يقوم على أساس لجوء الأقلية بالاستعانة بقوى خارجية (المقصود إيران)، على حساب الولاء للوطن. وليس خافياً أن رؤية كهذه تستظل بمناخ التوتير الذي صنعته الخلافات السياسية بين ايران ودول الاعتدال في المنطقة منذ سقوط نظام صدام حسين في 9 إبريل 2003، ثم ازدادت درجة الاحتقان أثناء وبعد العدوان الاسرائيلي على لبنان في يوليو (تموز) 2006، بعد صدور بيان سعودي ينعت عملية اختطاف الجنديين الاسرائيليين من قبل حزب الله بـ (المغامرة).

وكانت جرعة الاستفزاز الذي اشتمل عليها مقال المشوح، كفيلة بالتحريض على خوض حوار ساخن يستدرج إليه أقطاباً من الفريقين، السلفي والشيعي، خصوصاً وأن المقالة تضّمنت نقاطاً جدل خلافية من قبيل أن الأقليات الشيعية في دول الخليج تتمتع (بكامل حقوقها السياسية والدستورية) وأن ولاء هذه الأقليات (لغير أوطانها)، أي لإيران. ولكن ما يميّز مقالة المشوح أنها قدّمت أسئلة واقعية من قبيل: هل تدرك الأكثرية السنية ضرورة دمج هذه الأقليات واستيعابها سياسياً؟ وفي المقابل هل يمكن أن تعيش هذه الأقليات الشيعية استقلالية في تدينها ومصالحها دون أي ارتباطات خارجية؟

في أول استجابة على مقالة المشوح، كتب الباحث الشيعي الدكتور توفيق السيف مقالة في صحيفة عكاظ في 27 إبريل الماضي بعنوان (بل التقارب قائم ومتواصل بين السنة والشيعة)، انطلق فيه من نقطة الصدام الواردة في مقالة المشوح، أي ولاء الشيعة لإيران، وأشكل عليه أنه أهمل نقطة جوهرية وهي العلاقة السنية الشيعية، والتي يعتقد السيف بأنها (أفضل في هذا اليوم من أي زمن مضى..). وشدّد السيف على الإنطلاق من نقطة متواضعة تشكّل مفتتحاً لأي علاقة ثنائية وتقوم على (اكتشاف المختلف ثم الإقرار بوجوده وحقه في أن يكون مختلفا، ثم التعرف عليه، ثم صياغة خطوط الوصل وخطوط الفصل معه، وفي نهاية المطاف يقترب فريق من فريق ويتبعهم بعض الناس، أقلهم أو أكثرهم). ومع ذلك يقول السيف (في المملكة نحن الآن في منتصف الطريق، وعلى وجه التحديد في نقطة وسطى بين الإقرار بالحق في الاختلاف والتعرف على المختلف).

لقد بدا السيف متفائلاً بسيرورة الحوار بأشكاله المختلفة والمؤسسة للقبول العام بمبدأ التنوّع.

وفي تطوّر لافت، دخل على خط المناظرة شخصية بارزة شاركت لسنوات طويلة في جهود التقريب ولها تجربة فريدة في الانفتاح على المذاهب الإسلامية عموماً، وهو الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع، وقد إلتقى قبل شهرين بالمرجع الشيعي محمد حسين فضل الله في منزله في بيروت. كتب الشيخ المنيع مقالاً في (الوطن) في 29 إبريل الماضي بعنوان (رسالتي لكل شيعي). وبخلاف ما كانت عليه عناوين مماثلة جرى الترويج لها في فترات سابقة، سواء في المدن المقدّسة، أو في مناطق الشيعة والتي تحمل هدفاً محدداً، أي تحويل الشيعة إلى سنة، فإن رسالة المنيع كانت مختلفة تماماً، وتنطلق من مشتركات الفريقين السني والشيعي: فكل واحد من المسلمين سواء كان سنياً أو كان شيعياً إذا سألته من ربك قال ربي الله. وإن سألت: ما دينك؟، أجاب: ديني الإسلام؟. ولو قلت له: من نبيكم؟. قال: نبيي محمد . وعند سؤاله: ما هو كتابك المفضل؟ لأجاب: هو كتاب الله. وحين نسأله: ما هي قبلتك؟ ردّ: إنها الكعبة.

ويعتبر المنيع وجود هذه المشتركات مانعاً أمام السنة والشيعة للتفرّق، وأن الخلافات الأخرى يجب مناقشتها تحت سقف المشتركات وليس تعالياً عليها وتقويضاً لها. وبوحي من نزعته التقريبية، بدا المنيع متمسّكاً بالثوابت المشتركة بين السنة والشيعة، ليؤسس عليها مبادىء التفاهم والتسامح والحوار والبحث عن الحقيقة.

في استجابة أخرى على مقالة المنيع، كتب رجل الدين الشيعي الشيخ حسن الصفار مقالة في (الوطن) السعودية في 5 مايو بعنوان (مجتمعاتنا وأوطاننا مستهدفة في وحدتها واستقرارها وأمنها)، تجاوز فيها الموضوع المذهبي لينتقل إلى البعد السياسي، في استبطان واضح لناحية إقفال الحوار ببعده المذهبي وتقرير حق الإختلاف على أساس المشترك الوطني.

وانطلاقاً من تأييده لموقف الشيخ المنيع، ونسجاً على منواله، أبدى الصفار رغبته في مبادرة حوارية تنهي الخلاف والقطيعة من خلفية سياسية، والتأكيد على المشتركات الكيانية الكلية: الوطن، الأمة، والمشتركات الفكرية العامة: الحوار والإحترام.

ورأى الصفار بأن فورة الخلافات المذهبية تعود الى سببين: فعل السياسة وتحقيق بعض أغراضها، واتجاهات التشدّد التي تنزع نحو فرض رأيها وتعميمه.

وعاد خالد المشوح لاستكمال ما بدأه في مقالته السابقة، وكتب تعقيباً على مقالة السيف في صحيفة (الوطن) في 1 مايو بعنوان (بل تعايش سني شيعي)، وقال بأن (التاريخ لا يبشّر بخير في العلاقة ما بين السنة والشيعة)، وكشف ما يراه تناقضاً في مقالة السيف بقوله (أن العلاقة بين السنة والشيعة هي أفضل في هذا اليوم من أي زمن مضى،) ثم بعد ذلك بأسطر يقول (في ماضي الزمان كان التنازع الطائفي قليلا..). ولأن المشوح يتوسّل بفترة الحروب الطائفية في القرن الرابع الهجري التي لم تقتصر على السنة والشيعة، بل شملت كل المذاهب الإسلامية، وكانت بغداد مسرحاً رئيسياً لها، فإن من الطبيعي أن يتوصّل المشوح إلى نتيجة متشائمة. ولذلك يجترح سبيلاً آمناً لتجاوز تداعيات الخلاف المذهبي ومخاطره على الواقع الراهن، ويرى خيار التعايش ممكناً كونه (يكفل لكل فئة الاحتفاظ بعقائدها وطقوسها دون الركض خلف سراب ووهم أسمه التقارب..). تعايش، كما يراه المشوح، حقيقي (يكفل للجميع حقوقهم وانتماءهم الوطني وبعيداً عن بيع الولاءات السياسية من أجل قومية أو عرق..). ولتحقيق هذه الغاية، يقدّم المشوح دعوة مفتوحة للسنة والشيعة في هذا البلد تؤسس لإمكانية (التعايش وبث روح التسامح ونبذ التعصب دون المساس أو الاقتراب من المسلمات العقدية لأنها ستزيد من أوار الطائفية..).

في تعقيبه على مقالة المشوح، كتب الدكتور السيف مقالة في صحيفة (عكاظ) في 4 مايو بعنوان (التعايش أو التقارب..طريق واحد)، تجاوز فيه تاريخ وتراث الخلاف بين السنة والشيعة، وعاد ليؤكد على خيار إستكشاف الطريق. ويشدّد السيف على ضرورة سحب القضية من إطارها الدولي وإدخالها في الحيز الوطني، في مسعى لتأكيد المشترك، أي الهوية الوطنية لكل أطياف المجتمع، ووصولاً (إلى تعزيز الوحدة الوطنية والسلام الأهلي وعلاقة الود والأخوة..)، حتى مع بقاء الاختلاف في الأفكار والمعتقدات. من جهة ثانية، يبدي السيف واقعية في الرؤية للذات والآخر، بتأكيده على أن كل المذاهب تنطوي على عناصر افتراق وتوافق، وأن المصلحة العامة تقضي بتنمية واستثمار عناصر التوافق، كونها تنسجم مع المصالح المشتركة في العلاقة بين المواطنين.

عاد خالد المشوح في 8 مايو ليعقّب على المقترحات الواردة في مقالة السيف، وكتب في صحيفة (الوطن) مقالاً بعنوان (ضرورات التعايش السني الشيعي)، وبدا المشوح كما لو أنه عثر على نقطة بداية مشتركة مع السيف أي (وحدة الوطن). ورغم تمسّك المشوح بموقف واضح من فكرة التقارب، كونها بعيدة المنال، حسب توصيفه، إلا أن من الواضح أن المشوح ينزع نحو منطلق افتراضي يقوم على أساس أن التعايش مشروط بالولاء للوطن وليس للمذهب. هذا في الوقت الذي يحاول المشوح النأي عن التقريب باعتباره موضوعاً عقدياً. على أية حال، بدا المشوح متسامحاً بإقراره أن (الشيعة في نظري مواطنون أصليون لا يمكن المزايدة على هذه النقطة التي وإن اختلفنا في جوانب كثيرة فإننا لا نختلف عليها)، وكان ذلك بداية حوارية جديرة بالبناء عليها، وإن جاءت مصحوبة بإشارات سالبة، من قبيل العودة إلى أمثلة خارجية وإسقاطها على الموضوع المحلي. اللافت في مقالة المشوح، أنها اختتمت بنفس إيجابي بتأكيده الحاجة إلى رعاية الحوار وتطويره وقال (نطمع أن يقوى عوده وتشتد شوكته على يد أبنائنا في هذا الوطن بكل فئاته وأطيافه عبر تغذيتنا لسبل التعايش والاحترام الطائفي..).

من جهة ثانية، شارك تركي العسيري في 7 مايو بمقالة في صحيفة (الجزيرة) الصادرة في الرياض بعنوان (التقريب بين المذاهب.. متى يتحقق؟)!، كان فيه تسامحياً الى حد كبير، كما بدا في لغته التقريبية التي بدأ بها مقالته بتأكيد على المشتركات وعوامل التوحّد والتقارب، وضرورة تجاوز التراث السجالي في ماضي الفريقين السني والشيعي، والإضاءة على التراث التوافقي. ويعرب عن أسفه لإخفاق مؤتمرات التقريب بين المذاهب عن الوصول الى نتائج عملية مثمرة تلبي (تطلعات المسلمين الغيورين على وحدة الأمة الإسلامية..). ومن خلال متابعته لحوارات سابقة جرت بين رموز دينيين في الطائفتين السنية والشيعية خرج العسيري بانطباع (أننا إذا صفيت نياتنا وسمت حواراتنا فوق نقاط الاختلاف يمكننا أن نتعايش بمحبة ووئام.. ويمكننا أيضا أن نوجد أرضية صلبة لأجيالنا القادمة تمكنها من أن تكون قوة حقيقية قادرة على أن ترتقي فوق الأمور الخلافية التي تتسبب فيما نراه اليوم وما سنراه في المستقبل من اقتتال طائفي لن يخدم إلا أعداء الأمة المسلمة).

وتقدّم العسيري بمقترح ـ دعوة إلى مؤتمر عالمي (يحضره كبار علماء المسلمين من سنة وشيعة ويتم خلاله إصدار فتاوى وقرارات ملزمة لكل مسلم تحرم وتتبرأ من كل من يدعو إلى تكفير الآخر، أو إلى تغذية الخلاف السني الشيعي أو يسيء إلى الإسلام وصحابته..).

وفي السياق نفسه، قامت صحيفة المدينة في 7 مايو باستطلاع آراء عدد من علماء الشريعة وأساتذة الفقه في عدد من جامعات المملكة، وتقدّمت مراسلة الصحيفة تهاني السالم بأسئلة محددة من قبيل هل أن الدعوة إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية ظاهرة صحية، وكيف لمن أراد التعايش أن يحتفظ بمذهبه دون الذوبان في الآخر، وهل التقريب يعني التنازل عن بعض الثوابت؟.

في إجابة عن الأسئلة تلك، قال الدكتور فهد بن سعد الجهني (أستاذ أصول الفقه المشارك بجامعة الطائف) أن التحاور والنقاش لا يعني أبداً (التنازل عن شي من الحق الذي يعتقده المسلم بناءً على ما صح عنده من أدلةٍ شرعية، كذلك لا تعني التمسك بالقول أو التوجه الباطل على حساب الحق من باب التعصب والمكابرة.) وبخصوص موضوع التقريب بين المذاهب، يفرّق بين المذاهب الإسلامية السنية والتي يرى بأنها مجمعة على (أمرٌ واحد وهو في غاية الأهمية والأثر وهو: الاتفاق في أصول ومنهج التلقي بمعنى أن مصادر التشريع متفقٌ عليها في الجملة ولا خلاف إلا في بعض الجزئيات والتفاصيل الدقيقة)، وبين المذاهب الأخرى والتي يرى بأنه (لا مانع من الحوار والنقاش تحت قاعدة (وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) مع استحضار نبذ التعصب والإذعان للحق إذا لاح بأدلته؛ وأن لا يكون الهم والمقصد هو: الانتصار والغلبة وتسجيل المواقف).

أما الدكتور قيس المُبارك (أستاذ الفقه بجامعة الملك فيصل) فاستعاد ما أكّد عليه دعاة التقريب منذ عقود بأن التقريب بين المذاهب لا يعني أن يتخلَّى كلُّ طرف عن شيء من ما يتمسك به مِن أجل رضا الطرف الآخر، ورجّح خيار (التعايش مع الآخر وعدم الإساءة إليه).

الصفحة السابقة